كيف نربي أنفسنا
نحن نعيش مرة واحدة في هذه الدنيا فمن واجبنا أن نعيش فيها أحسن عيش مستطاع، نسكن أجمل المنازل، ونقرأ أفضل الكتب، ونأكل أشهى الأطعمة، ونتمتع برؤية الأقطار المختلفة، ونزداد بتقدم العمر حكمة وصحة وتجارب وعلمًا.
ولكننا لن نستطيع هذه المعيشة ما لم نعمد إلى أنفسنا فنربيها ونعودها العادات التي تساعدنا على الرقي؛ فإن الجسم الإنساني سريع الطاعة للعادة ينقاد إليها ويؤديها عن رضا وارتياح، وأنت عندما تقرأ سيرة أحد العظماء تعجب لوفرة أعماله وتتساءل: كيف توافر له الوقت أو أسعفته صحته، أو كيف أخلص له أصدقاؤه حتى أمكنه أن يؤدي هذه الأعمال كلها؟
ولكن الواقع أن الوقت والصحة والفرص متوافرة لنا جميعًا، وإنما تضيع منا لأننا قد اعتدنا عادات سيئة، فهذا الرجل يرجع فشله في الحياة مثلًا إلى أنه يضيع كل يوم من وقته نحو الساعتين في الركود على القهوة وهو قاعد كأنه الماء الآسن، لا حركة ولا تفكير ولا همة، تخرج منه أنفاس الدخان في كسل وتراخ كأنه يريد أن يموت، فهذا رجل لا يتمتع ولا ينتفع بالحياة ولا ينفع غيره.
وثم رجل قد اعتاد عادات سيئة في الطعام، يأكل كثيرًا فينام كثيرًا، ويسمن ويكره الرياضة فلا يقوى على عمل مفيد، فهذا آخر يعيش كالنبات لا يتمتع ولا ينتفع بالحياة.
وثم رجل قد اعتاد مخاصمة الناس، فهو في نزاع دائم مع كل من يعرف، يقضي وقته في قيل وقال وفي مشاغبات في المحاكم، وهو منغص مشغول في غير شاغل مفيد طول حياته.
فهؤلاء وأمثالهم قد اعتادوا عادات سيئة تقصيهم عن التمتع بالحياة بأرقى معاني التمتع، وقد يموت أحدهم في سن الستين أو السبعين وعقله في مستوى عقول الصبيان، لم يتهذب بثقافة ولا بسياحة. لو عددت ما قضاه من الوقت على القهوة في فارغ الشئون لبلغ عدة سنوات من عمره.
فنحن إذن في حاجة إلى أن نربي أنفسنا، ونعتاد منذ الصبا أو الشباب عادات تلزمنا مدى حياتنا فتزيد سعادتنا ومنفعتنا لأنفسنا ولغيرنا، وأهم هذه العادات تلك التي تحفظ لنا صحتنا مدى حياتنا، فإنه لا هناء ولا تمتع بلا صحة، وقد قيل إن من الناس من يحفر قبره بأسنانه لكثرة نهمه، ولكننا نعرف الآن أن الصحة تضيع بأشياء أخرى غير الطعام، منها قلة الرياضة ومنها اعتياد الشراب أو سائر المخدرات.
ثم نحن في حاجة إلى اعتياد الدرس بموالاة القراءة، فإن الميزة الحقيقية التي تميز الإنسان على الحيوان هي أنه حيوان مثقف، وكل محروم من الثقافة هو من الانحطاط بمثابة الحيوان، وإذا نحن عشنا بلا ثقافة لا نقرأ ولا نفكر في تاريخ هذه الدنيا ومصيرها وعلومها وآدابها، فإننا نعيش عيشة حيوانية، فيجب أن نغرس في أنفسنا عادة الدرس ونعيش مدى حياتنا طلبة مجدين في جامعة الدنيا.
ثم يجب أن نعتاد الرفاهية فلا نقنع بالدون من أي شيء، لا في المسكن ولا في الطعام ولا في الشراب، والفنون الجميلة نفسها لا يبعثها في نفوسنا سوى نزعة الرفاهية بل نزعة الترف، فيجب أن نتأنق في الحياة ونعتبر المعيشة فنًّا جميلًا نمارسه بذكاء وذوق، والعبرة على الدوام بالنزعة فما دمنا نتأنق في المسكن والمطعم والملبس فإننا نتأنق فيما نقرأ، فلا نرضى لأنفسنا قراءة كتاب سخيف أو صحيفة خليعة، كما لا نرضى بأن نعمل عملًا ناقصًا غير متقن لأننا نتأنق في كرامتنا.
وأخيرًا يجب أن نعتاد المعاشرة الحسنة مع الناس، وخاصة مع عائلاتنا، حتى لا نعيش منغصين محسودين فيذهب مجهودنا العصبي في غير فائدة وتزيغ أبصارنا عن طرق الخير والمنفعة.
وفي كل منا غرائز حيوانية إذا استسلمنا لها أنهكت قوانا واختصرت أعمارنا وعشنا بها كالبهائم، فلا بد أن نعود أنفسنا عادات الاعتدال فيها حتى تتوافر لنا من أبداننا قوة تقوم بالغايات العليا من الدرس والمنفعة
والتمتع بالمتع الأنيقة السامية التي لا يستطيع الحيوان أن يتمتع بها؛ لأنها من احتكارات الإنسان وبرهان رقيه.
يجب أن نرتب حياتنا بحيث نستغلها إلى أقصى ما فيها ولا يتيسر لنا ذلك حتى نعتاد عوائد حسنة في ادخار الوقت والتوفر بها كلها على الدرس والسياحة وخدمة الناس والعمل لرقي الهيئة الاجتماعية التي نعيش بين ظهرانيها بترقية العلوم والفنون.