الفتاة الحديثة
عندنا في مصر طبقة من الكتاب إذا أعورتهم مادة الكتابة عمدوا إلى موضوع المرأة فنعوا عليها تبرجها وفسادها وانحطاطها، وقد ألف القراء منهم هذه النغمة فلم يعد يبالي بها واحد منهم، وقلما يقرأ أحد هذه المقالات الكثيرة التي تملأ الصحف بها أعمدتها عن المرأة لأن موضوعها ومضمونها قد عرفا وسئما معًا.
ومضمون هذه المقالات أن المرأة الحديثة أكثر تبرجًا وأحط أخلاقًا من والدتها أو جدتها، وليس ينكر أحد أن في مصر، وخاصة في القاهرة، نساء متبرجات يسرن في ضوء النهار قبل الظهر وبعده بلباس السهرات مكشوفات أعلى الصدر وأعلى الظهر، ومنهن أيضًا من يضعن المساحيق على وجوههن ويصنعن الوشي المختلف والمضحك معًا لملابسهن، وكثيرًا ما يكون الجهل داعية ظهورهن بهذه المظاهر، فهن لا يتعمدن هذا المظهر وإنما يجهلن المظهر اللائق، ومقابلة المرأة القديمة بالمرأة الحديثة موضوع دائم الطلاوة يغري الكتاب بالكتابة حتى في أوروبا، فهناك ينعون على الفتاة الحديثة ترخصها في عادات كانت جدتها لا تجرؤ على اعتيادها، مثل التدخين والمجاهرة بالرأي وتقصير الثياب وتضييقها وقص الشعر ونحو ذلك.
ولكن للفتاة الحديثة من يدافع عنها ويقطع ألسنة السوء التي تعبث بشهرتها، فقد رد أحدهم على ما تتهم به، وقابلها بالجدات القديمات، فوجد أن الفتاة الحديثة على الرغم من انطلاقها في الحرية أكثر شعورًا بالمسئولية من جدتها، وأكثر استعدادًا لمواجهة الشدائد، وأكثر اعتمادًا على نفسها، وأعرف بوسائل العيش الشريف منها، فقد كانت آداب الجدات محصورة في الصمت وتكلف الأدب أمام الرجال والاقتصار على أعمال البيت، وكانت تلبس من الثياب الضافية ما يكفي الواحد منها لأن يفصل منه ثلاثة أو أربعة مما تلبسه الفتاة الحديثة، ومن يقف في لندن عند فوهات أو محطات الأنبوبة (أي القطار الذي يجري تحت الأرض) ويرى آلاف الفتيات اللواتي يكدحن للمعاش وهن مقصوصات الشعر مقتضبات الملابس؛ لا يسعه إلا احترامهن وإكبار نفوسهن، ولو كانت جداتهن في مكانهن لقنعن بالقعود في البيت والرضا بالدون من العيش، ولكن هؤلاء الفتيات أطمع في مسرات الحياة وأشجع على مشقاتها وأنزع إلى الرجولة منهن، وأذكى عقلًا وأخف يدًا وقدمًا من أن يرضين بلزوم البيت مع الفقر والمسكنة في حين يمكنهن الاكتساب بالعمل والجد.
هذا في لندن، والحال ليست كذلك في القاهرة، ولكنها ليست من الخطر بالمقدار الذي يوهمنا به زعماء القديم من كل شيء، فقد سلمنا بأن في القاهرة طبقة من الفتيات تتبرج عن جهل لا عن قصد، والذي يدعونا إلى هذا الظن أن تبرجهن خلو من الذوق، ولو كان عندنا رأي عام مهذب يدري بالأذواق والأزياء لكانت لفتة واحدة من الرجال يزدرون بها هذه الأزياء تكفي لأن تمنع الفتيات من التبرج منعًا باتًّا، ولكننا نقول إن الفتاة الحديثة في مصر لا تزال مع ذلك أصح نظرًا للحياة من والدتها أو جدتها؛ فهي تمشي الآن وحدها في الأسواق معتدلة القوام مرتفعة الرأس، في حين كانت جدتها تمشي متعثرة مع الخدم، وهي تقرأ بينما كانت أمها جاهلة، وهي لا تبالي بالسمن في حين أمها كانت ترهق أمعاءها بأكل المسمنات، وهي ترى العالم بعينيها ولا تضع على وجهها سوى نقاب خفيف بينما كانت أمها تخفي عينيها عن العالم، فإذا قيل بعد ذلك إنها تداعب الفتيان في الطريق فإنه يجب على القارئ أن يذكر أن المداعبة تحتاج إلى اثنين فإذا لمنا الفتاة وجب أن نلوم الفتى، وهو باللوم أحق لأنه هو البادئ.
والناس يحبون مقابلة الحاضر بالماضي فيصغرون الأول ويكبرون الثاني، فتراهم يصفون القدماء بأنهم كانوا أحفظ للذمم منا، وكانوا أعف في الحرمات منا، وكانوا وكانوا، وكل هذا كذب لا أصل له؛ فإن جدودنا مثلًا رضوا بحكم المماليك فكانوا أجبن منا، ورضوا بمظالم كثير من حكامهم حتى أشرفت البلاد على الخراب، وقد زار أندلسي قبل نحو ٧٠٠ سنة بلادنا فذكر أن الفحش والزنا في القاهرة لا حد لهما، وأن قذارة مدننا لا تطاق، فالقول بأن المرأة القديمة تفضل المرأة الحديثة لغو لا يقول به إلا الجاهل.