الإيمان يرقي الإنسان
لما أوشكت الثورة الفرنسية أن تقع، وانشق الناس فريقين فريق كبير هو الأمة كلها تقريبا، وفريق صغير هو الملك والنبلاء، كان بين هؤلاء النبلاء رجل يدعى المركيز دو كوندورسيه، وكان مع أنه نبيل نشأ في بيت له تلميذ في النسب والحسب قد انضم إلى الشعب، فأخذ يعاون رجال الموسوعة في نشر الأفكار الحرة، ويعمل على تقويض الطبقة التي ينتسب إليها، وصار ينفق ماله وجاهه وعلمه لكي ينبه الشعب إلى الثورة.
وجاءت الثورة فاختلط فيها الجنون بالعقل، وقام الناس على النبلاء يقتلونهم وينهبون أموالهم وكان المركيز دوكوندورسيه من هؤلاء النبلاء له شارتهم وعليه سماؤهم، فكان على الرغم من حبه للشعب وسعيه لإنقاذه من الجهل والظلم معدودا بينهم فقتله الثائرون ونهبوا أمواله.
والآن قد تظن أيها القارئ أن هذا الرجل قد مات يائسا من تقدم الشعب ورقيه إذ أعطاه صحته وذكاءه وماله، ولم يأخذ عوض ذلك شيئا ثم قتل على يديه، ولكن الواقع أنه عاش ومات مرتاح البال يؤنسه رجاء عظيم، هو رجاء التقدم المطرد للنوع البشري، فقد كتب قبل وفاته يقول:
«لم تضع الطبيعة حدودًا لآمالنا وحسبنا أن نتخيل تقدم النوع البشري، بعد انطلاقه من السلاسل، وهو يسير بقدم ثابتة عن طريق الحق والفضيلة والسعادة فنجد من هذا المنظر ما يعزي الفيلسوف إلى الأخطار والجرائم والمظالم التي لا تزال تدنس وجه الأرض وتنزل بها المصاعب.»
بمثل هذه العقيدة مات المركيز كما يموت الشهيد من أجل عقيدته الدينية بفرق واحد بينهما، وهو أن الأول يريد الجنة في هذا العالم ويعمل لتحقيقها، والثاني ينتظرها في عالم آخر بعد الوفاة، وليس شيء يخفف عنا آلامنا، ويزكي في أعيننا تلك الكوارث العديدة الحافل بها تاريخ الأمم سوى هذا الإيمان بأن العالم يتخلص بالتدريج من الأوهام والمظالم، فيخرج من الإيمان بالأساطير إلى الإيمان بالعلم، ومن الاستبداد إلى الدستور، ومن المرض إلى الصحة ومن الضعف إلى القوة.
ثم مثال هذا النبيل الفرنسي يخفف عنا أيضا ما نجده في أيامنا من قوى تعمل للشر وتناهض ما فينا من خير وبر، فإن صيحة الإصلاح التي تصيح بها على ما فيها الآن من ضعف ووهن ستفوز في النهاية؛ لأن الرقي طبيعة البشر التي لا محيد عنها، وليس البرهان على ذلك بعيدًا عن الإثبات أو مستعصيًا على الأفهام، فإن نظرية التطور نفسها هي نظرية الرقي؛ ولذلك أطلق عليها اسم «نظرية النشوء والارتقاء» عند ما نقلت إلى لغتنا، فإذا كان تاريخ ألف مليون من السنين يدل على الرقي في الماضي فمن التعسف أن نحسب أنه انتهى وانقطع بوجودنا، فإن عناصر هذا الرقي كامنة في كل منا، حتى المنتحر نفسه إنما ينتحر لأن نفسه تنزع إلى الرقي، والمجنون نفسه يجن بأشياء تحمله على أجنحة الرقي والعظمة فيتصور نفسه ملكًا أو أميرًا أو عظيمًا.
فالرقي كامن في نفوسنا ينطق به تاريخنا الماضي، وهذا هو ما يؤنس قلوبنا ويجعلنا نرضى بالتضحيات كلما سمعنا عن الاستبداد يبطش بالدستور، أو الظلم يجور على الحق، أو البغض ينتصر على الحب، أو الأثرة تفوز على الإيثار، وسنرى هذا الوطن كما نرى غيره من أوطان العالم حرًّا تعيش فيه الأمهات حرائر متعلمات ويعيش فيه الرجال علماء أيقاظًا يدرسون هذا العالم ويتمتعون به ويقصرون همومهم على إسعاده، ولولا هذا الإيمان بأن العالم يرتقي لما كان لحياتنا معنى أو مبرر للبقاء، وفي هذا الإيمان قوة تؤاتينا على الخير والبر. ثم في ذلك كله شعور بالسعادة لأننا نؤدي عملًا يرتاح إليه ضميرنا ويتفق وما في صميم نفوسنا من نزعات، وهذا بخلاف ما إذا عملنا للشر وناهضنا التقدم، فإننا نشعر بأننا نكافح في نفوسنا نوازع الرقي؛ فيأخذ اليأس مكان الرجاء، ونقيم حياتنا على مضض وعنت.
فكلنا يجب أن يكون هذا المركيز دوكو ندرسيه يعمل لرقي الشعب ويؤمن بهذا الرقي، فإنه حقيقة لا شك فيها، وأول ما نرى برهانه في أنفسنا؛ إذ لا يمكننا أن نفكر في ترقية الناس ما لم نرق نحن أولًا، ولا عبرة بعد ذلك بالعوائق فإن النهر العظيم لينحرف بعض الانحراف في مجراه ولكنه بالغ مصبه.