ميراث الأبناء
منذ مدة نقلنا عن أحد أغنياء الإنجليز أنه حرم أولاده من الميراث وقال في وصيته: إنه ليس من تقاليد عائلته أن يثري واحد فيها من غير جده وسعيه، وهو قد أدى واجبه ورباهم وعليهم بعد ذلك أن يسعوا.
وهذا شذوذ وغلو في تعليم الأبناء والاعتماد على النفس، ولكن التربية المتقنة والعوائد الحسنة التي يكسبها الأبناء من الآباء ميراث كبير قد يفوق أحيانًا جميع المزايا التي يمتاز بها من يكون ميراثهم الأموال الجزيلة، وهل يمكن إنسانًا أن ينكر قيمة التربية المدرسية مثلًا وما تستتبعه من مزايا لا يحصل عليها المحرومون منها؟ أو هل ينكر أحد قيمة العوائد الحسنة التي يكتسبها الشباب من والديه كالمواظبة والنظافة والقناعة في الطعام والشراب وكراهة المسكرات أو التدخين أو بذاءة اللسان.
إن القدوة هي أكبر عامل في التربية، وليس أحسن من أن يرى الابن القدوة الحسنة في أبويه، فإن سن الطفولة والصبا والشباب هو سن الانطباع والتكييف والتخلق فإذا وجد الابن في أبويه مثلًا صالحًا نشأ هو أيضًا صالحًا يكره بطبعه المفاسد ويصد عن المغاوي.
ولكن هناك ما هو أهم من التربية وهو الاستعداد للتربية؛ لأن الأبناء لا يستوون في الكفايات الطبيعية وإن استووا في جميع ظروف التربية.
فأكبر ميراث يرثه الابن من الأبوين هو هذه الكفاية الطبيعية التي يستعد بها لقبول التربية واكتساب التجارب، وبعبارة أخرى نقول إن أكبر ميراث يرثه الابن هو صحة الجسم وسلامة العقل.
وأنت أيها القارئ لا بد أنك عرفت في حياتك كثيرين من الوارثين ورثوا المال عن أبويهم ثم أضاعوه في سنوات قليلة، ولا بد أنك تساءلت عن العلة في هذا السفه في الأبناء مع الحرص الشديد في الآباء، وقد يكون هناك أكثر من علة واحدة ولكن العلة الكبرى هي أن الأبن لم يرث من أبويه كفاية طبيعية تضمن له سلامة المال الذي ورثه أو استثماره والزيادة عليه.
ويرجع ذلك كله إلى عدم العناية بانتقاء الزوجة، فإن كثيرين في بلادنا الشرقية لا يعرفون من الفتيات قبل الخطبة إلا القليل، وذلك لقلة الاختلاط والمعاشرة، فإذا تم الزواج وجد الزوج أن شريكته في الحياة ناقصة العلم بطيئة الإدراك على حدود الغفلة أو قد تعدو الغفلة أحيانًا إلى البله، وقد يكون الزوج في غاية الذكاء والحصافة ولكن الآباء ليسوا أبناء آبائهم فقط، فإن نصف ذكائهم يرجع إلى أمهاتهم، فإذا كانت الأم مغفلة أو بلهاء فأولادها يمتون بعرق إليها ولا تنفعهم مزايا الأب أمام نقائص الأم.
وهذا علة ما نراه من خيبة بعض الوارثين في الحياة وإضاعتهم أموال آبائهم، فإنهم ورثوا المال والعقار ولكنهم فقدوا أهم ما كان يجب أن يرثوه من كفاية طبيعية وحصافة أصلية في النفس.
والآن نقول إنه إذا كانت أهم غاية اجتماعية للزواج هي النسل وجب أن يعنى كل من الزوجين بانتقاء الآخر من حيث سلامة الجسم والعقل أكثر من العناية بالمال أو الجمال أو غير ذلك من الاعتبارات، ولا يكون ذلك إلا إذا عاشر الخطيب خطيبته عدة أشهر قبل الزواج، وعرف مقدار ذكائها واتجاه حديثها ونزعاتها التي تنطق بها حتى فلتات لسانها.
لقد قيل إن تربية الأولاد تبتدئ قبل ولادتهم، وذلك بالعناية بالأم حتى يولد الولد صحيحًا مستكملًا مدة حمله، ولكننا يجب أن نزيد على ذلك ونقول إنه يجب العناية بانتقاء الزوجة أيضًا حتى تكون سليمة الجسم ذكية العقل، كي يرث ابنها هاتين الصفتين الثمينتين.