الموتى لا يحكمون الأحياء
منذ مدة مات القصصي الإنجليزي المعروف «توماس هاردي»، وأوصى وصية لفتت نظر الكتاب وبعثتهم على انتقاد الميت وتجريح أخلاقه لأنه اشترط في هذه الوصية بأن يكون نصيب زوجته ما دامت لا تتزوج ٦٠٠ جنيه فإذا تزوجت لم يكن حقها في الميراث سوى ٣٠٠ جنيه فقط في السنة.
وواضح أن في هذا الشرط من دناءة النفس ما يشبه أو يشير إلى تلك العادة الهندية التي كانت منذ نحو ٧٠ سنة أو ٨٠ سنة، تقضي بأن تحرق المرأة بعد وفاة زوجها، وقد خففت هذه العادة الآن إلى بقاء الزوجة التي يموت وزجها أرملة مدى حياتها، وليس هذا بالأمر الهين على المرأة الهندية، فإنها تتزوج وتترمل أحيانًا قبل أن تبلغ العاشرة أو الخامسة عشرة، فتعيش مدى حياتها في عار الترمل وآلام الحرمان وكتم العواطف، وهي مع ذلك تشكر الحظ الذي لا يقضي عليها بالحرق كما كان يفعل بجداتها.
فوصية توماس هاردي وإن لم تكن في قوة إحراق الزوجة فإنها من نوعها؛ لأن الاختلاف في الدرجة فقط، ففي الهند كان الزوج يخشى بقاء زوجته بعده، ويتوقع حبها لغيره، فكانت تحرق، وتوماس هاردي يخشى أن تحب زوجته رجلًا غيره فهو يعاقبها على هذا الحب بإنقاص دخلها السنوي إلى النصف.
وفي كلتا الحالتين ترى الميت يريد أن يحكم الحي، ويجعل نزوات نفسه ونزقات قلبه حية تعيش بعد موته وهو رمة بالية في القبر، وهو في هذه الحال أشبه شيء بذلك الرجل عندنا يوصي بأمواله لبعض الورثة دون البعض، ثم يموت ويترك لهم البغضاء والحسد طول حياتهم، وهذه الدنيا يملكها الأحياء ولا يملكها الموتى، فمن حق الحي ألا يعنته الميت، ومن واجب الميت أن ينام وادعًا في قبره ويترك الدنيا وتسوية مسائلها لأبنائها الذين يسعون على أرضها ويتحملون مشاقها ويتمتعون بملاذها.
ونحن نعيش الآن في زمن تجيز فيه حتى الأمم المسيحية الطلاق، بعد أن كانت تنظر إليه الكنيسة كأنه محال، فإذا كان الأحياء يرون زوجاتهم يتزوجن في حياتهم، وينزلون على حكم العقل، فإن واجب الميت ألا يقرر العقوبات لزوجته إذا تزوجت بعد وفاته، وحسبه من حبها تلك الحياة التي قضاها في هناء الزوجية والذكرى التي تمجد اسمه.
وإذا نحن تأملنا معظم القلاقل والإحن في العائلات لم نبعد قليلًا حتى نجد أنها ترجع إلى ثورة الأحياء على الأموات، فإنه لما كانت نفس الإنسان تنزع إلى الخلود فهو يرى في أبنائه وأسرته وثروته معنى من معاني الخلود، ويقرر قبيل وفاته عن سبيل الوصية نظامًا يبقى يمثل إرادته ويشير إلى معنى الخلود حين يبلى جسمه في القبر، ولكن طبع الحياة التطور وشأن الزمن التحول، فلا تكاد تمضي على الميت بضع سنوات حتى يصطدم نظامه القديم بالأحوال الجديدة، ويرى الأحياء أنفسهم معرقلين لا يملكون التصرف فيما ينفعهم بما وضعه لهم الأب أو الزوج أو الجد من شروط للحياة التي يعيشونها هم، والتي هم أعرف بمصالحها من هذا المورث الوادع في قبره، الذي كان يعيش حياة لعلها تختلف من جملة اعتبارات عن الحياة التي يعيشها أبناؤه أو أحفاده.
فذلك الزوج الهندي القديم الذي كانت أرملته تحرق بعد موته، وهذا القصصي الإنجليزي الذي يعاقب زوجته إذا تزوجت بعده، وهذا الموصي الذي يزيد وينقص في حظوظ أبنائه ويقيد حريتهم في التصرف؛ كلهم من معدن واحد يريدون أن تبقى إرادتهم خالدة بعد موتهم، وهم يضعون لهذا الخلود المنشود برنامجًا هو العنت للأحياء.
وشيء قليل من التأمل في الدنيا يزيل عنا هذا الغرور، ويجعلنا ندرك معنى الخلود الروحي، فنذهب إلى القبر متسامحين راضين أن نترك الدنيا لأبنائها، وإنما أبناؤها هم الأحياء، فهم أجدر من الموتى بتنظيم أحوالهم، والتصرف في شئونهم من حب ومال وعيال.
وما يقال في المواريث يمكن أن يقال مثله أيضًا في ما خلفه السلف من ثقافة، فهي ميراث للذهن ولكن هذا الميراث يعرقل أذهاننا ويؤخر رقينا إذا أحيط بما يشبه شروط الواقف أو الموصي بحيث نجبر على التزام الطرق القديمة ونمنع من الانطلاق وحرية التفكير.