العبيد الذين غلبوا نابليون
كلنا يعرف أن زنوج أفريقية عاشوا قبائل مشتتة تتناحر فيما بينها وتغير عليهم الأمم المتمدينة وتسبي نساءهم وأولادهم وتبيعهم في أسواق النخاسة عبيدًا يقضون حياتهم في الكد والكدح لغيرهم، وكلنا يعرف أنهم يعيشون في أفريقية عيشة التوحش، تغشى حياتهم الفاقة ويحصد أولادهم الموت وتستعبدهم الخرافات.
وكلنا أيضًا يعرف أن نابليون قد قهر أوروبا، وبدل التخوم الفاصلة بين ممالكها كما يبدل الإنسان خطوط الخريطة بقلمه، وهدم عروشًا كما يصنع النجار بعض الأثاث، ومع ذلك فإن نابليون على قوته وجبروته قد انهزم أمام العبيد في جزيرة هايتي.
وقصة هؤلاء العبيد يجب أن تكون ماثلة أمام أعيننا على الدوام مع كفاحنا مع أعدائنا الذين حرمونا من الرقي في الخمسين سنة الماضية؛ لأنه إذا كان الزنوج قد استطاعوا بالاتحاد والأخلاق أن يغتصبوا استقلالهم من نابليون فجدير بنا ونحن نفوق الزنوج في القوة والذكاء أن نحقق استقلالنا أمام الإنجليز.
وجزيرة هايتي تقع في شرق أميركا، وكانت فرنسا تملكها، كما كانت المزارع في أيدي المستعمرين الفرنسيين، والعبيد من الزنوج يكدحون فيها لمواليهم، فلما حدثت الثورة الفرنسية الكبرى وتحطم عرش ملوكها من البوربون، وأعلن الثائرون حقوق الإنسان، بلغت هذه الأخبار السكان في جزيرة هايتي من البيض والسود حوالي سنة ١٧٩٠، وانشق البيض على أنفسهم بعضهم يدافع عن الملوكية وبعضهم يدعو إلى الجمهورية، وانضم العبيد إلى الجمهوريين؛ لأن الثورة التي أوجدتهم وأعلنت حقوق الإنسان لم تميز بين الأسود والأبيض، بل أقرت لكل إنسان حقه في الحرية وألغت بذلك العبودية، فلما وقف العبيد على مبادئ الثورة وعرفوا منها حقوقهم الإنسانية انضموا إلى الجمهوريين وقاتلوا الملوكيين من الفرنسيين كما قاتلوا حلفاءهم الإنجليز وانتصروا عليهم، وبذلك استقلت الجزيرة، ولما كان الزنوج يؤلفون الكثرة من السكان آل الحكم إليهم وصاروا هم أسياد البلاد.
ولكن جاء الطاغية نابليون وحاول أن يفسد مبادئ الثورة الشريفة فبعث بالجيوش والبوارج لإخضاع الجزيرة، ولم يكن الزنوج في هايتي بأرقى من زنوج أفريقيا، فقد كانت الخرافات تتحكم في أذهانهم وعواطفهم ولهم كهنة يوهمونهم الضعف بممارسة السحر ويتغلبون عليهم ويبعثون الخوف في قلوبهم، ولكن كانت بينهم طبقة صغيرة من الذين احتكوا بالفرنسيين، وأشربوا روح الثورة من الحرية والمساواة والإخاء، فعمدوا إلى رجل منهم متين الأخلاق فولوه الزعامة، وكان هذا الرجل يدعى توسيه لوفرتور.
وكان أول ما التفت إليه هذا الزنجي العظيم في محاربة نابليون أن عمل للاتحاد بين الزنوج، فقهر الكهنة، وصاح بالناس، وتجاوب الناس صياحه: أن اتحدوا فالاتحاد أقوى من السحر.
ثم عمد بهذه الجموع المتحدة من الزنوج فقهر الإسبانيين، ثم قهر جيش نابليون الذي كان يبلغ ٣٥٠٠٠ مقاتل وضمن للجزيرة استقلالها في أيدي سكانها الزنوج الأحرار، ووقع هو نفسه أسيرًا وحمل إلى فرنسا حيث قضت دناءة نابليون بأن يقتله جوعًا، ولكن الجزيرة لم تعد إلى فرنسا بل بقيت مستقلة إلى الآن.
فإذا كان الاتحاد بين الزنوج العبيد يقهر الأمم العظيمة ويتغلب على جيوش الطغاة ويحيل العبودية إلى حرية، فأحرى به أن ينيلنا استقلالنا ويضمن لنا الظفر في كفاحنا مع طغاة القرن العشرين، ولكن اتحادنا لن يكون قويًّا متينًا حتى نبعد عن البلاد كل نعرة يقصد منها الشقاق وتصديع الكتلة الوطنية، فإذا كان في بلادنا عناصر تعمل لهذا الشقاق وتفتح الثغرة التي ينفذ منها العدو إلى صميم الوطن، فإن هذه العناصر يجب محوها ومحقها وإبادتها، فنحن في مركز يتطلب منا جميعًا أن نتحد ونقف في وجه خصومنا وقد جندت أجسامنا وعبئت قلوبنا، وما ناله العبيد الذين غلبوا نابليون يمكننا أن ننال نحن مثله أو خيرًا منه إذا اتحدنا كما اتحدوا.
ويجب ألا يغيب عن بالنا أن الدعوة إلى الشقاق تتخذ أشكالًا عديدة، منها الطعن في الزعماء ومنها الحيف على الأقليات ومنها تحريك الضغائن المذهبية ونحو ذلك مما يجب أن نحذره أمام الطغاة.