أغانينا
أليق الأوصاف للأغاني التي نغنيها وأكثرها ورودًا على ألسنة الكتاب حين ينعتون أحد المغنين بالبراعة والتبريز وصفهم أصواته بأنها «مشجية»، ولم يكن من العبث أو السهو إطلاق هذا النعت على أغانينا لأنها، على الدوام، كما يدل معنى الشجى، محزنة، وهذا الحزن يبدو في هذه الألحان الممطوطة التي تشبه البكاء والعويل بحيث لو سمعها غريب عن لغتنا لاعتقد أننا نندب ولا نغني، وقل مثل ذلك أيضًا في ألحان الموسيقى ونغماتها، فإنها تتساوى وأغانينا، إذ هي مشجية تستثير فينا الحزن وتستخفنا إلى الطرب الذي يتولد في النفس من الأسى والشقاء، ومصداق كلامنا يتضح إذا عرفنا أن بعض المغنيين إذا غنى، كذلك بعض الناس إذا سمعه، ترقرق الدمع في أعينهم، وانكسرت قلوبهم وصاحوا جميعًا «آه»، وهل يتأوَّه الإنسان إلا من وجع وحزن؟ وهذا القول يتضح أكثر إذا قابلنا أغانينا بأغاني الأوروبيين وقارنا حالة النفس المصرية عقب الغناء أو الموسيقى بحالة النفس الأوروبية، فالأغاني الأوروبية تبهج النفس وتستخفها إلى طرب الفرح، حتى ليشعر المستمع أن أعصابه تنفزز ويود لو يقف ويرقص. أما أغانينا فتستخفنا إلى طرب الحزن حتى لنود أن نبكي ونشعر كأننا نأسف على ما فات ونخشى ما هو آت.
وليس شيء في العالم يدل على حالة الأمة النفسية أنين غامها وموسيقاها؛ لأن الألحان تعبر عن النيات المتمكنة في النفس، وهي تنبع منها عفوًا كما ينبع منها البكاء والضحك، وإنما غلب الحزن و«الشجى» على أغانينا لهذا الظلم الطويل الذي قاسيناه في أكثر من ألف سنة مضت حتى أصبحت نجوانا إلى الله والدهر نجوى المحزون اليائس. وإنه لمما يدعو إلى التأمل، ولا يخرج عن موضوعنا، أن يتلبس «الدهر» الذي ليس في معناه في الأصل سوى الزمن بمعاني الكوارث والنكبات.
أجل، لقد قاسينا عذاب الولاة والحكام الجائرين في القرون الماضية حتى صرنا إذا أردنا أن نشدو ونغني بكينا وندبنا؛ لأن العالم يبدى لنا قاتمًا، إذا خلونا إلى أنفسنا انطلقت هذه الأنفس التعيسة بالبكاء والندب وتجاوب القيثار والمزمار صدى أحزاننا فردها إلينا ألحانًا نكاد نحس فيها بنشيج الباكي الولهان وآهات الموجع المحزون، ولكننا نرى الآن أنه قد آن لنا أن نغير أغانينا وألحاننا وذلك لأن نفوسنا التي كان يرهقها، ظلم المماليك العبيد من أكراد وأتراك قد تحررت وازدهى العالم في وجهنا بعد القتام، فجدير بنا أن تكون أغانينا مفرحة مبهجة تملأ نفوسنا تفاؤلًا ونشاطًا وتجعل شبابنا يتفزز إلى العمل والأمل بدلًا من هذه الأغاني والألحان الحاضرة التي تكرب نفوسنا وتكبتها وتشل فينا الأمل وتحثنا على البكاء.
ولسنا نعني بذلك أن تكون أغانينا مقطوعات مضحكة، وإنما نعني أن تكون طبق الحياة، فيها المحزن والمضحك كما أن فيها الألم والفرح؛ لأنه إذا لم تكن الحياة مهزلة فهي ليست أيضًا مأساة، وإنما هي دوامة عادية تختلف فيها الوقائع والعواطف، ولكن كما أن المريض يجب أن يفكر في الأمل أكثر مما يفكر في الألم كذلك يجب أن تتشرب أغانينا وألحاننا الموسيقية روح التفاؤل والبهجة والرغبة في الرقي، ولا يكون ذلك بتأليف القصائد التي كان يغنيها مغنونا إلى عهد قريب في مدح عبد الحميد وعباس، وفي تلحين القصائد القديمة لابن الفارض وأبي فراس، وإنما نريد من شعرائنا أن يؤلفوا القصائد من الكلام المصري العذب الذي هو وليد ألسنتنا وقلوبنا لا من الكلام الجافي الذي دونه الزمخشري في معجمه قبل ألف سنة، ولقد كان كونفوشيوس يقول: لست أبالي بمن يسن للناس شرائعهم. ذلك أن للأغاني تأثيرًا في النفس قد يكون أبلغ من تأثير الشرائع. إذ الأغنية تخرج من المعنى لحنًا يتبطن النفس وتنزل كلماتها منها منزلة الطبع.