كيف وماذا نقرأ
الناس رجلان: أحدهما يحتال للانتفاع من وقته، كأنه يجعل من الساعة ساعين، والآخر يحتال لإضاعة وقته بحيث يحيل الساعة إلى نصفها أو إلى العدم، وهناك وسائل عديدة عند هذا الفريق الأخير لقتل الوقت وتضييع الفرص وتقصير العمر، حتى لتشعر من إتقانهم معرفة هذه الطرق أنهم يندمون على أنهم قد ولدوا إلى هذا العالم، ويمكنك أن تحيل النظرات في القهوات وتدرس بعض الألعاب حتى تتأكد أنها كلها تمارس هربًا من الحياة وسآمة من الدنيا وندمًا على الوجود.
لسنا بسبيل الكلام مع هؤلاء وإنما نريد أن نتحدث إلى الفريق الأول الذي يحتال للانتفاع من وقته، والذي لا يندم على وجوده في هذا العالم، فمن ضروب الانتفاع بالوقت واكتساب القوة بإثارة الذهن نجد القراءة في المكان الأول، وقد كانت القراءة من وسائل الرقي في الأزمنة الماضية ولكنها كانت من الوسائل الثمينة التي لا ينالها إلا المبالغون في الجد وأبناء الأثرياء. أما الآن فهي ميسرة للجميع لا يتكلف طالبها سوى أقل المال أو لا يتكلف شيئًا مطلقًا.
وسيأتي زمن ما يعيش فيه الإنسان ليقرأ ولا يكاد يجد عملًا في العالم يكده ويملأ فراغه. بل يمنح كل وقته تقريبًا لمثل القراءة والدرس.
ولكن كيف يجب أن تكون القراءة؟ هل يجب أن نسير فيها ونسلك سبيلها على النحو الذي يسلكه لاعب النرد أو الشطرنج، تزجية للوقت وفرارًا من الحياة، فنقرأ القصص تلو القصص وعشرات المقالات «السياسية» يرادف معناها في الواحدة معاني الأخرى؟
كلا، إنما يجب أن نقرأ لننتفع، فالمعرفة قوة والجهل عجز، فلنقرأ إذن كي نعرف ونزداد علمًا بالأشياء، كي نزداد بذلك إدراكًا للحياة وإحساسًا بها، وليس في مقدرة كل منا أن يختبر جميع شئون هذه الدنيا اختبارًا مباشرًا، إنما في مقدورنا جميعًا أن نكتسب علمًا بها عن سبيل الآخرين الذين اختبروها وأثبتوا اختبارهم بأقلامهم لمنفعتنا.
ومعنى هذا أنه يجب أن يكون لكل منا مكتبة في منزله، وأن يعد الكتب من ضروب الأثاث الضروري للمنزل، بل هي أكثر ضرورة من بعض الأثاث الذي ترتكم به بعض المنازل في غير منفعة سوى الفخر الكاذب والأبهة السخيفة، فالكتب هي أثاث الذهن ينقلب فيها ويرتاح إليها ويستفيد منها ويستنير بمعارفها.
فيجب إذن أن تعمل عقولنا في انتقاء الكتب والمجلات والصحف، فلا نقتني إلا ما ينفعنا ولا نقرأ إلا ما هو ضروري لنا، مما يرفعنا فوق مستوانا وينير أذهاننا ويزيدنا قوة، وخير أنواع التربية حين يربي الإنسان نفسه، فيقيس كفاياته وقدر ما يحتاج إليه من التثقيف؛ لأنه عندئذ يحسن التقدير ويسير مع هواه في انتقاء المواد، والهوى من أعظم الوسائل في تسهيل الصعب وتمهيد الوعر، ومن الناس من لا يسعده الحظ بتربية مدرسية وافية ولكنه يجد من وقته الوسيلة لتربية نفسه بالكتب والمجلات إذا هو ثابر على القراءة وأحسن الاختيار في اقتناء الكتب، وليست المدرسة إلا البداية للتربية الحقيقية فهي تغرس في النفس (أو يجب أن تفعل ذلك) تلك النزعة التي تجعل كلًّا منا طول حياته طالبًا للعلم ساعيًا وراء الثقافة.
ولن يكون ذلك إلا بالكتب وتقليبها والنظر فيها واعتياد التنقيب والبحث. هذا إلى نزعة موفقة تحملنا على الجد والمنفعة لا التسلية وإضاعة الوقت، ولسنا نقول إن قراءة الصحف السياسية تخلو من الفائدة، وإنما نقول إن الإدمان عليها مع تكرار معانيها تضييع للوقت والمال معًا، فلنقرأ من التاريخ والشعر وسائر فروع الأدب والعلم ما ننتفع به وتزكو به عقولنا ويعظم به إحساسنا للحياة، فقارئ التاريخ يضيف إلى عمره أعمار الأجيال الماضية وقارئ كتب السياحات يضيف إلى وطنه أوطانًا أخرى، والتعمق في العلوم يزيد الإنسان بصيرة.