في التقدم
تتقدم الأمم وترتقي بجملة وسائل، منها التسلط على الطبيعة، وذلك باختراع الآلات التي توفر على الإنسان مشقة العمل وتزيد بذلك حريته ورفاهيته، ومنها الارتقاء في الأخلاق، وليس هذا الارتقاء سوى الرضى بالتعاون بدلًا من التنازع والنزول عن الأثرة من أجل الإيثار، ومنها رفع المستوى في التعليم حتى يفوز كل إنسان بحقه في الثقافة العالمية.
هذه بعض الوسائل التي تتقدم بها الأمم، فأما من حيث التسلط على الطبيعة واستغلالها لمصلحة الإنسان فهذا واضح من الآلات الكثيرة التي لا تجعلنا نركب الهواء فقط، بل نزرعه كما نزرع الأرض ونستخرج منه النتروجين، وكذلك تقدم الصناعة بالكيمياء التي جعلتنا، أو بالأحرى جعلت من هم أعلم منا وأثقف، يصنعون الحرير من الكرنب والموز والحطب وربما قضوا على زراعة القطن عندنا يومًا ما.
ولكن إلى جانب هذا التقدم الصناعي نجد تقدمًا في الأخلاق، فالرق ألغي منذ القرن الماضي، وكان إلغاؤه لحافز إنساني لأن الأديان لم تحرمه قط، وكانت المرأة إلى وقت قريب في معظم أرجاء العالم تعيش كالأمة التي لا رأي لها في شأن ما أمام زوجها، ولكن الرجل نزل عن حقوقه راضيًا ورفعها إلى مستواه فصار لها رأي في البرلمانات وسائر المجالس النقابية، وقد كان من الحوادث الجميلة في عصرنا الحديث أن نرى أمة كبيرة تبلغ نحو ١٣٠ مليونًا من السكان، نعني بها الولايات المتحدة، ينزل فيها الرجال عن حقهم في شرب الخمور ويحرمونها على أنفسهم بشرعة خاصة وفي الوقت نفسه يمنحون المرأة حق التصويت للهيئات النيابية أسوة بهم. أليس هذا ارتقاء في الأخلاق؟
ومن الظواهر التي تدل على التقدم في الأخلاق تلك العناية التي نراها لمصلحة العمال، وتعليمهم، وإسكانهم في مساكن نظيفة، وتحديد ساعات العمل لهم، ومنحهم المعاشات عندما يبلغون سن الشيخوخة، فهذه العناية قد قام بها الأغنياء لمعاونة الفقراء، وكان الدافع إليها تلك الأريحية التي يشعر بها الرجل المهذب فتسخو نفسه بالإصلاح ولو كان فيه بعض الخسارة أو المشقة عليه، وقد قامت أحزاب الأحرار في أوروبا وأمريكا بضروب من الإصلاح لم تتحقق للآن في روسيا نفسها، بل الواقع أن في إنجلترا من الاشتراكية أكثر مما في روسيا، وليس ذلك إلا لأن في إنجلترا طبقة من الأغنياء المهذبين نزلوا عن كثير من حقوقهم راضين للعمال، ولم يكن لهم من باعث سوى أخلاقهم.
وثم وسيلة ثالثة نراها في التعليم وارتقائه بين الأمم المتمدنة، فمعظم الأمم الراقية الآن لا تقنع بالتعليم الابتدائي الإجباري، بل تتجاوزه إلى جعل التعليم الثانوي أو بعضه إجباريًّا، ولم يعد التعليم يجري على التقاليد القديمة، بل هو يماشي حاجات الثقافة الحديثة، ففي ألمانيا يتعلم التلاميذ في إحدى المدارس الابتدائية كيف يصنعون الطيارات ويركبونها، وفي معظم المدارس الألمانية أيضًا يتعلم الصبي صناعة التصوير بالفتوغرافية.
هذه الأمثلة للتقدم، أي التقدم في الصناعة والأخلاق والتعليم، تدل على رقي محسوس لا يمكن أحدًا منا إنكاره، وقد يمكننا أن نذكر بعد ذلك تقدم العالم في الصحة وفي العلاقات الأممية، كما يدل على ذلك ميثاق كيلوج وعصبة الأمم ومحكمة لهاي، وكلها ترمي إلى محو الحروب فلا نشك بعد ذلك في أن العالم يتقدم.