هذه الدنيا
منذ سنوات مات شاب إنجليزي وهو دون الخامسة والثلاثين، وكان قبل موته بنحو خمس سنوات يعرف أنه قد حكم عليه أن يشرب كأس الموت المرة حوالي هذه السن، فقد كان مريضًا مقضيًّا عليه بالموت، فكان يروح ويغدو وهو عارف بأن الساعة الرهيبة تقترب، وقد خلف هذا الشاب كتابين أو ثلاثة ضمنهما إحساسه بالوجود ورأيه فيه، وتنكر أمام قرائه باسم باربيون.
والقارئ لهذه الكتب يشعر لأول صدمة أن الرجل شقي، فإن عقله كان أحيانًا يهذي بالموت، فكان يخرج إلى الحقول يتنزه فيخطر برأسه خاطر الموت، كالسكين القاطعة يلتوي تحته فيكاد يصرخ ويكاد يعدو ناجيًا بنفسه، ولكن لا نجاة من عدو غير منظور. ثم كان يكشف عن جسمه فيرى بشرته الحمراء والدم يجري دافئًا في العروق، فتسود الدنيا في وجهه عندما يذكر أن هذا الدم القاني سيستحيل قريبًا سائلًا أصفر منتنًا يختلط بتراب القبر وتسبح فيه ديدانه.
أقول إنه يخيل للقارئ أن هذا الشاب كان شقيًّا لهذه الخواطر، ولكني بعد التأمل أقول إن هذا الخبيث كان في غاية السعادة؛ فإنه عندما عرف آخرته، وتعين له على وجه التقريب زمنها، طفق ينظر إلى العالم كأنه مكان غريب يوشك أن يخرج منه، فيجب عليه لذلك أن يرى كل ما يمكن أن تراه فيه ويتمتع بجميع ما فيه من متع ومسرات، فعاش ملء حياته، في تجارب وملذات، وخرج من الدنيا وقد شبع منها بأكثر مما يشبع منها ابن الثمانين أو التسعين. أو قل إنه عاش بسرعة، عيشة الغزال، بينما غيره يعيش ببطء عيش السلحفاة، ويوم واحد من حياة الغزال خير من ألف عام من حياة السلحفاة.
ويخطر ببالي أننا نكون أسعد حالًا لو أننا عرفنا يوم انقضاء أجلنا كما عرفه باربيون؛ لأننا عندئذ نفعل فعله فنكف عن كل ما لا فائدة فيه، ونعمد إلى رؤية هذا العالم والتمتع بمشاهده وتجاربه، ولا يحسبن القارئ أننا ننغمس عندئذ في الملذات البهيمية؛ لأن الإنسان بهيم بطبيعته، وإذا كان البهيم من الأشخاص المضمرة في نفسه فإن الفيلسوف شخص آخر مضمر في نفسه.
ودليلنا على ذلك أن باربيون لم ينقلب بهيمًا يشره إلى الطعام أو النساء أو الخمر بل انقلب فيلسوفًا يخرج في الفجر كي ينظر إلى بزوغ الشمس وتوهج الشرق بأضوائها الملتهبة، وأخذ يعد الأيام بينه وبين الموت فصار يدرس كل شيء تقع عليه عينه في هذه الدنيا، فكان يقرأ القصص الروسية ويشرح البراغيث، وكان يقرأ نيتشه حتى يشعر أنه كلب عضوض، ثم يعرج بعد ذلك على الموسيقى الألمانية فيستكنه سحر الأنغام وطرب الإيقاع، وكان يصعد مع ما هو فيه من أمراض عاتية مضنية إلى قمم الجبال، وكأنه يريد أن يواجه الكون وجهًا لوجه، ثم كان يعود فيكتب مقالًا عن «الرغبة في الخلود» تتوهج ألفاظه بالتفاؤل والمجازفة والرغبة العنيفة بالتجارب والتمتع بالدنيا.
أقرأ مثلًا هذه القطعة منه «يقول تين إننا في الأدب يجب أن نحب كل شيء … وأنا أقول: أجل، وفي الحياة أيضًا يجب أن نحب كل شيء … إن جميع الأشياء في هذه الدنيا تجذبني فلا أستطيع أن أحصر قواي. بل أراني مستعدًا لأن أعمل كل شيء، وأذهب إلى كل مكان، وأفكر في كل شيء، وأقرأ أي شيء … وإنما يقطع الإنسان نفسه من بعض الوجود إذا هو اقتصر على صناعة بعينها أو طريقة للحياة أو مذهب أو فلسفة أو رأي. أنا أكتب للجميع …»
ولكن يجب أن أقطع نفسي هنا عن فتنة النقل المغرية وأقنع بالعظة والعبرة، فإن حياة باربيون على قصرها أملأ بالتجارب والمتع من حياة أي واحد منا، فإننا نعيش أكثر أيامنا عيشة نباتية، كأننا أشجار مزروعة، لا ننتقل إلا فيما بين بيتنا ومحل عملنا، ولا ندرس إلا ما نحصل به عيشنا، فنموت ونجهل عجائب هذا العالم، وليس في هذا العالم شيء تافه إذا سلط عليه الذهن بالدرس، وليس فيه حجر أو حيوان أو نبات إلا وهو صندوق عجائب لا ينتهي الإنسان من لذة المعرفة له. ثم هذه الدنيا بمتحفاتها الطبيعية، بجبالها وأنهارها وحقولها وبما فيها من تحف وطرائف صنعها الإنسان، كلها جديرة بالدرس الذي هو أرقى أنواع التمتع.