في الحب
من القصص العظيمة التي مثلها المستر اتكنز في القاهرة قصة «تاجر البندقية» وفيها يخاطب اليهودي المسيحيين الذي يتعصبون عليه ليهوديته فيقول موضحًا لهم أن اليهودي لا يختلف عن المسيحي:
«أليس لليهودي عينان؟ أليس لليهودي يدان وأعضاء وحواس وعواطف وشهوات؟ أليس يطعم بالطعام ويجرح بالسلاح نفسه وتنزل به الأمراض نفسها ويشفى بالوسائل، ويدفأ ويبرد في الصيف والشتاء كالمسيحي؟ أليس يخرج منا الدم إذا وخزنا؟ وألسنا نضحك إذا جمشنا ونموت إذا سممنا؟»
وما أحرانا بأن نذكر كلمة هذا اليهودي حين يطمو بنا التعصب القومي أو الديني؛ فنحن كلنا إخوان في هذه الدنيا، وخير لنا أن نتحاب من أن نتكاره؛ لأننا بالحب نستطيع أن نتعاون، وبالحب نستطيع أن نعمل ما لا نعمله بالبغض والكراهية.
ويقص الإنجليز قصة يستخرجون منها عبرة الحب، وهي أن أحدهم خرج في يوم قد كثف ضبابه، والأشباح تتجسم في الضباب حتى يهول منظرها على بعد، فرأى وهو سائر في طريقه شبحًا كبيرًا مخيفًا فارتاع منه، فلما اقترب منه قليلًا تبين له أنه رجل، فلما واجهه عرف أنه أخوه، وهكذا نحن في هذه الدنيا، نحسب الناس غرباء عنا فنخشاهم ونتوجس منهم، ولكن الواقع أننا نحن وهم إخوان بل أخوة قد اتصلت دماؤنا بدمائهم، فإذا حسب المصري مثلًا وأحصى مقدار ما دخله من دماء الأمم الأجنبية في نحو أربعين قرنًا مضت لوجد أنه خليط من الدم الروماني والعربي والإنجليزي والفرنسي والسوري والصيني والتركي.
فنحن لسنا أبناء مصر فقط بل أبناء هذه الدنيا، وإذا كانت مصر وطننا الأصغر فالعالم وطننا الأكبر، ويجب لذلك أن يكون الحب والتعاون وسيلة التعارف والمعاملة بيننا وبين الناس، سواء أكانوا مصريين أم غير مصريين، وبهذه المناسبة نذكر كلمة للمشترع الإنجليزي المعروف بنتام حيث يقول: «إن سبيل الراحة لنا هو أن نعمل لراحة الآخرين، وسبيل الراحة للآخرين إنما يكون بأن نبدو لهم كأننا نحبهم، وإنما نبدو لهم كأننا نحبهم إذا أحببناهم بالفعل.»
وهذا كلام صريح وحقيقة تتضح لكل من اختبر الناس، فإننا لا يمكننا أن نرتاح إلى الدنيا والناس ما لم تكن علاقتنا بهم علاقة الحب، وراحتنا لا تقوم إلا براحتهم.
ولكن الوحش القديم لا يزال للأسف حيًّا في الإنسان، فما زلنا نفكر في التنازع بدلًا من أن نفكر في التعاون، ولا يزال التنازع للآن خطة التعامل الرسمية بين الدول، وأفظع ضروب هذا التنازع هو الحرب، ولكن العالم كله يسير من التباغض إلى التحاب ومن التنازع إلى التعاون وينهزم الوحش في الإنسان رويدًا رويدًا، ففي العالم الآن محاكم تحاكم أمامها الدول، وفي كل أمة متمدينة جمعيات تتعاون على البر وتنشر العلم والصحة وترفع الكرامة الإنسانية.
ولا عبرة بعد ذلك بأن تبقى في عصرنا أشياء من متخلفات الماضي، كالاستعمار والسجون والرق الاقتصادي، فإن كل هذا سيزول لأن الحب سيتغلب على البغض وسنرى، أو يرى أولادنا يومًا ما، حل الإمبراطورية البريطانية واستحالة السجون إلى مدارس ومستشفيات وارتقاء العامل إلى حيث يملك كل ثمرات عمله بدون أن يكون فوقه واحد يعيش من كده ولا يعمل شيئًا لفائدة الناس.
ولكن الحب للأفراد فيما بينهم ليس في ذاته صدقة يتصدق بها الواحد على الآخر، بل خطة تعود بالراحة والسعادة على من يمارسه، فهو لذلك يستحق الثمن الذي ندفعه بما نكلف أنفسنا من معاونة الناس وإبداء الحب لهم بخدمتهم الخدمة النزيهة التي تدل على أن ما نظهره لهم هو طبق ما نبطنه.