هزيمة الأدب السخيف
«نهضتنا نهضة أدبية بينما المدينة الحديثة علمية خالصة، فنحن نعيش في واد والغربيون في وادٍ آخر، لا نأبه إلا للآداب، ونهمل العلوم إهمالًا فاضحًا فأدى ذلك إلى تقهقرنا وانحطاطنا، فإن كل شيء يقوم الآن على قواعد العلم، حتى الأدب لا يمكنه أن يستقيم إلا إذا كان له أساس من العلم وذلك علة تقهقرنا في الآداب التي قصرنا عليها اهتمامنا، فإن أدباءنا إلى الآن لا يطرقون الموضوعات الاجتماعية العلمية فيدرسون حالة فلاحنا دراسة علمية ويطلبون إصلاح حاله مثلًا، بل هم يؤلفون عن عصور الخلفاء وإعجاز القرآن بينما نحن نجهل حقيقة الحركة العرابية مع أن التاريخ أصبح الآن علمًا بكل ما في كلمة علم من معانٍ، والأدب أصبح علمًا يقوم على أساس من العلوم الكونية والطبيعية وعلى المشاهدات المحسوسة لا على الأوهام والخرافات.
وها هم الأوروبيون يريدون أن يجعلوا من كل شيء علمًا، فهذه الفلسفة ما تقدمت حديثًا إلا حين انسلخت عن الآداب وأدخلت في دائرة العلم لها ما لغيرها من العلوم من معامل وتجارب ومقارنات وبراهين، وهذا علم النفس صار من زمن بعيد علمًا له معامل كسائر العلوم وبلغ من التقدم أنه صار أساس الأدب الحديث، فكل الروائيين والشعراء الآن علماء نفس بلا مبالغة، بينما أدبنا ليس له أساس إلا علم الخرافات. صارت الفلسفة علمًا والأدب علمًا. كذلك قل في السياسة والصحافة والتاريخ ولا نزال نحن هنا نعيش في القرن الثاني للهجرة نفسر الألفاظ وننشد المرائي والمدائح بينما الأوروبيون يقلبون ظهر الأرض باختراعاتهم واكتشافاتهم فهم يحاربون الأمراض ويعملون على تقريب اليوم الذي يصبح المرء فيه في مأمن منها كلها، وهم يخترعون الغازات السامة بينما دأبنا الكلام الأجوف في كل شيء نطالب به.»
•••
ولا تظن أيها القارئ أن ما قرأته هنا هو من قلمي وإن كنت قد اعتدت مني على مثل هذه اللهجة حتى السأم، ولكنها منقولة من كاتب يجب أن تحبه هو «حسن عارف» ويجب أن تشجعه على المضي في هذه النزعة الشريفة التي يراد منها الخير لبلادنا، فنحن منكوبون حقًّا بالأدب السخيف. أدب الألفاظ واللعب واللهو ودرس السلف، كأننا أمة بدوية تعيش في وسط الصحراء ولا تتصل بالحضارة الحديثة ولا يهمها إلا قصة رويت قبل ألف سنة أو بيت شعر هو نكتة من نكات المغفلين.
وقد أثلجت صدري هذه المقالة التي تدعونا إلى هجران الأدب السخيف والنزوع إلى العلم، وقلبت الجريدة التي بها هذا المقال فرأيت مقالًا آخر عن المستر فورد خلاصته أنه ينوي أن يجدد مصانعه بحيث تخرج في اليوم، أجل في اليوم الواحد، ١٢٠٠٠ أتومبيل، فكانت هذه المقالة الثانية برهان صدق المقالة الأولى وأكبر دليل على أن النزعة العلمية هي التي تعمل للرقي بينما النزعة الأدبية كما هي في بلادنا لا تعمل إلا للانحطاط.
منذ سنة أو أكثر مات رجل إنجليزي يدعى الأستاذ بري، ألف كتابًا غريبًا يبحث عن فكرة الرقي والتقدم، كيف نشأت ومتى نشأت؟ فإنك إذا استقريت أحوال الأمم القديمة لا تجد لهذه الفكرة أثرًا إذ هي حديثة جدًّا قد لا يزيد عمرها عن مائتي سنة، والذي يبدو للباحث أن هذه الفكرة الشريفة التي تجعل الإنسان ينزع إلى تحسين نفسه وبلدته ووطنه لم تنشأ إلا من المخترعات العلمية، فإن الإنسان ابن العادة، فإذا هو رأى التبديل والتحسين في الآلات نزع به ذلك إلى التفكير في التبديل والتحسين في المؤسسات العمرانية، فالعلم هو أساس فكرة التقدم والإصلاح، أما الأدب فما كان له هذا الفضل قط، ولهذا السبب أصبح أدباء أوروبا علمًا، بل منهم من لا تعرف هل تسميه بالعلم أو الأدب، مثل مايترلنك مثلًا، فإنه يؤلف كتابًا عن «الأرضة» وكيف تعيش وبعد ذلك يؤلف درامة عن المسيح.