أفخر الأثاث
منذ مدة نشر أستاذ إنجليزي كتابًا عن مقياس الكفاية في العائلات فقال إن أفضل ما تقاس به العائلة هو مقدار الأثاث في منزلها ونوعه، فإن الإنسان إذا وقف أمام صورة معلقة على الحائط استطاع أن يحكم على صاحبها ويعرف منها درجة ذوقه وثقافته، فهناك من يعلقون صورة بطلة من بطلات السينما، وهناك أيضًا من يعلقون صورة لفينوس ربة الجمال عند الإغريق، وفرق عظيم بين هاتين العائلتين. ثم هناك أيضًا عائلات لا تعلق على جدران منازلها أية صورة، كأن الفنون التي مضى على الإنسان نحو عشرة آلاف سنة وهو يحاول أن ينقل إليها هواجس نفسه وعواطفه وعقله لم تخلق لها، أو كأن هذه العائلات تعيش في بداوة خاصة بها، مقصورة عليها، في وسط الحضارة العظيمة التي نعيش الآن بين ظهرانيها ونتقلب في نعمتها، وقد يكون هذا الأستاذ مصيبًا أو مخطئًا، ولكن الواقع أننا نحكم على درجة الناس ومركزهم الاجتماعي بأثاث بيوتهم، فلا نبالي بالرجل كم يملك من الأرض والعقارات إذا لم نجد بيته منجدًا على الطراز الذي ندرك منه حضارة أهل البيت وثقافتهم، ولكن أفخر أثاث المنزل، وأدعاه إلى تقدير أصحابه هو المكتبة.
فالمكتبة هي أفخر ما في البيت من أثاث، فإن المقعد الجميل والمنضدة الملبسة بالصدف، والصورة الفخمة، والسجاد الفاخر الذي حاكته الأيدي الفارسية، والستائر السرية والثريات المتلألئة؛ كلها تدل على الذوق العالي والتبصر الحكيم لأصحاب المنزل، ولكن أفخر منها كلها وآنسها للضيف أو لرب البيت هو المكتبة، فإن المكتبة أثاث حي يؤنسك ويستجيب لك ويلبي شهواتك العليا، فأنت تنظر إلى قطعة الأثاث الجميلة فتغذو عينك بجمالها، ويلذك رؤيتها، ولكن الكتاب ليس جميلًا فقط، بل هو يتسرب إلى ذهنك فيجعل ما تملكه من هذا الكون ملكوتًا عظيمًا، ويبسط نفوذك إلى أوسع مدى يستطيعه هذا الذهن، ويكبر شخصيتك حتى تملأ هذا الفضاء كله، وحتى ليس به مكان يخرج عن استعمارك واحتلالك، فأنت بكتب التاريخ مثلًا لا تقصر عمرك على سبعين أو ثمانين عامًا تعيشها على هذه الأرض، بل تذهب بخيالك إلى ملايين السنين الماضية وآلاف السنين القادمة، فتشعر عندئذ بكبرياء وعظمة أنت جدير بهما؛ لأنك تاج التطور، ولأن جميع الأحياء على هذه الأرض دونك في هذه الذاكرة التي جعلها الكتاب تمتد بنا إلى ملايين السنين الماضية. ثم انظر في كتب السياحة أو العلوم أو الآداب أو الأديان تجد نفسك تشرئب وتتطلع إلى حقائق هذا الكون، وذهنك يلتمع بالخواطر والأفكار التي تهبط على هذه الحقائق وتمسها أو تكاد فترى عندئذ أنك تستعمل ذهنك في أشرف ما يمكن إنسانًا أن يستعمل فيه ذهنه، وهو التسلط على هذا العالم بكشف حقائقه.
والمكاتب والكتب إنما هي محاريب الثقافة الإنسانية، وليس شك الآن في أيامنا هذه وخاصة عند الأمم الأوربية من أن الجامعة الحقيقية التي يمكن جميع الناس أن يتخرجوا منها علماء راسخين إنما هي الكتب، كما قال كارليل.
وقد أصبح لهذا السبب من أكبر ضروب البر والعناية بالخدمة العامة أن يتصدق الأغنياء بالكتب والمكاتب المجانية.
ولكن هذه المكاتب العامة لا تغني عن المكاتب الخاصة، ففي كل بيت يجب أن تخصص أجمل غرفة كي تكون محرابًا للسكان يغشونها في أوقات فتورهم ونشاطهم ويجدون فيها من الكتب الفاخرة لهوًا وفائدة وأغراء يحول دون غوايات هذا العصر، فإن المغرم بالكتب يراها مهواته، يقتنيها للقراءة أو للاستشارة، وينفق على تجليدها وتزيينها ما ينفقه غيره في البطالة المفسدة على القهوات أو في الإكباب على الشراب أو نحو ذلك من المغاوي الكبرى.
ومما يذكر عن المستر «مكدونالد» رئيس الوزارة الإنجليزية السابق أنه وهو ينتقل من منزل إلى منزل آخر وضع الحمالون أكداس الكتب التي يتألف منها جزء من مكتبته وسط إحدى الغرف فتحطم السقف تحتها لوفرتها وثقلها، فكان هذا خبرًا يروى عنه كأنه إحدى مفاخره.
وحبذا المفخرة يفخر بها الشاب أمام إخوانه إذا دعوه إلى القهوة فاعتذر بلزومه منزله؛ لأن مكتبته أفخر أثاثًا من القهوة وآنس منها للنفس وأوفر لهوًا وفائدة، وحبذا المفخرة أيضًا لربة البيت تفخر بها أمام ضيوفها وتبرهن لهم على ثقافة السكان وعلو منزلتهم، ونحن أبناء القرن العشرين قد تحضرنا وتثقفنا وارتقينا على آبائنا وجدودنا، فلم نعد نقنع من المنزل بسجاده وكراسيه وموائده، فإن لنا كبرياء يدفعنا إلى أن نحترم أكرم ما في أجسامنا وهو الذهن، بأن نغذوه بأجمل الكتب في أفخر المكاتب.