التسامح الديني
كلما احتدت المناقشة بين خصمين على صفحات الجرائد، وشعر أحدهما أنه مغلوب مفحم، عمد إلى الآخر فاتهمه بأشياء تعدو حدود المناقشة قد تكون تهمة الكفر إحداها.
ولو أن أحدًا اتهم آخر في أوروبا بمثل هذه التهمة لعد هذا منه نهاية الوقاحة؛ لأن العقيدة الدينية تدخل في لباب الضمائر، وليس من الحياء أن نفتش ضمائر الناس لنعرف عقائدهم ونقف على أسرار علاقاتهم مع ربهم، بل ليس من الحياء أن يسأل أحد الناس الآخر عن عقيدته.
ولكننا نحن في مصر ما زلنا بعيدين عن هذا الطور حين نحترم لكل إنسان عقيدته ونكف عن التنقير والتفتيش في قلوب الناس، ولكن يحق لنا أن نسأل أولئك الذين يقذفون خصومهم بكلمات الكفر والزندقة لعلة ولغير علة: هل يمكن أن يكون الإنسان كافرًا؟
إن تاريخ «الكفار» الذين اضطهدوا في أوروبا وفي الشرق يثبت أنهم كانوا أكثر إيمانًا ممن اضطهدوهم، فقد اضطهد الرومانيون المسيحيين وقتلوهم تقتيلًا فظيعًا، ونحن الآن نعرف أي الفريقين كان أكثر إيمانًا، واضطهدت جاهلية قريش المسلمين، ثم عاد المسلمون والمسيحيون فاضطهدوا المتصوفين منهم، ونحن نعرف فوق ذلك أن الملك الكافر في تاريخ الفراعنة هو إخناتون، وهو الوحيد الذي آمن بالله ورفض عبادة الأوثان المصرية.
فمعنى الكفر ليس في الحقيقة عدم الإيمان، بل المخالفة في العقيدة فقط.
تعيش في زماننا هذا امرأة هي مصداق ما نقول، نعني بها المسز بيزانت الإنجليزية، فإنها كافرة من حيث مخالفتها للعقائد الدينية الشائعة، ولكنها أكثر إيمانًا من أي إنسان على ظهر هذه الكرة، وفي تاريخ حياتها عبرة لأولئك الذين لا يبالون بالتنقير عن سرائر النفوس وقذف الضمائر.
فهذه المرأة نشأت مؤمنة بالمسيحية وتزوجت قسًّا من قسوس الإنجليز، ولعل هذا الزواج لم يكن حبًّا لشخصه فقط بل كان أيضًا حبًّا لهذا الإيمان الذي أرصد حياته لخدمته، وعاشت عدة سنين وهي عابدة تصلي لا تهمل فريضة أو نفلًا، ثم دب الشك في قلبها وتزعزع إيمانها، وكانت من شرف النفس وعلو الهمة بحيث لا يمكنها أن توارب أو تداري أو تقعد عن الكفاح في سبيل ما تؤمن به، فتركت زوجها وخرجت تدعو إلى الإلحاد بما لها من قوة ومال وعلم، واتصلت بزعيم الإلحاد في ذلك الوقت، المستر برادلف، فعمل الاثنان معًا في نشر الإلحاد في إنجلترا، وكانت لهما مجلة تخرج على الناس كل أسبوع بما يؤذي عواطفهم الدينية، ولكن العلم القليل الذي يدعو إلى الإلحاد لم يطل عليه الوقت حتى تغلب عليه العلم الكثير يدعو إلى الإيمان، فرأت أنه كلما ازدادت توسعًا في الثقافة الدينية ازدادت إيمانًا وزكا قلبها بالحب للناس واتحدت أنغامها مع أنغام هذا الكون من إنسان وحيوان وجماد حتى صارت تؤمن بوحدة الوجود، وحتى أصبحت زعيمة لهذه الصوفية الجديدة التي تدرس الإسلام والمسيحية والبوذية وسائر أديان العالم وتنشد منها الصلاح والخير والبر.
فهذه المسز بيزانت ليست مسيحية ولا هي مسلمة، ولكنها الآن مسيحية ومسلمة وبوذية، تريد من الدين أن يكون عفو النفس ينبع عن مجاهدة واختيار، فلا يقسر الناس عليه قسرًا ويحملون على التعصب له، فهي ترى أن طبيعة الإنسان دينية وأن الإيمان ثمرة تثمرها الناس إذا نضجت.
وهذه المرأة هي الآن فوق الثمانين من عمرها، تعيش معظم أيامها في الهند، وتدرس أديانها القديمة وتطلب من أبنائها الحاضرين أن يستقلوا عن الإنجليز، وقد كافحت الاستعمار الإنجليزي في الهند حتى حبست من أجل الهنود وهي إنجليزية، فمن منا يجرؤ على أن يقول لهذه المرأة بل لهذه الإنسانية العظيمة إنها كافرة، وهي التي كافحت طول حياتها لتحرير ضميرها من أجل الحق، ووقفت في وجه أبناء وطنها من أجل الحق، وآمنت ثم كفرت ثم آمنت من أجل الحق، وكانت كل هذه الجهود عن نفس حرة تأبى الخضوع للعقيدة تقسر عليها ولا تؤمن بها.