العلم والأدب
ليس شك في أن عصرنا الحاضر هو عصر العلوم، وأن العصور القديمة هي عصور الآداب، وليس ذلك إلا اطرادًا مع رقي الذهن البشري؛ لأن العقل العلمي أرقى من العقل الأدبي.
وذلك لأن عقل الآداب هو عقل الخواطر السائبة الطارئة وإن كان قد صبغ في عصرنا بقليل من الصبغة العلمية، بينما نجد أن العقل العلمي يتقيد ولا ينساب، ويجيل الفكرة عن عمد لا تطرأ عليه الخواطر الهاملة.
ولكن هناك سببًا آخر — غير الرقي الذهني — لاتسام العصور الحديثة بسمة العلوم، وهذا السبب ينحصر في أن الأمم القديمة كانت أرستقراطية ينتظم فيها نظام الأرقاء والموالي يسودهم ويستغلهم الأسياد والأشراف، بينما زماننا الحاضر زمن عصامي خلو من الرق والولاية، فكان العبيد والموالي يقومون بالأعمال اليدوية، بالزراعة والصناعة، بل حتى بالتجارة، لمصالح أسيادهم، وكانت هذه الصناعات كلها محتقرة لأنها قد اختص بها العبيد دون الأسياد، والعلوم إنما تنمو وتزكو بين الصناعة، ولكن لما كانت العقول المسلطة عليها قديمًا هي عقول العبيد فقط، ولما كان هؤلاء العبيد خلوًا من التربية والمال فإنهم لذلك لم يخترعوا ولم يكتشفوا ولم ترتق بهم الصناعة أو العلم، وكذلك رأى الأسياد والأشراف أنه لا يليق بهم أن يتلبسوا بالصناعة إذ قد اختص بها عبيدهم ومواليهم، ومن هنا نفهم نهي الغزالي للناس عن أن يكونوا حلاقين أو دباغين.
فالعصور القديمة كانت عصور الآداب؛ لأن الخاصة المتعلمة كانت تأنف من ملابسة العبيد في صناعاتهم وتقتصر على درس الآداب، ولكن لما قاطعت الخاصة الصناعات قاطعت العلم أيضًا، إذ إن ميدانه هو ميدان الصناعة؛ لأن رقي العلوم لا يمكن أن يكون شيئًا آخر سوى رقي الصناعة. إلا إذا استثنينا الفلك.
وقد سارت نهضة العلوم الحديثة سيرًا مرافقًا لإلغاء الرق وتحرير الصناعة بل تطهيرها مما علق بها من عار الرق السابق، وشرع «بيكون» عندئذ يناشد الكتاب والمؤلفين أن يدرسوا «الأشياء العادية» ويتركوا المسائل الضخمة من البحث في ماهية الخالق وما وراء الكون ونحو ذلك، وهذه الأشياء التي درسها بيكون هي أساس الرقي الصناعي أي الرقي العلمي الحاضر.
- (١)
أن نهضتنا في مصر أدبية وليست علمية، وهي تخالف في ذلك أوروبا.
- (٢)
أن علة ذلك أن الفلاح والعامل عندنا محتقران.
فإننا قد وضعنا العامل الصناعي والعامل الزراعي في مركز العبد، من حيث قلة الأجر وهوان العيش، بحيث صرنا نتعير من أن نعمل عملهما، والعلوم لا تتقدم إلا بدرس الأشياء العادية، أي بدرس خمائر الجبن أو الخبز أو الكئول أو بدرس أرواث البهائم أو زيوت الوقود أو الأصباغ أو نحو ذلك، وهذه أشياء يتلبس بها العامل الذي نحتقره، فلذلك نحن نحتقرها ولا نحب أن نمسها، وعاد علينا هذا الاحتقار كالسيف القاطع حتى قطعنا عن البحث العلمي، وانصرف شبابنا إلى «الأدب» وصاروا الآن يعنون بقراءة قصيدة أكثر من عنايتهم بوصف طيارة. مع أن صناعة الطيارات أشرف من قرض الشعر، وهي برهان على رقي الذهن العلمي وتفوقه على الذهن الأدبي، فإن الهمج يقرضون الشعر ولجميع الأمم في جاهلياتها القديمة أشعار وقصائد بارعة، ولكن العلم هو ثمرة الذهن الحديث الذي غُذي بأوفر مادة من الثقافة والحضارة.
ثم إن احتقارنا للصناعات قد سد علينا طريق الأعمال الحرة التي هي أساس القوة والثروة عند الأمم الراقية، فيجب علينا إذن أن نعمد إلى نهضتنا الحاضرة فنصبغها صباغة علمية وإلى عمالنا فنرفعهم إلى مستوى يحفظ كرامتهم الإنسانية وكرامة الصناعات التي يزاولونها، ثم بعد ذلك لا نحتاج أن نحث الشبان على طرق أبواب الأعمال الحرة.
ويجب أن نغرس في أذهاننا أن وطن العلوم هو المصانع، وأن الأمة المصرية تنتفع وترتفع إلى أعلى درجات المجد إذا أقبل شبابها على الصناعة، وأن العلوم ترتقي لأنها تجد البيئة الموافقة لها في الصناعة التي تغري العالم بالعلم للمكافآت العظيمة التي تقدمها له، ونحن ما زلنا في طور الزراعة من حيث العمل، وطور الأدب من حيث التفكير وكلا الطورين لا يتفقان والعصر الحاضر، فالزراعة التي نمارسها قد باتت من احتكار «الهمج» في إفريقيا وآسيا وأمريكا، والهمج لقلة أجورهم سيطردوننا من أسواق العالم كما رأينا من مزاحمة أقطان أخرى لقطننا.