خطة الدفاع
من أغرب الظواهر الطبيعية للحياة أن تلك الأحياء التي بالغت في الدفاع عن نفسها وتدرعت بدروع تقيها من الأعداء وقفت عن التطور وكفت عن الارتقاء، فهذا المحار مثلًا نشأ منذ مئات الملايين من السنين، أي منذ كان المقطم تغمره مياه البحر، ومع ذلك بقي كما هو قطعة هلامية من اللحم مستكنة في بيت من الصدف لا تتطور ولا ترتقي.
بل هناك من الحيوان أنواع نجحت في حماية نفسها إلى درجة بعيدة أفقدتها بعض حواسها، كما ترى الخلد الذي آثر الاكتنان والاختفاء تحت الأرض على السعي فوقها ففقد عينيه.
فالمحار عاش متدرعًا بصدفه ملايين السنين وهو لا يتطور، حتى إننا نجد صدفه للآن في صخور المقطم، والخلد لم يقف عن التطور والارتقاء فقط بل هو ارتد للوراء، إذ فقد إحدى حواسه، بل أهم حواسه وهي حاسة النظر؛ لأن هذه الحاسة لا تنفع صاحبها إلا إذا كان يسعى في النور ويحتاج إلى التمييز بين الصديق والعدو، أما إذا آثار الاعتكاف واختلاس العيش في الظلام فهو لا يحتاج عندئذ إلى هذه الحاسة الراقية، وما أحرانا نحن بأن نعتبر ذلك فلا نقنع من الحياة بخطة الدفاع، كالمحار والخلد، فنتجنب السعي قانعين بأقل العيش راضين بالاعتكاف كأنما نعيش عيشة سلبية هي نفي الموت فقط. بل يجب أن نسعى ونقتحم الأخطار ونتصدى للعقبات نمهدها أو نزيلها، ونهاجم الطبيعة فنكتشف فيها ونخترع ونرتقي من الحسن إلى الأحسن.
إن الحياة درجات، فمنها حياة النبات وهي أحط حياة، ومنها حياة هذا المحار وهي أقل من حياتنا وقت النوم، ثم تتدرج من ذلك إلى أن تبلغ الإنسان الذي يلقى من هموم الدنيا أكثر من أي حيوان آخر، ويعيش ملأ حياته تجارب واقتحامات وآلامًا وملذات.
ومن الأمثال الحربية التي تنطبق على الحياة المدنية أن أمثل الطرق للدفاع هي الهجوم، فإذا كنا نخشى الفقر فليس سبيلنا إلى اتقائه أن نحتفظ بالقليل الذي نملكه ونحوطه ونصونه قانعين منه بأتفه العيش وأخسه، بل نتقي الفقر باستغلال هذا القليل وتأثيله في عمل ما كي يربو ويزيد مع ما في هذا الاستغلال من التعرض للخطر، فالثروة ليست نتيجة الادخار والاتقاء بل هي نتيجة الاستغلال والمغامرة.
وهنا يخطر ببالي أن أقابل بين الإنجليزي والفرنسي، فالإنجليزي مغامر لا يدخر قرشًا ولا يعرف التقتير، خطته في الحياة الهجوم؛ ولذلك فقد أثرى وتفشى في العالم وصارت له إمبراطورية تتمطى حول الكرة الأرضية. أما الفرنسي فيقنع من الدنيا بالدفاع فهو لذلك معتز، لامرأته وسائل عجيبة كريهة في التقتير، ثم هو لا يأكل ولا يشرب ولا يتناسل ولا ينفق إلا بحساب، كأنه يخشى الدنيا؛ ولذلك فهو فقير إذا قوبلت أحواله بأحوال الإنجليزي الذي يهاجم الدنيا ويؤثل أمواله في الصين ومصر والهند وأمريكا.
وكلنا من حيث المزاج نجري على إحدى الطريقتين: إما الدفاع والاحتماء وإما الهجوم والتصدي، وليس هذا شأننا في الثروة فقط بل هو أيضًا شأننا في نشاطنا الذهني، فمنا من يقنع بدرس كل ما هو مألوف مأمون، بل أحيانًا يبالغ في هذه الخطة حتى ليطلب الرقابة على الأدب وتقييده ومنع الأدباء من المخاطرة والمغامرة، كأنه يطلب من الناس أن يعيشوا عيشة المحار بعيدين عن التعرض لأي خطر، وهذه خطة الدفاع والاحتماء.
ثم منا من ينزع نزعة الجراءة فلا يحجم عن اقتحام كل خطر، يطلب من الأدب أن يكون حرًّا مكشوفًا يتناول كل موضوع ويترخص في كل بحث ويهاجم كل عقبة؛ لأن الذهن الإنساني يموت بالادخار والحصر ويحيا بالإقدام والانطلاق، وهذه هي خطة الهجوم والتصدي.
فلكي نعيش جدًّا ونحيا ملء حياتنا الإيجابية، يجب أن نتصدى للدنيا وننبري لتذليل عقباتها ونجعل الهجوم وسيلة الدفاع في المال والذهن، فلا ندخر كالفرنسي بل نستغل ونؤثل كالإنجليزي، وإذا كان في الاستغلال مخاطرة فلنقبلها راضين بما لها من عوض في الزيادة والنماء والارتقاء.
فالهجوم والتصدي والمغامرة هي صفات الحياة العالية، تلك الحياة التي ترضى بالارتقاء فترتقي وتتطور ولو كان في ارتقائها فناؤها.