التفاؤل والتشاؤم
إذا نحن أهملنا من يستحق الإهمال، وهو الرجل القانع بحاله الراضي بمعيشته، فإننا نجدنا في هذا العالم بإزاء رجلين: أحدهما متفائل يرى الخير أو يرجوه وآخر متشائم يرى الشر أو يتوقعه.
وأنت إذا راجعت هذا المتشائم وناقشته ألفيته متفائلًا وإن لبس السواد، له وجه عابس ولكن نفسه تبتسم؛ لأنه هو في الواقع لا يتشاءم إلا لأنه يطمع ويرجو ويرى في الإمكان أفضل مما هو كائن، ولكنه يرى من العوائق ما يحول دون تحقق الرجاء، فهو يغضب ويعبس لا لأن الطبيعة البشرية سيئة قد تأصل فيها السوء، إذ هي لو كانت كذلك لما كان ثم مجال للتشاؤم أو الغضب، فنحن مثلًا لا نغضب من الرصاص الذي لا يستحيل ذهبًا، وإنما هو يغضب لأنه يرجو التحسن فيجد عوائق تمنع هذا التحسن.
فالمتشائم متفائل من حيث لا يدري، تتشوف نفسه إلى الرقي والعلا، وتشوفها هذا دليل على ما في النفس البشرية من الخير والرجاء لأن نفسه هي مع تشاؤمه نفس إنسان، وما فيه من رجاء وتسام نحو الرقي يرجعان إلى ما في هذه الطبيعة البشرية التي يتشاءم هو بها عندما يفكر في مستقبلها ويرجو من خير ورجاء.
ومعنى ذلك أن المتشائم ثم والمتفائل يرجوان الخير ويتساميان إلى الرقي بفرق واحد، وهو أن الأول يرى أن العوائق كثيرة تمنع تحقق الرجاء، والثاني يرى أن هذه العوائق يمكن تمهيدها.
وهذا الرجاء، وهذا التسامي، كلاهما برهان على سمو الطبيعة البشرية، وأنها غير قابعة بحالها بل ترمي على الدوام إلى ما هو أسمى منها، تريد أن تنسلخ من ثوبها القديم راجية أن تتجدد في ثوب جديد، وهذا المتشائم الذي يعبس للدنيا ويسيء الظن بالإنسان يحسن به الظن أيضًا من حيث لا يدري لأنه ينتظر أكثر مما يراه منه، ومعنى ذلك كله أن الرقي في الإنسان هو حقيقة منشودة إن لم تكن حياة واقعة؛ لأن الطبيعة لم تغرس هذا الرجاء في قلوبنا عبثًا، وإنما غرسته لكي تدفعنا على الدوام إلى التجدد والتطور، وما هذه القناعة التي يصاب بها بعضنا إلا نوع من المرض يشبه تلك الراحة التي تلي الإعياء الشديد أو تسبق الموت الأخير، فهي حال غير طبيعية في الإنسان قد تصاب بها أفراد أو أمم وعندئذ تحق عليهم كلمة الفناء.
فأما حال الإنسان الطبيعية فهي ذلك الرجاء الذي يتوهج بالصحة والسرور والنشاط، أو ذلك الاستياء المقدس الذي يدعو صاحبه إلى الغضب وكراهية الواقع مع محاولة تحقيق الأماني والأحلام.
ونقول بعبارة أخرى إننا إذا استكنهنا روحنا وبلغنا منها اللباب نجد أننا أبعد ما نكون عن الجمود وأشوق ما نكون إلى الرفعة والسمو، وإن تاريخنا في المستقبل لن يختلف عن تاريخنا في الماضي من التطور من أدنى إلى أعلى، وذلك لأن في كل منا غريزة للرجاء لا تقل عن أية غريزة أخرى قوة ودفعًا للنشاط، وفي كل منا أيضًا شهوة للتطور لا تقل عن أية شهوة أخرى، بل يبلغ من قوتها أحيانًا أنها تدفعنا إلى التضحية بأنفسنا أو إلى مكابدة العذاب لأجل تحقيق غاية قصدت إليها الحياة عن سبيلنا.
وبهذه المناسبة أذكر قولين لعظيمين من عظماء البشر، أحدهما بولس الرسول المسيحي المشهور، فقد وصف هذا الرجل الأمم الوثنية التي زارها بأنها «لا رجاء عندها» وكان بالطبع يقيس رجاءها بما في نفسه من الرجاء الكبير للمسيحية وهي بعد في فتوتها التي تغلبت بها على هؤلاء الوثنيين اليائسين، والثاني هو برنارد شو الأديب الإنجليزي المعروف، إذ يقول: إن الدراما الصحيحة لا يمكن أن تكون مأساة لأن في الحياة من الرجاء ما يجعل كل مأساة سخيفة بعض السخف؛ ولذلك فإننا لا نطيق رؤية المأساة البالغة إلا في صورة «أوبرا» أي درامة موسيقية، وذلك لكي يغفل ذهننا عما فيها من سخافة بما فيها من طرب الموسيقى.