روح التسامح
ربما كان القارئ يجهل أن النظام البرلماني إنما يقوم على أساس التسامح وينجح بمقدار ما في الأمة من روح التساهل في الآراء والمذاهب؛ لأن هذا يقضي بحكم الكثرة وخضوع القلة ريثما يدور الزمن وتعود القلة إلى كثرة، فلو تشددت القلة في التمسك برأيها وأبت الخضوع لرأي الكثرة لانهدم النظام البرلماني من أساسه وسادت الفوضى مكانه، ومن هنا تجد أن الأمم العريقة في هذا النظام مثل إنجلترا يختلف أعضاء برلمانها جد الاختلاف في الرأي فلا تسمع من أحدهم كلمة بذيئة في حق الآخر، وهذا على خلاف ما يحدث في الأمم التي جد فيها هذا النظام على أساس استبداد قديم سابق حيث تبلغ الخصومة السياسية حد الضرب والقتل كما كان يحدث إلى عهد قريب بين بعض الأمم التي تعيش في البلقان.
ولكن إذا كان التسامح ضروريًّا لنجاح النظام البرلماني فهو أكثر ضرورة لنجاح سائر مرافق الأمة؛ إذ لا أدب ولا تجارة ولا تعليم إلا بالتسامح، فالأدب لا يرقى، بل لا يعيش، إلا إذا أشرب القراء والكتاب روح التسامح، فإذا كان كل قارئ يقف مستعدًّا كي يضرب كل مؤلف لا يكتب وفق ما هو يهوى، ويؤلب عليه الناس كي يقطعوا رزقه ويحرموه من العيش، لكسر كل كاتب قلمه وأقفرت الأمة من مصابيح الهدى التي تهديها، ولو كان كل كاتب يقف من نفسه «شاهد ملك» ليدل الحكومة على مآخذ كل كاتب آخر ويطلب إليها معاقبته لما بقي في الأمة رجل واحد يكتب، وكذلك لو أننا تشددنا في التجارة وسألنا كل من يعاملنا عن دينه ورأيه لما تبادلنا التجارة مع أحد، ولقد أصيبت أوروبا عند ختام الحرب العالمية الأولى بمثل هذه النزعة فرفضت الاتجار مع روسيا لأنها شيوعية، ثم تغلب عقلها على عواطفها وعادت فتسامحت وتبادلت وإياها المتاجر، واعتبر ذلك أيضًا في التعليم، فهذه نظرية التطور مثلًا تدرس في مدارسنا الآن فلو أن روح التعصب كانت تشمل برامجنا التعليمية لحرم أبناؤنا من درس النظرية العظيمة التي أصبحت مفتاحًا لجميع العلوم والآداب والأديان.
فتقدم العالم يقتضي التسامح، وأساس التسامح هو معرفة المتسامح بجهله، كما أن أساس التعصب هو غرور المتعصب بمعرفته، وليس في العالم حقيقة لا يمكن الشك فيها، أو لا يمكن النظر إليها من وجهتين مختلفتين، حتى إن أينشتاين يشك الآن في البديهيات ويكاد يقول إن مجموع اثنين واثنين ليس على الدوام أربعة.
فإذا كان الشك يبلغ هذا الحد في البديهات فكيف بالبحث في التاريخ أو الاجتماع أو السياسة حين يكون الرأي الجديد مخالفًا للمصلحة الشخصية لبعض الطوائف أو مناقضًا للعادة المألوفة المحبوبة أو مصادمًا لملاذ الكسل التي يأبى المتنعم بها أن ينشط لدرس الجديد؟
فهل لنا أن نطلب إلى الشيخوخة المسنة أن تتمهل وتتسامح مع نشاط الشباب، وأن تعرف أن الأمة تحتاج على الدوام إلى النظر إلى الأمام وإلى المستقبل كما تحتاج أحيانًا إلى النظر إلى الخلف وإلى الماضي؟
لن يضير الأمة أن يؤلف أحد شبابها كتابًا يخالف رأي شيوخها لأن هذا الكتاب ستتناوله العقول بالنقد والتمحيص، فيزول غثه ويبقى ثمينه على مدى الزمن، فلنقتل الكتاب بحثًا وفحصًا، ولكن يجب أن نترك المؤلف فلا نطلب أن نقطع رزقه؛ لأن هذا الطلب الأخير هو من الخطط التي اندثرت بزوال القرون الوسطى حين كانت «محكمة التفتيش» تصادر من تتهمه بالزندقة في أملاكه وتصفيها.
إننا لا نزال جهلة بحقائق هذا العالم، وجهلنا هذا يمنعنا من البت والحزم؛ ولهذا يجب أن نتسامح فيما يقوله غيرنا؛ لأننا لسنا من الثقة بآرائنا بحيث نستطيع أن نقطع بسخافة آراء الغير أو ضررها، ويجب أن نتذكر أن لكل جديد صدمة تشبه ما تلاقيه النفس لأول ما تسمع لحنًا جديدًا، فقلما نستطيب اللحن الجديد لأول سماعنا إياه ولكن الاستطابة تعقب المعاودة، وكذلك الآراء الجديدة تصد عنها النفس كما تصد عن الزي الجديد ثم تستحسنه بالمعاودة والألفة، والتقدم والرقي كلاهما مستحيل ما لم نقبل الجديد ونتسامح فيه.