الحكم بالإعدام
كتب بعضهم وصفًا للطرق الشائعة في إعدام المجرمين على المشنقة فأجاد الوصف وأوجع القراء وأوسعهم ألمًا وخجلًا.
ولا أظن أني أنفرد في الشعور بالألم والخجل كلما قرأت هذا الوصف، فإني لا أعتقد أني أرق إحساسًا من القراء، فالحكم بالإعدام، وتنفيذ الإعدام، عملان لا يمكن أن يؤديهما إنسان إلا وهو مضطر. بل لقد حدث من مدة قريبة أن الجلاد في باريس قد أقيل من منصبه فرغب في الظهور على المسرح فطرده الجمهور ولم ينفعه اعتذاره بأن الحكومة لم تعين له معاشًا بعد إقالته، وذلك لأننا في أعماق نفوسنا نكره كل من يلطخ يده بالدم.
ومع أن العادة تيسر كل شيء وتسهل الصعب فإننا ما زلنا نتألم، على الرغم من تعودنا قراءة أخبار الإعدام، كلما ذكرت الصحف إعدامًا جديدًا لأحد الأشقياء، ونحن جديرون بالفخر لهذا الألم لأنه يدل على أننا قد ارتقينا حتى صار يأبى ضميرنا أن يقنع بحجة العدالة في هذا الانتقام الصريح.
فليس شك في أن الإعدام انتقام، وأنه برهان على العجز في معالجة القاتل، فنحن بالطبع لا نقصد إلى ترقية القاتل بإعدامه، وإنما نقصد إلى المقاصة التي نقول إننا تركناها للأسلاف القدماء، وبقاء الإعدام إلى زماننا هذا وصمة لكل إنسان، وخاصة إذا علمنا أنه ألغى في عدة أمم فلم تزد جرائم القتل بإلغائه.
وإذا كان كل إنسان منا يتألم كلما سمع بخبر الإعدام، وإذا كان جميع من يزاولون تنفيذ الحكم أو يحضرونه يشعرون بالخجل ويخرجون وأعصابهم ممزقة من منظر يغم على أذهانهم ويملأ نفوسهم بالكرب، كأنهم هم المسئولون عن هذه الجناية، فلم لا نلغي هذه العقوبة؟
إننا نعيش الآن عصرًا تدعونا مظاهره كلها إلى الشك في مبادئه وأغراضه وأخلاقه ونزعاته، فهل يجوز لنا الشك في كل شيء مع الجزم بفائدة الإعدام وحده؟ مع أن الإعدام حاسم لا يمكن الرجوع فيه أو التعويض منه، والإنسان عرضة للخطأ في كل أحكامه، وليس شيء في العالم نحن متأكدون من صحته، فيجب لذلك أن جعل لأحكامنا مجالًا للمراجعة والتحرير، ولو رجعنا إلى أحكام الإعدام الماضية التي ذكرها التاريخ في الاضطهادات الدينية والسياسية العديدة لكانت حوادث الإعدام أكبر وصمة في هذه الاضطهادات.
إن كل من يدري شيئًا من أسرار النفس البشرية يعرف أن الوحش القديم لا يزال حيًّا في كل منا، وأنه عندما يطمو بأحد في نزوات الشر فإنه لا قبل له في رده، ومهمة الحضارة استئناس هذا الوحش وتذليله ولكنه يجمح أحيانًا ويخرج على العقل وعندئذ نرى القتل.
ولكن تذليل هذا الوحش الكامن بحكم الوراثة في نفوسنا يحتاج إلى عناية بالوسط، فإذا كان سيئًا فإن الأرجح أن الغرائز الشريرة الموروثة تتغلب وتنطلق، ومن هنا قال رسكين، الأديب الإنجليزي المعروف، إن العقاب اللائق لأية جناية تقع ألا يؤخذ الجاني نفسه بل يقترع على سكان المدينة التي يقيم فيها ويؤخذ من يصيبه القرعة فيعاقب، وهو يعني بذلك أن الجناية تنبت من الوسط الذي يعيش فيه الجاني، فكل من في هذا الوسط مسئول عنها؛ ولذلك إذا أردنا العقاب فلنقترع عليه ما دمنا كلنا مسئولين.
وخير من معاقبة القاتل بجناية قتل أخرى أن نرقي هذا الوسط، فننشر التعليم والحرية ونقلل التفاوت في الثروة، ومع كل ما نقوم به من ترقية وتفريج للعواطف المحبوسة فإن الوحش القديم سيطمو بنا أحيانًا وينزو نزواته، فنرتكب جريمة القتل في أنفسنا وفي غيرنا، ونحن نشفق على المنتحر، ونعرف أن أزمة الأعصاب التي وقع فيها انتهت بالقضاء على نفسه، ولكننا لا نشفق على القاتل، مع أن أعصابه قد تكون أحيانًا في أزمة أشد من تلك التي تصيب المنتحر.
وفي السجن المؤبد بدل للقتل