قصيدة الحياة
أتاح لي الحظ الحسن أن أجالس عظيمًا إنجليزي المولد وطني العالم، عرضت معه تاريخ حياته فكانت كالقصيدة العصماء تخرج منها من بيت سري إلى آخر أسرى، وتجتاز بالموقف الشريف إلى موقف أشرف وأنصع، وهذا العظيم هو السير «ويلكوكس».
وحياة السير ويلكوكس قصيدة لا تتخللها أدنى ركاكة أو تفاهة عاش إلى الثلاثين في الهند، وكان يشتغل بالهندسة، وبشيء آخر لا يزال يشتغل به إلى الآن وهو يحبو إلى الثمانين، أعني به البر، فالسير ويلكوكس رجل يحترف البر منذ شبابه إلى الآن. كان وهو مهندس في القرى الهندية يعالج المرضى ويغسل لهم جروحهم بيديه ويحادثهم عن المسيحية ويحادثونه عن البرهمية، وهو لا يزال للآن ذلك الرجل البار القديم يعمل في أحد المستشفيات في القاهرة يخفف آلام المرضى وينفق من ماله القليل على أرواحهم وأجسادهم.
وهو مع أنه إنجليزي يؤمن بفائدة الإمبراطورية البريطانية، فإنه وقف موقف الخصم لحكومته التي اتهمته بالقذف والفتنة كي يدافع عن مصلحة مصر في مياه النيل، فهو إنجليزي بمولده ولكنه يدافع عن الحق ولو كان على بلاده.
فهذا بيت مجيد من أبيات هذه القصيدة العصماء، ولكن حياة ويلكوكس كلها جهاد في الحق والبر وكلها تجارب سامية. نشأ في الهند ثم قدم إلى مصر، فوجد الفلاحين يسخرون بلا أجر في حفر النهر، فعمل على إلغاء التسخير ورفع عنا وصمة قديمة وألمًا فظيعًا كان يعانيه آباؤنا. ثم انتدب تقرير الضرائب فسار بها بالعدل بين الملاك، ثم سافر إلى خط الاستواء بين الزنوج في البحث عن مياه النيل، ووضع الترسيمات للخزان، وانتدبته حكومة العراق لدرس أحوال الري فقام أيضًا بهذه المهمة، وهو الآن في شيخوخته الهنية يخدم المرضى ويواسي المنكوبين.
فأية حياة في العالم أحفل من هذه الحياة بالجهاد في سبيل الحق والخير وفي خدمة الإنسان، هنديًّا كان أم مصريًّا أم إنجليزيًّا؟ إنها حياة مملوءة بالتجارب السامية. رأى صاحبها خط الاستواء وحره المزهق وناسه الهمج كما رأى ثلوج إنجلترا وحضارتها الراقية، ورأى الهند كما رأى مصر والعراق، وله ضمير كلما عاد إليه أذكره ببره للفلاح الهندي أو المصري فيرتاح للذكرى ويأنس إلى هذه النفس السخية التي ناداها الحق فاستجابت لندائه واصطرع فيها جو العالم وباطل الوطن فآثر العالم على الوطن. إن في حياة معظم الناس، وفي أخلاقهم، من الجبن والأنانية ما يجعلنا نكره الناس، ولكن في حياة ويلكوكس ما يجعلنا نؤمن بالإنسان وننظر للمستقبل بعين الرجاء حين يصير الحق غاية والعالم وطنًا وخدمة الإنسان الغرض الأسمى من الجهاد.
وينوء السير ويلكوكس الآن بهمين ثقيلين من همومنا المصرية، الأول أن الفلاح المصري يزرع الأرض ولا ينال أجرًا يسيرًا على كده وكدحه، والثاني أننا لا نكتب بلغتنا العامية دون العربية القديمة، وهو يقول بوجوب تحديد الإيجارات بنسبة الضرائب، وأيضًا بتدوين العامية حتى يتيسر للفلاح أن يقرأ بأقل عناء، وليس شك في أن الرجل ينوي الخير لنا في كلا القولين، وقد عاش في مصر أكثر من ٤٥ سنة، ومارس من شئون الفلاحة والري ما لم يمارسه كثيرون منا، وعرف الفلاح القديم الذي كان يعمل مسخرًا والفلاح الحديث الذي خرج في سنة ١٩١٩ يقطع السكك الحديدة ويطلب الاستقلال، ولكني أنا لا أبالي بآراء السير ويلكوكس مقدار ما أبالي بحياته، فهذه الحياة يجب أن تكون قدوة لكل منا؛ لأن هذا الرجل قد عاش تلك الحياة الوفيرة، حياة العمل والجهاد للحق والعدل والخدمة للناس، واحتفظ بصحة الشباب في سن الثمانين وتمتع بأرقى ما يتمتع به الإنسان الراقي من التجارب والاختبارات.