ماري
في سنة ١٨٨٣ ماتت فتاة روسية تدعى «لاري بشكير تسف» وهي في الرابعة والعشرين من عمرها بعد أن أكل التدرن رئتها وبرزت أضلاعها كالقفص الفارغ.
وللتدرن من الآلام البطيئة ما يبعث السأم في النفس ويصدها عن ضروب التمتع ويحبب إليها الموت، ولكن ماري كانت بعكس ذلك تحب الحياة وتشتهي البقاء، وقد تركت في مذكراتها اليومية صورة قوية لهذا الجوع الذي كان يحثها على أن تلتهم العالم التهامًا، وهذا العطش الذي كان يدفعها إلى أن تذوق حلو الحياة ومرها، وهي في اشتهائها للبقاء لم تكن تخضع لشهوات الدنيا، بل كانت تسمو وتتشوف إلى أرفع ما في هذا العالم من مطامع وأغراض.
كتبت مرة في مذكراتها تقول: «يبدو لي أنه ليس هناك أحد يستطيع أن يحب كل شيء كما أحبه: يحب الفنون الجميلة والموسيقى والرسم والكتب والاختلاط بالناس واللباس والترف، أو التفزز والهدوء والضحك والدموع والحب والحزن والادعاء والثلج والشمس … إني أحبها كلها وأعجب بها كلها … وأحب أن أرى هذه الأشياء بل أمتلكها وأعانقها وأندمج فيها ثم أموت في طرب هذه اللذة (لأني لا بد أن أموت بعد سنتين أو بعد ثلاثين سنة) حتى أعرف سر هذا الختام بل سر هذه البداية.»
وكتبت مرة أخرى تقول: «إني أحسد العلماء حتى أولئك المهزولين الذين يكسو وجوههم الشحوب والقبح.»
وتصيح مرة أخرى في مذكراتها حين تقول: «ما الزواج وولادة الأولاد؟ أليست الغسالات أنفسهم يقدرون على ذلك؟»
وهذه القطعة الأخيرة تدل على أن ماري قد احتقرت أشياء لم تكن دون ما تحب من حيث لذة الاختبار وبلوغ السعادة، وربما كان احتقارها هذا علة كبرى للأسى العظيم الذي كان يتملكها ويملأ أحيانًا فؤادها غضبًا وحنقًا.
وقد كان يقال إن الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، وكذلك يمكننا أن نقول من مثال ماري هذه ومن مثال باربيون الذي سبق فذكرناه إن الدنيا جميلة لا يرى جمالها إلا من أوشكوا أن يغادروها، ففي كلتا الحالتين نرى أن باربيون وماري يتعلقان أشد التعلق بالحياة، يريدان أن يستوعبا كل ما فيها من لذة أو متعة، كما يريدان أن يختبرا خيرها وشرها ويقفا على كل ما يمكن علمه من علومها وآدابها وفنونها، وما ذلك إلا لأنهما عرفا أن المرض يوشك أن يقطع بينهما وبين هذه الدنيا، فانكبا عليها وانغمسا في درسها وفهمها.
وما أحرانا ونحن بعد في صحتنا أن نعرف لهذه الدنيا قيمتها فنقبل عليها ونتمتع بها، فندرس علومها ونسيح في أرجائها ونستكشف أسرارها قبل أن يحملنا هذا التيار الجارف الذي يحمل جميع الأحياء إلى محيط الأبدية، وإنما يكون إقبالنا عليها ونحن بعد في شبابنا، قبل أن تستولي الشيخوخة علينا وقبل أن تتكون لنا عادات تمنعنا من هذا الدرس والتمتع، ولكن يجب ألا ننسي أن التمتع ضروب عالية وسافلة، فمن الناس من يتمتعون بالنهم للطعام أو النوم بعد الظهر أو نحو ذلك من الملاذ التي كان باربيون وماري يترفعان عنها ويجدان أن الحياة أقصر من أن تنفق ساعاتها في مثل هذه الملاذ الخسيسة، فإن النوم يضعنا في صف النبات من حيث الوعي بهذا العالم، ويغيب أذهاننا التي هي أقوى أدوات تمنعنا، فيجب لذلك أن نأخذ منه بأقل مقدار يكفي لصحتنا. أما النهم فأليق بالحيوان منه للإنسان.
وخلاصة القول إننا ما دمنا نعيش في هذا العالم فإننا يجب أن نتمتع به وأن نتأنق في تمتعنا حتى لا نخرج منه إلا وقد شبعنا مما فيه من اللذات السامية ووقفنا على ما يمكننا من أسراره، وبعبارة أخرى يجب أن نحيا على الأرض لكي نعيش ونختبر ونتعلم لا لنقضي عليها حياتنا في سبات الغفلة كأننا نوع من الأشجار.
وكذلك يجب أن نحذر تلك الحياة الضنينة التي يقصر المجهود فيها على تحصيل العيش والمبالغة في الإثراء، حتى يصبح صاحبها كأنه فرس العربة، بينه وبين العالم غمامة تغم على عينيه فلا يرى إلا ما أمامه، فإنما الحياة الوفيرة، تلك الحياة التي يقول بها السيد المسيح، تقتضي أن نتمتع بالنواحي العديدة التي تعرض لنا من هذه الدنيا، وهذه الناحية لا تنحصر في تحصيل العيش.