الاستقلال الروحي
يروي التاريخ عن أحد أئمة الدين أنه عاش طول عمره مؤمنًا تقيًّا يخلص في عبادة ربه، ثم دب في قلبه الشك فلم تطق نفسه وقفة المتردد المرتاب، فكان يدعو الله قائلًا: اللهم ألهمني إيمان العجائز.
وإيمان العجائز هو كما يعرف القارئ إيمان التسليم والتصديق، بل قل هو إيمان الخوف والضعف؛ لأنه إذا لم تكن العجوز خرفة تصدق كل ما يقال لها فلا أقل من أن تكون وجلة تقترب من ساعة الموت وفي قلبها وجيب الخوف، فهي لا تجادل ولا تعارض.
ومما يدعو إلى الاغتباط أننا قد عدونا هذا الطور، فليس منا من يجب أن يلهمه الله إيمان العجائز؛ لأنه يرى هذا دون كرامته الإنسانية وهو يجد في مواجهة الحقائق مع ما فيها من ألم الشك سرورًا لا يجده ولا يحب أن يجده في التسليم بإيمان العجائز.
وليس معنى هذا أننا أقل إيمانًا من السلف الصالح وإن كنا أكثر شكًّا منهم فيما اعتقدوه صوابًا، وإنما نحن نختلف عنهم من حيث إننا أكثر رجولة منهم في مواجهة الدنيا كما هي والسكون إلى حقائقها والاعتماد في كل ذلك على عقولنا لا على ما نؤمر به ويشار به علينا.
كان أسلافنا يؤمرون بالإيمان بأحد الأديان أو العقائد فيطيعون، ولكننا نحن نحاول أن نؤمن بما توحيه إلينا ضمائرنا. نؤمن عفو القلب والعقل ونحن أحرار لا نخشى عقابًا ولا نبالي بحساب سوى حساب الضمير.
ونحن فيما نتعناه ونكابده من هذا الإيمان الداخلي وآلام التردد والحيرة أشرف وأشجع من سلفنا الصالح الذي كان ينشد «إيمان العجائز»، ففي العالم الآن طائفة من الناس قد أخلصت النية لهذا العالم الذي هو وطننا الأكبر، وعرفت موقفها فيه وما عليها من تبعات نحوه، ولكنها مع إخلاصها للعالم تخلص أيضًا لنفسها، وهي ترى من الإخلاص لنفسها أن تنشد الله بما فيها من قلب وعقل، وتتحسس وجوده في هذا الكون بما تهديها إليه بصائر نفوسها.
ولعل أظهر واحد من هذه الطائفة وأكثرهم جهادًا هو المستر ولز الإنجليزي، فلست أعرف رجلًا آخر قد تلظى بنار الحيرة ثم اهتدى إلى ربه وسكن إليه، مضى عليه أكثر من عشرين سنة وهو يحاول أن يستخلص من لباب نفسه إيمانًا يقفه من الكون على علاقة ترضي ضميره وعقله، ولست أظن أن كثيرين من الذين يقرءون المجلدات الأربعة التي وضعها في هذا الموضوع يهتدون بهديه أو يقنعون بدينه، ولكني أعتقد أن هذا الرجل يبدي من الشرف والشجاعة والإخلاص ما هو جدير بكل إنسان.
ولسنا نقول إن ولز ينفرد بهذه النزعة، فإن هناك كما قلنا طائفة كبيرة، وهي وإن كان أفرادها دونه ظهورًا إلا أنهم ليسوا دونه في الإخلاص والذكاء، وهم جميعهم يكرهون أن يؤمنوا إيمان العجائز، بل يحاولون أن يحققوا للإنسان استقلاله الروحي، ولكن كما أن حديث العهد بالاستقلال في السياسة يتخبط في مبدأ استقلاله فكذلك حديث العهد باستقلال الروح لا بد له من فترة تقضى في التردد والتخبط والظلام ثم ينجلي كل هذا عن نظام نور ويقين.
وهذه الطائفة تحاول أن تؤمن، وكثيرًا ما تؤمن، وإن كانت في نظر الناس معدودة من «الكفار»، وهي كافرة بالفعل بتلك العقائد التي ورثها العالم عن قدماء المصريين والآشوريين والفرس، ولكن إخلاصها لنفسها وللعالم يدعوها إلى النظر في الكون نظرًا صريحًا، وإلى محاولة حل هذا اللغز حلًّا تسكن إليه.
فنحن إذا نشدنا الاستقلال الروحي فإنما ننشده للغريزة الدينية التي في نفوسنا، وليس في ذلك تنطع أو استهزاء بالآراء، وإنما هي الإنسانية قد بلغت سن الرشد وتأبى أن يقام عليها وصي من الخارج؛ لأنها تحس أن هذا الوصي قائم في داخل نفوسنا، وهي ترى من الرجولة أن تتحسس وجوده وتحاول الاهتداء إليه.