سعة الصدر وحاجتنا إليها
ربما كانت سعة الصدر من أهم علامات الرجل المهذب الذي تثقف بمختلف الآداب والعلوم، كما هي أيضًا من أهم شروط الحضارة، فالرجل الذي غذا نفسه، وثقفها، ووقف على آراء المتقدمين والمتأخرين، لا يسعه أن يتعصب لفكرة سوى الفكرة القائلة بحرية الرأي، أي القائلة بعدم التعصب، فهو يستطيع أن يتحمل كل نقد ويتسامح فيه لأنه لسعة ثقافته قد وقف على آراء الكثيرين المختلفين وقدر وجهات نظرهم وعرف حسناتها كما عرف سيئاتها. أما الرجل الجاهل فيتعصب لرأي أو فكرة ويحتد في الدفاع عنها لأنه قاصر عن الوقوف على وجهات النظر التي تخالفه.
وسعة الصدر أيضًا من الشروط اللازمة للحضارة، وهي هنا تسمى التسامح، فليست تقوم في العالم حضارة بلا تسامح، وذلك لأن الأمة بطبيعتها تنقسم في الآراء والمذاهب طوائف متباينة، فإذا لم تسامح هذه الطوائف، وإذا لم ترض لغيرها بالوجود كما ترضى لنفسها به، فإن التعصب يدفعها إلى التناحر الذي قد ينتهي بحرب أهلية فيها فناء الأمة وحضارتها، والتسامح هو الرضى بالآراء المخالفة ولو كان في التصريح بها ما يؤلمنا بعض الألم، فكل منا بطبيعته غيور على أن يرى آراءه الشخصية أو الطائفية فاشية حوله، ولكن لا يمكن أن تقوم حضارة حتى تتسع صدورنا لآراء الغير الشخصية والطائفية، ولو كنا نشعر ببعض الألم أو قد يصيبنا قليل من الأذى لنشرها. أي أننا يجب أن ننزل عن شيء من مصالحنا تسامحًا ومحافظة على الحرية الفكرية.
وهذا يؤدي بنا إلى القول بالتسامح في النقد، نتقبله دون احتداد أو شكاية ما دامت النية حسنة والغاية المنشودة هي الخير، بل يجب علينا أن تتسع صدورنا للنقد وتعده عاملًا من عوامل التقويم؛ لأن الإنسان مفطور على الزهو والغرور فإذا قرأ نقدًا من أحد الخصوم رأى نفسه كما يراه غيره فينقشع عنه الزهو ويقيم من نفسه ما اعوج، وقد نتألم لهذا النقد ولكن النظر الصادق للمصلحة يجب أن يزيل هذا الألم.
وهنا يجدر بنا أن نقول إن الأحرار، أو الحريين، الذين لا تخلو أمة من حزب لهم في أوروبا إنما يقصدون من هذه اللفظة السخاء وسعة الصدر كما يقصدون منها الحرية، فحزب «الأحرار» هو حزب الأسخاء الذين يقولون بعدم الضن بالإصلاح على الطبقات الفقيرة، فالرجل الحر ليس هو الذي يطلب الحرية لنفسه فقط بل هو أيضًا ذلك الذي يحس بالأريحية وسخاء النفس وسعة الصدر، ومثل هذا الرجل ضروري لكل هيئة اجتماعية راقية.
وقد انتهى الناس من التعصب الديني، وعرفوا أن التسامح في العقيدة الدينية هو خير ضمان للسلم والأمن، بعد أن قضوا مئات السنين في الحروب الدينية التي لم ترد أحدًا عن عقيدته ولكنها بللت الأرض بالدماء وزادت الأحقاد والضغائن وأخرت الأمم ودمرت الحضارة، وصار الناس الآن تتسع صدورهم للاختلاف في المذاهب الدينية وباتت الحرية الدينية أساسًا من أسس الحضارة.
ولكن الاختلاف في المذاهب السياسية قد أوشك أن يأخذ المكان القديم الذي كان للاختلاف في المذاهب الدينية، فامتلأت النفوس إحنًا وضغائن كثيرًا ما بعثت الأيدي المجرمة على ارتكاب الجرائم، وصار هناك نوع من الهوس السياسي يشبه ذلك الهوس الديني القديم حين كان يشعر كل إنسان أنه على حق، بل يحتكر الحق، وأن غيره من الخصوم على باطل، لا يعرف سوى الباطل، وليس هذا الهوس أو التعصب إلا دليلًا على ضيق الصدر وقلة الثقافة؛ لأن الجاهل لجهله مناحي الفكر الأخرى يتعصب لفكرته، أما العالم فلعلمه بها وتوسعًا في الدرس يرى في نفسه من التسامح وسعة الصدر ما يمنعه من التعصب، والرأي السياسي عند العالم المثقف لا يعدو أن يكون رأيًّا يقبل التنقيح والإبدال، ولكنه عند الجاهل عقيدة راسخة لا تقوم على عقل ورؤية، فلتكن دعوتنا إلى التسامح وسعة الصدر للنقد، ولتكن أدواتنا التي نتوسل بها إلى ذلك زيادة المعرفة ونشر الثقافة بين الناس حتى لا يقتصروا على وجهة واحدة من الرأي تتجمد في نفوسهم فتصير عقيدة راسخة، بل نعمل على إضعاف روح التعصب بزيادة الثقافة بينهم حتى لا يرون ما للشيء أو للشخص فقط بل يرون ما عليه أيضًا.