الروح الإنجليزية تتطور
اجتمع منذ أسبوعين مؤتمر مؤلف من كهنة الكنيسة الإنجليزية وقرر فيما قرر تنقيح كتاب الصلاة الإنجليزي، فأنقص منه، وزاد ونقح فيه بالتبديل والتعديل، فمن ذلك مثلًا أنه استبدل الحب بالطاعة، التي كان يفرضها الكتاب السابق على الزوجة لزوجها، ومنذ أكثر من ١٥ سنة التأم مؤتمر آخر مؤلف من كهنة الكنيسة الإنجليزية أيضًا وقرر قبول نظرية داروين.
ولسنا بسبيل الفحص لهذه التنقيحات فإننا لسنا أهلًا لها، وإنما لنا العبرة؛ لأننا نعيش في هذا الشرق الذي يكره التبديل والتنقيح ويطلب منا أن نعيش كما كان يعيش آباؤنا منذ ألف عام، وأن نتكلم لغتهم بلا تبديل أو تعديل، وأن نعتقد عقائدهم.
فهؤلاء الإنجليز الذين يملكون نحو ربع الدنيا، والذين هم بلا نزاع من أرقى الدول، يكرهون الجمود حتى في دينهم، فالصلاة تتطور معهم لأن روحهم تأبى الجمود كما يأباها ذهنهم، فاللغة الإنجليزية التي يكتبها المؤلفون الإنجليز الآن تختلف اختلافًا عظيمًا عن اللغة التي كان يكتبها شكسبير قبل ٣٠٠ سنة، ونزعة الآداب الإنجليزية الآن تختلف عما كانت في أيام ولتر سكوت قبل مائة سنة، والإنجليزي في معيشته الآن يختلف عما كان قبل مائة سنة، وأقل ما في هذا الاختلاف أنه يعيش الآن بالصناعة وكان قبلًا يعيش بالزراعة.
فالإنجليزي قد تطور في لغته وآدابه ومعيشته وها هو ذا يريد الآن أن يتطور في صلاته وفي علاقته بربه، وهذا يدل على أنه يفهم الحياة أكثر منا وأنه يفطن لأهم نواميس الحياة وهو التحول والتطور.
وما أحرانا نحن بأن نفقه هذه العبرة، فهؤلاء الإنجليز متقدمون راقون، يسودون العالم ويغلبون كل من يعارضهم في تنازع البقاء؛ لأنهم لا يجمدون ولا يلزمون حالة واحدة.
ولسنا نظن أنه يمكن أحد الشرقيين أن يقترح تنقيح صلاته كما يفعل الآن الإنجليز، وهو لو فعل لعد كافرًا، وبات بذلك طريد أهله وملته، ولكن هذا لا يمنعنا من أن ننشد التطور في النواحي الأخرى لحياتنا الاجتماعية والاقتصادية، فنحن الآن نعيش مثلًا على أبواب نهضة كبيرة تنقلب فيها معايش الناس من الزراعة إلى الصناعة، ومن الأدب إلى العلم، كما انقلبت في تاريخ الإنسان الماضي قبل سبعة آلاف سنة من البداوة إلى الحضارة، فإذا لم نتمش مع هذه النهضة، وإذا لم يقبل شبابنا على الصناعة ويضع من الآن أسسها الوضيعة، سبقنا العالم فلا نستطيع عندئذ اللحاق به. ثم هذه الزراعة التي نمارسها الآن في حقولنا قد عرفها الهمج في العالم، وصار الغربيون يمارسونها في الأراضي البكر على مساحات واسعة، يزرع الواحد منهم نحو خمسين أو ستين فدانًا، ولا قبل لنا نحن أن نزاحم هؤلاء بزراعتنا، وعلى ذلك يجب أن نعرف أن زراعتنا مقضي عليها إذا لم نجعلها فنية قائمة على الفواكه والخضروات، وصناعية قائمة على الغزل والنسيج والتجبين.
فزراعتنا يجب أن تتطور حتى تكون صناعية. ثم هذا الأدب الذي يمارسه شبابنا هو أدب بال قائم على الألفاظ والزخارف، فيجب أن يتطور حتى يصير أدبًا علميًّا غايته البحث عن معايير جديدة للحياة والسعادة.
ثم معيشتنا يجب أن نتناولها بالتنقيح والتبديل حتى توافق بيوتنا شروط الصحة والجمال، وحتى لا نحتاج إلى أن نهجرها إلى القهوات والحانات، كي ننسى حياتنا فيها بعض النسيان، وأيضًا يجب أن نتذكر المرأة التي هي الأم والمربية والعشيرة فنرفعها إلى مستوى المرأة الأوربية حتى تكون بذلك إنسانًا نأتنس به في بيوتنا، وحتى تكون حكيمة مدبرة يمكنها تربية أولادها والإشراف على مصالحهم إذا مات زوجها.
وإذا كان الإنجليز لا يتهيبون من التنقيح في الصلاة التي يتقدم بها الإنسان لربه، فإننا يجب ألا نتهيب من التنقيح والتبديل في معايشنا، فنعمل لتحرير المرأة وتعليمها الحرف التي يمكنها أن تعيش منها، ونعمل لحث الشباب على درس العلوم وممارسة الصناعات، ونعمل أيضًا لحث جميع الناس على اصطناع المخترعات الجديدة، فنركب الطيارات بدل الحمير التي كان يركبها أسلافنا قبل عشرة آلاف سنة، ونخترع ونكتشف ونتقدم للعالم بحصتنا من المجهود في ترقيته؛ لأننا نعيش الآن ونحن عالة عليه، في الاختراع والاكتشاف، وليس ذلك إلا لأننا نلزم السنين القديمة والطرق العتيقة.