في شرف الهزيمة
قد يكون من الهزائم للأمم والأفراد ما هو أمجد وأشرف من الانتصارات، فهذه فرنسا مثلًا بعد أن أعلنت الثورة الكبرى وأذاعت مبادئها على العالم عادت فانهزمت، واضطرت إلى الإقرار بأن مبادئها ليست حقة فكانت هزيمتها هذه شريفة؛ لأن كل إنسان يقرأ تاريخ تلك الثورة يعرف أنها ليست ثورة فرنسا فقط بل ثورة الإنسان كائنًا ما كان؛ لأنها أعلنت حقوقه ورفعت شأنه وباتت مصباحًا تستضيء به كل أمة في العالم، حتى إن طغيان نابليون، ثم اتحاد الأمم عليها ورد الملوكية إلى عرشها، كل هذا لم يقتل مبادئ الثورة بل بقيت حية أمام هذه الهزائم وعادت في النهاية إلى الانتصار.
وأقرب من هذه الثورة تلك الهزائم التي نزلت بالأمة الصينية في حرب جائرة أعلنتها عليها الإمبراطورية البريطانية كي تقسرها على شراء الأفيون بعد أن كانت الصين قد منعت زراعته والاتجار به وتدخينه، فإن هذه الإمبراطورية حاربت الصينيين وقهرتهم وأجبرتهم على شراء الأفيون، فكانت الصين مجيدة في هزيمتها، شريفة في مذلتها أمام هذا العدو المنتصر الذي طغا عليها بحروبه واضطرها إلى شراء السم لأبنائها.
ومن الهزائم المجيدة أيضًا تلك الهزيمة التي نزلت بنا في سنة ١٨٨٢ حين وقف عرابي بجيشه يدافع عن الدستور وعن الوطن بينما الخديوي قد انضم للأعداء، فكان عرابي في هزيمته أسمى من الخديوي في انتصاره، وذلك لأن الأول كان يدافع عن الحق فانهزم، بينما كان الثاني يدافع عن الباطل فانتصر. الحق مهزومًا أمجد وأشرف من الباطل منصورًا.
ومن الهزائم الشريفة هزيمة الدكتور ولسون حين خرج مجاهدًا في سبيل السلام يدعو الأمم إلى إلقاء سلاحها وإنشاء عصبة الأمم كي تكون المحكمة العليا للعالم كله، وقد انهزم ولسون أمام الحلفاء ولكن هزيمته كان أشرف من انتصارهم إذ كان هو يعمل للصراحة والحب والوفاء وكانوا هم يعملون للمواربة والكراهية والغدر.
وكما أن مبادئ الثورة الفرنسية قد عادت فانتصرت، وكما أننا الآن ندافع عن الدستور الذي انتزعه عرابي من الخديوي ونرفع المبادئ التي كان يرفعها، كذلك ستنتصر مبادئ الدكتور ولسون على دهاء الساسة الذين خدعوه، وإذا لم يكن هذا الانتصار عاجلًا فهو آجل.
وعبرتنا نحن الأفراد العاديين من هذه الأمثلة ألا نبالي بالهزيمة إذا كانت في سبيل الحق، وأن نؤثرها على الانتصار في الباطل، وأن نطمئن إلى هذه الهزيمة لأنها هي في الواقع انتصار أو تهيؤ للانتصار، وذلك لأن الحق لا يهزم إلا إلى وقت وميعاد إذا آن فيهما أوانه ظهر على الباطل وأزهقه.
وما أحرانا بأن نتذكر ذلك في كل مناقشة أو جدال يحمل فيه أحد المتناقشين على خصومه بالسباب واللعن، فإن عندنا طائفة من الكتاب يبدو مما يكتبون أنهم لم يتعلموا اللغة العربية إلا ليصيدوا منها كل لفظة مفزعة يرمون بها خصومهم، حتى لينقلب الجدل بينهم إلى مهاترة تشبه المفاحشة التي تسمع من السفلة غير أن ألفاظها عربية وألفاظ هؤلاء عامية، ففي مثل هذا الجدل تكون الهزيمة أشرف من الانتصار.
ويجب أيضًا ألا ننسي ميدان السياسة حيث يفوز الخطيب المفوه الذي يستثير عواطف الجمهور بما يخيله لهم من آمال كاذبة على ذلك السياسي الرصين الذي يسكن إلى الحقائق ولا يتطوح مع الأوهام، فإن مثل هذا الفوز لا يشرف صاحبه كما أن هزيمة الآخر لا تعيبه.