مصلحتك هي مصلحة الجماعة
إنك تعمل ضد نفسك إذا عملت لنفسك فقط؛ لأن مصالحك متعلقة بمصالح الجماعة التي تعيش بينها بل بمصالح العالم كله، وهذه حقيقة عرفتها بعض الدول التي كانت تحارب ألمانيا، فإنها ظنت أن بالقضاء عليها تنفرد هي وحدها بسلطتها في العالم، ولكن خراب ألمانيا عاد بالخراب على أعدائها أيضًا لأن أمم العالم متضامنة لا تقدر إحداها أن تبيع شيئًا ما لم تقدر الأخرى أن تشتريه، فالنية السيئة التي انطوى عليها بعض الدول لألمانيا عادت عليها هي نفسها بالضرر نفسه الذي عاد على ألمانيا، بل ربما بأكثر منه.
وقد بدأ الإنجليز يدركون مغزى آخر لهذه النظرية في أحوالهم الداخلية فقد رأوا من الرواج في الولايات المتحدة ما تعجبوا له ولم يفهموا سره إزاء الكساد الذي يرونه في بلادهم، وأخيرًا عرفوا أن زيادة أجور العمال في أميركا تزيد قدرتهم على الثراء فتروج الأعمال ويعم الرخاء أخذًا وعطاءً. أما في إنجلترا فإن كل محاولة لإنقاص الأجور تنشر الكساد بين الناس؛ لأن العمال وهم كثرة الأمة لا يستطيعون الشراء، فأصحاب المصانع الذين يريدون رواج مصنوعاتهم لا يمكنهم أن يحققوا ذلك ما داموا يعملون في الوقت نفسه على إنقاص أجور عمالهم، فمصلحة الممول هي نفسها مصلحة الأجير ولا يمكن الممول أن يطلب السعادة لنفسه إذا كان يطلب الشقاء لأجيره لأنهما متضامنان.
وأنت أيضًا أيها القارئ لا يمكنك أن تخدم مصالحك ما لم تخدم مصالح الأمة التي تعيش فيها، ولا يمكنك أن تسعد إذا كانت الجماعة التي تعيش حولك شقية؛ لأن شقاءها يعود عليك بالذات فأنت كي تعيش عيشة صحية وكي يسلم أطفالك من الأمراض يجب أن تنشر الصحة والعافية بين الجماعة التي تعيش بينها، وتنتفي الأمراض من بينها لأنه لن يكون أولادك في أمن من المرض ما دام أولاد جارك مرضى، فعنايتك بأولادك تقتضي العناية بأولاد جارك حتى لا تنتقل عدواهم إليك.
ولن تستطيع أن تشرب ماءً نظيفًا خاليًا من جراثيم المرض حتى تحتم وجوب نظافته لجميع سكان البلدة التي تعيش فيها، ولن يكون ولدك آمنًا في الطريق من لص يسرقه أو ترام يدهمه أو غبار يملأ عينيه أو منظر يفسد أخلاقه ما لم تسع لجميع الأولاد كي يكون طريقهم آمنًا أيضًا.
فأنت بوسطك لن ترتفع أكثر مما يرتفع معك، ولن ينزل هو حتى يجرك وراءه، فمصالحنا الذاتية تقتضي أن ننظر إلى مصالح الآخرين لأن خيرهم خيرنا وشرهم شرنا.
كنت من مدة أقرأ أحد كتب التاريخ لمسكويه، وهو يروي فيه تاريخ بغداد والخلافة وقت التدهور والزوال حين كانت اللصوصية سلم الأمارة والحكم، وقد روى تاريخ أحد الأمراء وكيف أدى سوء سياسته إلى خراب بلاده فقال إن هذا الأمير كان إذا جبى الضرائب الفادحة وعجز الأهالي عن الدفع ارتهن أملاكهم بما ينكسر عليهم من الضرائب، فإذا غلق الرهن ولم يدفعوا اشترى منهم هذه الأملاك بأبخس الأثمان بالرهن أو بقليل زيادة عليه، وانتهت هذه الخطة العجيبة بأن أصبحت مملوكات الأهالي كلها ملك هذا الأمير السافل، ولكن ماذا حصل لديه بعد ذلك؟ بعد أن أصبح صاحب البلاد ملكًا وملكًا قل دخل الحكومة ونقص عما كان وقت أن كانت المملوكات ملكًا للأهالي، وأخذت العقارات تتدهور نحو الخراب فلا يتحرك الأهالي لترميمها؛ لأنهم لا يملكونها، وفشا الكساد وعم الفقر جميع الناس.