الحق والقوة
القوة هي الحق، وإذا كان الحق ضعيفًا فليس بحق، ولبيان ذلك نقول ونضرب المثل ببريطانيا والهند.
فالعرف الشائع بين الكتاب، وخاصة كتاب الهند، أن بريطانيا قوية والهند ضعيفة، ولكن الحق مع الهنود لأنهم ينشدون استقلال بلادهم والباطل مع الإنجليز لأنهم يعتدون على هذا الاستقلال.
ولكن لماذا يكون الهنود ضعفاء وهم ٣٠٠ مليون نفس ويكون الإنجليز أقوياء وهم أقل من ٤٠ مليون نفس؟
إن الهنود ضعفاء لأنهم يمارسون صنوفًا عديدة من الباطل في بلادهم بين بعضهم البعض، والإنجليز أقوياء لأنهم يمارسون صنوفًا عديدة من الحق في بلادهم بين بعضهم البعض، فالإنجليز يتساندون ويتناصرون فيما بينهم، بحيث تصير كتلتهم على صغرها متماسكة، في حين أن كتلة الهنود الكبيرة على ضخامتها تبقى متفككة، ولهذا إذا اصطدمت الكتلتان تغلبت الصغرى لمتانتها على الكبرى لخراعتها.
ولكن هذه الكتلة الإنجليزية الصغيرة إنما تتماسك وتتناصر وتقوى لما يمارسه أفرادها من فضائل، فهنا ترى في إنجلترا التعليم العام يضني الأغنياء بالضرائب الباهظة وبالتبرعات لتعليم الفقراء. بينما في الهند طبقات الفقراء نجسة إذا وقع ظل أحد رجالها على رجل من البراهمة ذهب يتوضأ ويغتسل كأن الأبالسة قد لمسته، وفي إنجلترا يعيش الملك في حدود الدستور ولكن في الولايات المستقلة في الهند يعيش الراجوات والمهارجة وهم يقتنون الجواهر لزينتهم بمال الأمة الذي كان يجب أن ينفق على تعليمها وصحتها ورفاهيتها، وفي إنجلترا لا يقل دخل العامل الإنجليزي عن مائة جنيه في السنة في حين أن دخل العامل الهندي قد لا يزيد على أربعة جنيهات في السنة، وللعامل في إنجلترا بيت صحي جميل تسهر الحكومة على العناية به وتعاقب المالك إذا أساء بناءه، وفي الهند يعيش العامل في خص من القش، فإذا طولب الإنجليزي بالدفاع عن وطنه لبى الطلب لأنه يدافع بذلك عن أشياء ثمينة تمسه مساسًا شخصيًّا، أما إذا طولب الهندي بالدفاع عن الهند نظر المسكين حوله فلا يجد أنه يملك من هذه الهند الكبيرة شيئًا قليلًا أو كثيرًا، ثم هو يجد أن البراهمية يغتسلون منه إذا مسوه أو خاطبوه أو وقع ظله عليهم، وبينما يعرف الإنجليزي أنه إذا مرض ستعنى أمته بمعالجته، يعرف الهندي أنه إذا مرض سيعنى الموت باختطافه، وبينما يعيش كل إنسان في إنجلترا وهو حر في عقيدته يعيش المسلمون والحرب سجال بينهم وبين الهندويين والدماء تسفك بينهم من أجل بقرة تذبح.
فالإنجليز في الهند يدافعون عن باطل، وهو الاعتداء على استقلال الهنود، ولكنهم لم يبلغوا هذه القوة من الدفاع عن الباطل إلا لأنهم مارسوا الفضائل في بلادهم. حتى قام التناصر مقام التخاذل، والعلم مقام الجهل، والحرية مكان الاستعباد، والتسامح مكان التعصب، فهم لذلك أقوياء حتى في باطلهم، ولكن الهنود ضعفاء الآن في حقهم، ولم ينزلوا إلى هذا المقام من الضعف إلا لأنهم مارسوا الرذائل في بلادهم حتى صاروا يتناحرون من أجل بقرة، وصاروا يستنجسون أبناء بلادهم من أجل الآلهة القديمة التي خلقها الإنسان، وصاروا يضنون بالمال لتعليم إخوانهم الفقراء أو معالجتهم أو العناية بمساكنهم.
وليس ضعف في العالم إلا وهو بعيد كل البعد عن الحق، وليس حق في العالم إلا وهو قوي، وقد تلتبس علينا أمارات الحق والباطل ولكن القوة تلازم الحق على الدوام، ومن مصلحة الإنسان أن تفوز القوة، وذلك على الأقل كي يخشى الإنسان الضعف ويتوقاه، فمن مصلحتنا نحن المصريين مثلًا أن نعرف أن الهنود عوقبوا على ضعفهم باستيلاء الإنجليز على بلادهم، حتى نتوقى هذا الضعف فلا نذل عمالنا كما أذل الهنود عمالهم، ولا نتقاتل من أجل العقائد، ولا نترك حكامنا يستبدون بنا، ولا نفتر في المجاهدة كي نكون أقوياء بجميع ضروب القوة من مال وجمال وعلم وأخلاق.
والقوة لا تقوم إلا على الفضائل، حتى صحة الجسم تحتاج إلى ممارسة العفة والقناعة والاعتدال، وحتى ضعف الجسم يحتاج إلى ممارسة الرذائل من انغماس أو تهتك أو نهم أو نحو ذلك، فما من ضعف تتهم به أمة إلا ووراءه صنوف من الرذائل قد مورست مدة طويلة حتى أحدثت هذا الضعف، وما من قوة تتصف بها أمة، حتى القوة الجسدية الغشيمة، إلا ووراءها صنوف من الفضائل قد مورست أيضًا مدة طويلة، فالحق لذلك يجري على الدوام مع القوة؛ لأن كل قوي لم يبلغ قوته إلا للزومه الحق بلزومه الفضائل التي جعلته قويًّا.