ما هو التمدن
من الناس من لا يهمهم من التمدن إلا أن يعرفوا هل هو التمدن أو التمدين. أما أنا وأنت فلا نبالي إلا بحقيقته وماهيته.
ونحن نبالي بذلك لأننا نرغب كلنا في أن نكون متمدنين وأن نبلغ من التمدن أعلى درجاته؛ ولذلك يجب علينا أن نعرف ما هو التمدن.
لقد سأل أحد الكتاب الإنجليز وهو المستر «بل» هذا السؤال وأجاب عليه بكتاب ضخم استقرأ فيه أحوال الأمم المتمدنة في العصور القديمة والحديثة، كي يعرف منها تلك السمات التي تتسم بها وتشترك فيها الحضارات مهما اختلفت أزمانها أو أقاليمها، ولكنه قبل أن يشرع في بحث هذه الحضارات ومقابلتها الواحدة بالأخرى، عمد إلى الأوساط المتبربرة حيث لا تكون الحضارة فوجد فيها جملة صفات هي في الواقع أساس الحضارة ولكنها ليست منها كما نفهم نحن الآن من مدلول هذه الكلمة.
ففي الأوساط المتبربرة نجد احترام الامتلاك في العقار، والإيمان بآلهة ما، وبالحياة الأخرى، ثم احترام المرأة، والصدق، والنظافة، والطهارة، والدفاع عن الوطن، فهذه صفات توجد عند المتمدنين وهي قد تعد أساسًا للحضارة، ولكنها ليست الحضارة كما نفهمها الآن، فإننا نطلب من الرجل المتمدن أو المتحضر أشياء أدق وأخص من هذه العموميات.
وليس من الحكمة أن نبحث عن الحضارة فيما نتخيله من صفات نميل إليها بمزاجنا الذهني أو بحكم صناعتنا أو الظروف الوقتية التي نعيش فيها، وإنما علينا أن نعمد إلى الأمم التي اشتهرت بالعصور الذهبية وقت ارتقاء حضارتها ثم نفتش فيها عن الصفات البارزة التي تشترك فيها وتعد هذه الصفات شرطًا للحضارة أو التمدن الراقي، وهذا هو ما فعله المستر بل، فإنه بحث حضارة الإغريق القدماء في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد، ثم بحث عصر النهضة في إيطاليا، ثم العصر السابق للثورة الفرنسية في فرنسا، ووجد بالمقابلة أن هذه العصور الثلاثة تشترك في جملة صفات هي ما نعني نحن الآن بالحضارة الراقية، وهذه الصفات هي سيطرة العقل وتسويده على جميع المناحي التي ينحو إليها نشاط الأمة، وهذه السيطرة التي للعقل تورث الأمة ذوقًا خاصًّا يحترم الحق والجمال، ويبعث على التسامح وشرف الذهن، والتأنق والمجاملة والاستطلاع، وإدراك معنى الفكاهة، وكراهة الإسفاف والقسوة والمبالغة والخرافات والحياء الكاذب، والتجرؤ على التمتع بالحياة، والرغبة في الحصول على تربية حرة، والقدرة على الإعراب عما في النفس.
وهذه هي صفات الحضارة الراقية كما يراها المستر بل في أحسن العصور الذهبية لثلاث أمم من أعظم الأمم في تاريخ العالم، وهي مقياس يمكننا أن نقيس به الدرجة التي بلغناها في معارج الرقي، وأول ما نتساءل عنه هو: هل نحن نجعل للعقل السيطرة التامة في شئوننا العامة؟ ثم هل نحترم الجمال والتسامح ونكره القسوة والمبالغة؟
إن المتتبع للغة الصحف في الشهرين الماضيين لا يتمالك الأسف لما بلغته من الإسفاف في وصف خصومها، والمبالغة في هذا الوصف، حتى لقد ذكر أحد الكتاب حزبًا من الأحزاب بأن أعضاءه عواهر، ولم يقنع بهذه اللفظة العامية المعبرة عنها.
إن في سمات الحضارة الراقية التي ذكرها المستر بل أشياء جديرة بالنظر والدرس، ولكن نحن في ظروفنا الحاضرة نرى أن شروط المجاملة والتسامح وكراهة المبالغة والإسفاف قد غابت من الصحف في الشهرين الماضيين، وصار الكاتب يصف خصومه السياسيين بالجنون والخيانة والعهر وسائر مترادفات هذه الألفاظ وهو لا يبالي بما يقول، فعلينا جميعًا أن نذكّر أمثال هذا الكاتب بشروط الحضارة الراقية ونسأله: هل أنت متمدن؟