أعجوبة الطفولة
إذا قوبل الطفل بعجائب العالم كان أعجبها وأدعاها إلى التأمل والاعتبار، فقد كان ابن سينا يعجب بالإنسان ويقول إن العالم الأكبر قد انطوى فيه، وكان شكسبير يقول إن الطفل أبو الإنسان، فإذا ضممنا القولين قلنا إن العالم أو الكون كله قد انطوى في الطفل.
وإذا نظرنا إلى الطفل من حيث إنه اختراع للطبيعة ألفيناه من أغرب المخترعات، فنحن إذا اخترعنا آلات جديدة صنعناها كلها على غرار واحد كأنها أتومبيلات تخرج من مصانع فورد، ولكن الطبيعة تخترع الأطفال وكل منها على مثال نفسه لا نظير له، فأنت إذا نظرت إلى مائة طفل فكأنك تنظر إلى مائة اختراع جديد ليس واحد منها يشبه الآخر.
وفي كل واحد من هؤلاء الأطفال قد انطوى تاريخ الإنسان — لا بل الأحياء كلها — في الماضي، وأنت لو أدمنت الملاحظة وألححت في استقراء حركاته وتتبع أصواته وبدواته لرأيته يتكشف عن أطوار الإنسان الماضية طورًا بعد طور، ولكنه ليس صحيفة مطوية للماضي فقط، إذ لو كان كذلك لما استحق أن يسمى اختراعًا جديدًا. كلا، فإنما هو اختراع جديد من حيث إنه صحيفة جديدة للمستقبل.
فكل طفل يأتي إلى هذا العالم بشيء جديد، لم يكن له وجود من قبل، زيادة على ما ورثه من أسلافه، فالحيوان القديم الذي كان أحد جدودنا المحترمين، مضمر في جسم الطفل وعواطفه، ولكن الفيلسوف أيضًا مضمر في ذهنه.
ومن هنا صعوبة تربية الطفل، فإن العالم كله يحتفل الآن بمضي مائة سنة على وفاة رجل التربية المشهور بستالوتسي، فيجب إذن أن نقول كلمة عن تربية الطفل.
وصعوبة الكلام في هذا الموضوع هي لهذا الشيء الجديد في الطفل؛ لأنه لو كانت أطفالنا تخرج على غرارنا بلا زيادة لكان لنا الحق في أن نتبسط معهم ونكسبهم كل آرائنا وننبههم إلى ما عرفناه من خير وشر، ولكنهم شيء جديد في هذا العالم، قد تطورت بهم الحياة طورًا جديدًا وعبرتنا إليهم مرتقية صاعدة وتركتنا في الخلف.
فنحن نقف بإزاء الطفولة الجديدة موقف الجهل، فكيف إذن نربي الأطفال ونكسبهم آراءنا واعتقاداتنا؟ إننا إذا فعلنا ذلك كان افتياتنا على الطبيعة عظيمًا جدًّا لأننا نحاول بذلك أن نصوغ هذا الطفل، الذي هو العالم الأكبر، على غرارنا. كأننا نحن غاية التطور وتاجه، وكأن ليس في إبداع الطبيعة أحسن منا ولا أرقى، وكأننا نعرف ما أضمرته الطبيعة لمستقبل الإنسانية كلها في هذا الطفل فنتغلغل إلى ضميرها ونحاول أن ننقح في أغراضها وغاياتها.
كلا، فإنما التربية الحقيقية هي أن نقف من الطفل كما قال كوربتكين موقف التعجب فقط. لا نمس أغراضه أو آراءه إلا بالاحتياط الشديد حتى ينشأ على طابع نفسه وعفو طبيعته، وإنما علينا فقط أن نغذوه كما نغذو الشجرة، نهيئ لها الوسط الذي تبلغ فيه أعلى مقدار من نموها بدون أن نعوق غصونها بوضع الحواجز والعوائق.
فلنهيئ للطفل غذاءه بل غذاءيه: غذاء الجسم من الطعام السليم وغذاء الذهن من الثقافة الحسنة. ثم بعد ذلك نتركه لكي يختار جسمه وذهنه من هذين الغذاءين ما ينموان بهما ويزكوان في نموهما، وليس لنا بعد ذلك أن ندخل في أخلاقه نقومها، ولا في آرائه نمليها عليه، ولا في اعتقاداته نغرسها في قلبه، فإن ذلك كله بمثابة وضع الحواجز لغصون الشجرة والاعتياض من عفو طبيعتها تكليفها شكلًا خاصًّا لم تقصد إليه.
ومن الجناية أن تقوم أخلاق الطفل لأنه ليس عندنا ما يثبت أنه معوج يحتاج إلى التقويم، ولا من الإنصاف أن نملي عليه رأيًا قد يكون مضمرًا في نفسه الجديدة ما هو أصوب منه وأسد، وليس من الحق أن نغرس فيه عقيدة قد يأتي هو بخيرٍ منها، فواجبنا إذن أن نتركه ينمو حرًّا، نزوده بما يشتهي من غذاء صحيح سليم، نعرض له ثقافة الأمم كلها يختار منها ما يشاء. أما العقائد والآراء فيجب أن يترك فيها حرًّا حتى يأتي فيهما بالجديد فتتطور روح الإنسان بذلك كما يتطور جسمه.
ويجب أن نتذكر أننا مهما حاولنا تنشئة الطفل في حرية الرأي والعقيدة فإنه سيتلبس بحكم وسطه ولغته وثقافته بآراء الغير وعقائدهم، فالجديد فيه سيكون مع ذلك قليلًا، ولكن هذا القليل ثمين جدًّا إذا نظرنا إليه في ضوء التطور، فإن العالم لا يتقدم بما يرثه الخلف عن السلف، بل بما يجدده الخلف على السلف ويرتقي به عليه.
فالطفل هو العالم الأكبر، فلنحذر إذن من أن نفتات على هذا العالم الأكبر بأن نملي عليه طريق تطوره ورقيه.