تربية الكبار
ليس الصبيان وحدهم ولا الشبان وحدهم هم الذين يحتاجون إلى تربية، والفرق بين الاثنين أن الصبي أو الشاب يحتاج إلى معلم يعلمه ويرشده أما الكبير فيجب أن يربي نفسه، وأذكر بهذه المناسبة رجلا قد ربى نفسه ونجح في تربيتها، أعني به المستر ولز الإنجليزي، فقد كتب يصف أحد أبطاله وأظنه كان يصف فيه نفسه بقوله:
«كان في عقله من التفزز ما يكسبه حرارة ودقة، وكانت له مع ذلك ابتكارات ونزعة سخيفة، وكان يحب الكلام والكتابة، وكان يتكلم عن كل شيء وكان يفكر في كل شيء، ولم يكن في وسعه أن يمتنع عن تشمم أثرك وهو يتبعك، فكان هو يتشمم أثر الحقائق، وكثيرون من الناس يعتقدون أنه مفيد منير، وقليل منهم لا يطيقونه وكان حافلا بالأفكار عن السلالات البشرية والإمبراطوريات والنظام الاجتماعي، والمؤسسات السياسية، والحدائق والأتومبيلات ومستقبل الهند والصين، وفلسفة الجمال وأميركا وتربية النوع البشري على وجه العموم.»
وولز رجل فوق الستين ولكنه دائب الدرس والتفكير والتأليف، وقد تطور في الثلاثين سنة الماضية، وأعتقد أنه سيتطور في المستقبل، وتطوره هذا يدل على أنه يربي نفسه وهو كبير بل وهو شيخ، وإذا نحن تتبعنا بعض مؤلفاته منذ شبابه إلى شيخوخته علمنا مقدار تطوره ومقدار عنايته بنفسه في تربية نفسه.
فقد بدأ حياته بكتاب عن تشريح الأرنب وبعض الحيوانات؛ لأنه هو نفسه تربى تربية علمية، ثم عمد إلى الأدب فكتب بعض القصص والمقالات ومنها مقالة هزأ فيها بالاشتراكية والقائلين بها، ثم بعد ذلك بسنوات عاد فألَّف أحسن كتاب في الاشتراكية يدعو إليها ويوضح أنظمتها، ويقول بضرورتها مع أنه هو إنجليزي، ووضع تاريخا ضخما للعالم باعتباره أمة واحدة.
ولاح أمامه درس جديد وهو النفسلوجية الحديثة التي ابتدعها فرود فدرسها، وألّف قصة بل قصصا عنها، حتى آخر النظريات التاريخية الحديثة القائلة بأن مصر هي أصل حضارة العالم أخذ يدرسها، وينصح لقراء قصصه بقراءة مؤلفات إليوت سمث مبتدع هذه النظرية.
فهذا كاتب يتطور مع الزمن ويدرس كل شيء من الأتومبيلات إلى مستقبل الصين، ومن تنظيم الحدائق إلى فلسفة الجمال ولا يبالي بأن يغير رأيه ودرسه متى لمح قبسا من الحقيقة.
فهذا كاتب يتطور مع الزمن ويدرس كل شيء من الأتومبيلات إلى مستقبل الصين، ومن تنظيم الحدائق إلى فلسفة الجمال ولا يبالي بأن يغير رأيه ودرسه متى لمح قبسا من الحقيقة.
وما أحرانا نحن بأن نتعهد أنفسنا بمثل هذه التربية فنعيش مدى حياتنا طلبة في جامعة العالم ندرس ونتفقه في حقائقه، ونتطور في الآراء والمذاهب وننظر في هذه الحضارة التي نعيش بين ظهرانيها، فندرس حقائقها وأحلامها وأديانها وآلاتها ومؤسساتها.
والدرس نوع من التوسع؛ ولذلك فإن طالب المعرفة كطالب المال لا يشبع لأن كلا منهما يشعر بنوع من السيادة في هذا التوسع يشبه الملوكية؛ إذ له شيء من كبريائها وكرامتها، ولكن قلما تجد رجلا يعمد إلى الدرس والتثقف ما لم يكن قد نزع هذه النزعة وهو شاب؛ ولذلك فإن تربية الرجل كبيرا تحتاج إلى تربيته صغيرا بحيث ينزع نزعة الدرس.
- أولهما: أن نغذوه بالمعارف العامة.
- والثاني: أن نغرس فيه هذه النزعة إلى التوسع الذهني بحيث يكون هو المعلم لنفسه في المستقبل حتى يدأب في تربية نفسه وهو كبير.
وإنه لمن المآسي العظمى أن يرى الإنسان شابًّا أو شيخًا وهو قاعد «يَقْتُلُ» الوقت لأنه لا يعرف كيف يشغل ذهنه بما يفيده ويرفعه من اكتساب المعارف والتفكير في حقائق هذه الدنيا التي هي وطننا الأكبر، والتي يجب على كل منا أن يدرسها ويبحث في تنظيمها وتخليصها من الأغلال القديمة.