التغلب على المصاعب
أذكرني حادث تعيين الدكتور طه حسين عميدًا لكلية الآداب ثم استقالته منها، بحادث آخر في إنجلترا يصح أن يكون موضوع هذا المقال حتى يرى القارئ كيف يتغلب القلب الكبير والهمة الشماء والنفس العالية على المصاعب والعقبات.
فكما أن العمى لم يمنع الدكتور طه حسين من التفوق حتى يبلغ عمدة كلية الآداب فكذلك هو لا يمنع الآن الكابتن أيان فريزر من أن يكون نائبًا في البرلمان الإنجليزي، ولكن أعظم مثال للهمة، تستهين بالعقبات وتتخطاها، هو بلا شك مثال هنري فوصت، فقد صار هذا العظيم مديرًا للبريد في بريطانيا العظمى مع أنه كان أعمى.
ولد هذا الرجل سنة ١٨٢٣ فلما شب التحق بجامعة كمبردج، وكان جميل الوجه مديد القامة ذكي الفؤاد، وكان مغرمًا بالخيل، فركب جواده في أحد الأيام وخرج في جماعة، ولكن جواده عثر به فسقط هنري فوصت واصطدم رأسه بالأرض صدمة عنيفة نهض منها وهو أعمى لم يبرأ طول حياته من العمى.
ولو أن أحدًا غيره نزلت به هذه النازلة لاستسلم لحكم القدر وانزوى عن الحياة العمومية وعاش وادعًا في بيته، ولكن فوصت لم يكن ليقر بالهزيمة في الحياة، ولن ينهزم إنسان ما دام لا يقر بالهزيمة.
وهكذا عمد فوصت إلى درس «الاقتصاديات» حتى برع فيها وعينته جامعة كمبردج أستاذًا فيها لهذا العلم، وفي أحد الأيام في سنة ١٨٦٤ كان في بريتون يتنزه فسمع عن خطبة سيلقيها المرشح للبرلمان عن حزب الأحرار، فقصد إلى قاعة الاجتماع ليسمعها، فلما انتهى الخطيب من إلقاء خطبته وقف فوصت وألقى خطبة على سبيل التعليق والانتقاد للخطيب السابق، فاستهوى أفئدة الجمهور حتى اتفق رأي الأحرار على تعيينه هو مرشح البرلمان بدلًا من الخطيب.
ولما صار عضوًا في البرلمان أخذ يدرس المسائل السياسية ويدأب في فهم تفاصيلها، حتى بلغ من معرفته بشئون الهند أن أطلق عليه اسم «نائب الهند»، وكان أكبر الأعضاء همة في ترويج الإصلاح والدعوة إلى تحسين الأحوال المعيشية، وعرف له الأحرار إخلاصه وذكاءه وهمته فعينته وزارة غلادستون سنة ١٨٨٠ مديرًا للبريد العام، وهذا منصب من مناصب الوزارة، وأدى فوصت واجبات هذا المنصب الإدارية أحسن أداء، كما نظن أن الدكتور طه حسين كان يؤدي مثل هذه الواجبات بكلية الآداب لو لم يستقل، والعبرة لك أيها القارئ الآن هي الخلق العظيم الذي يستهين بالكوارث مهما حل خطبها، ويتخطى العقبات مهما تراءت عظيمة مخيفة، فهذا العمى الذي يحسبه كل منا أكبر كارثة تنزل بإنسان لم يمنع المستر فوصت من أن يصير وزيرًا للبريد في إنجلترا، وليس شيء أدعى إلى تعجيز المرء ومنعه من أن يرقى بنفسه وينافس إخوانه من هذه الآفة.
فاعتبر ذلك أيها القارئ، واعلم أن الفقر والمرض هما دون العمل في الانتصار على المصاعب والظفر بثمار النجاح، ولكن يجب أن يكون لك قلب جريء وهمة شماء ودأب في العمل وإقامة على بلوغ الغاية، فأنت نفس وجسم معًا، ولكن نفسك أكبر من جسمك كما أن بصيرتك خير من بصرك، وما دامت نفسك سليمة لم يدخلها الجزع أو الهزيمة، فإن الفقر والمرض والعقبات المختلفة ليست كلها شيئًا أمام الهمة الحافزة التي تستثيرها النفس العالية.
فإذا كان الدكتور طه حسين ينال عمدة كلية الآداب، وإذا كان الكابتن أيان فريرر ينال عضوية البرلمان البريطاني، بل إذا كان المستر فوصت يرقى إلى درجة الوزارة، وينال ثلاثتهم هذه المراكز العالية مع آفة العمى التي لا علاج لها، فماذا أنت فاعل بنفسك وأنت موفور الصحة كامل البصر؟
الحق أن في الأمثلة ما يحفز الهمم الخامدة، ويدعو إلى الثقة بالنفس والإيمان بأن الارتقاء ميسور لكل إنسان حتى مع النقص البادي، بل يكون هذا النقص نفسه حافزًا للنفس العالية على الاجتهاد والتفوق، كما هو باعث للنفس الدنيئة على الاستكانة والاعتكاف والفرار من ميدان العمل.
فاجعل من نقائصك حافزًا لك يعزيك بالاستكمال في النواحي الأخرى من النشاط ويبعثك على أن تزداد علمًا وجاهًا وثروة وخدمة لبلادك، والناس عندئذ يكرمون فيك هذه الهمة التي رفعتك على الرغم من النقص