المعتزلة
وقد بدأنا بها لأنها أهم فرقة يدين لها علم الكلام مما أثارت من مسائل، وبسطت من شرح، ووضعت من أصول؛ ولنقسم الكلام فيها إلى قسمين: قسم يتضمن أهم تعاليمهم، وقسم يتضمن تاريخهم السياسي؛ فإذا ذكرنا تعاليمهم فصلنا بعض التفصيل آراءهم وأدلتهم ووجهة نظرهم، وألممنا إلمامة خفيفة بموقف خصومهم منهم؛ وإذا ذكرنا تاريخهم السياسي عرضنا لأشهر رجالهم، والمسائل الفرعية التي قال بها كل منهم، ولموقفهم من الدولة وموقف الدولة منهم، وموقفهم من الرأي العام وموقف الرأي العام منهم، وأهم الأحداث التي حدثت منهم ولهم، وهكذا.
(١) تعاليمهم
للمعتزلة مبادئ يكادون يشتركون فيها جميعًا، ومبادئ خاصة ببعض رؤسائهم؛ فالأولى هي التي نذكرها الآن، والأخرى نرجئها — غالبًا — إلى ترجمة أصحابها؛ فأما المبادئ العامة للمعتزلة فيكاد المؤرخون يجمعون على أنها خمسة أصول:
-
(١)
القول بالتوحيد.
-
(٢)
القول بالعدل.
-
(٣)
القول بالوعد والوعيد.
-
(٤)
القول بالمنزلة بين المنزلتين.
-
(٥)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(١-١) التوحيد
وقد عدّ هذا المبدأ من أهم مبادئ المعتزلة، لأنهم ذهبوا في تفسيره تفسيرًا خاصًا، وبلغوا في تحليله وفلسفته أقصى حد، فمن ثم نسب إليهم خاصة، وإن كان المسلمون جميعًا يمتازون بالتوحيد، وباعتقاد أن «لا إله إلا الله وحده لا شريك له».
ذلك أن المعتزلة رأوا أن في القرآن آيات كثيرة تدل على التنزيه من مثل قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وآيات ظاهرها يدل على التجسيم من مثل قوله تعالى: يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ورأوا آيات تدل على أنه تعالى ليس في جهة معينة مثل قوله: وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ، وآيات ظاهرها الجهة مثل قوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، وأَأَمِنْتُم مَّن فِي السَّمَاءِ.
وكان كثير من علماء المسلمين في ذلك العصر يؤمنون بالتنزيه إيمانًا إجماليًا، ويمسكون عن الكلام في الآيات الأخرى كآية الاستواء على العرش، والوجه، واليدين، والجهة، ويقولون إننا نؤمن بوجود الله ووحدانيته، ولا نذهب وراء ذلك، لأنه لا يجب علينا أن نعرفه، وإنما يجب علينا أن نؤمن به كما ورد، وإننا إن دخلنا في تفصيل ذلك وتأويله كان تأويلنا قولنا لا قول الله، وهو عرضة للخطأ، فيجب أن نتحرز منه. وقد نقل عن السلف كثير من هذه الأقوال التي يتحرجون فيها من إبداء آرائهم، نقلنا بعضها قبل.
وهكذا لما خلص لهم دليل التنزيه على النحو الذي فسروه به أوَّلوا كل الآيات الدالة على الجهة، وعلى الأعضاء، وعلى مشابهة المخلوقات، وفعلوا ذلك في جميع الآيات والأحاديث التي قد يخالف ظاهرها أصل التوحيد بالمعنى الذي شرحوه؛ فقالوا بنفي الجهة، لأن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية، فكل ما ورد مما ظاهره هذه الجهة يجب أن يؤول، مثل: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ، ومثل: يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلىَ الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مَّمَّا تَعُدُّونَ، وقوله: تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيهِ، وقوله: أَأَمِنْتُم مَّن فِى السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ. وكذلك فعلوا في الآيات التي تدل على الجسمية كإثبات الوجه واليدين، فقالوا: إن الدليل على أنه تعالى ليس بجسم أن كل جسم محدث، لحاجة الجسم إلى الأعراض، كالطول والعرض والجهة وما إلى ذلك، وما لا يتعرى عن الحوادث حادث، ولذلك وجب تأويل الآيات التي تشعرنا بالجسمية. وفي تفسير الكشاف للزمخشري — وهو من أكبرعلماء المعتزلة — أوضح مثل لما ذهبوا إليه في التأويل؛ فقد وفي ذلك كله في الآيات التي من هذا القبيل.
وقد كانوا منطقيين مع أنفسهم، وساروا في تطبيق نظرياتهم إلى آخر حدود التطبيق، ولنذكر لك مثلين من أهم ما سلكوه في الاستنتاج:
(المثل الأول) ما أثاروه من مسألة رؤية الله بالأبصار — فقد رأوا أنه إذا انتفت الجسمية انتفت الجهة، وإذا انتفت الجهة انتفت رؤية الناس له تعالى؛ إذ كل مرئي في جهة من الرائي، ولا بد للرؤية من شروط: كالضوء، وكون المبصر ذا لون إلخ، وذلك كله محال في جانب الله.
وبجانب هذه الأدلة العقلية استدلوا بأدلة نقلية مثل قوله تعالى: لاَ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ ومثل قوله: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلىَ الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أوَّلُ المُؤْمِنِيَن، فقوله لن تراني يثبت نفي الرؤية مع تأكيده.
وقد ثار الجدل بين المعتزلة وخصومهم حول هذه الآية فقال خصومهم: إن الآية تدل على إمكان الرؤية لأن موسى سألها، ولو كانت مستحيلة لم يسألها، لأنه ليس أقل من المعتزلة معرفة — وأجاب المعتزلة إجابات كثيرة عن هذا السؤال، منها أن قوم موسى كانوا طلبوا أن يروا الله جهرة، فأنكر موسى عليهم وأعلمهم خطأهم، ونبههم على الحق فألحوا، فأراد أن يسمعوا النص من كلام الله فطلبه للرؤية ترجمة عن مقترحهم، وحكاية لقولهم، إلى آخر ما قالوا.
فلما خلصت لهم هذه العقيدة — عقيدة عدم إمكان الرؤية — وصح عندهم الدليل العقلي والنقلي على ذلك أوَّلوا كل ما يظهر منه خلاف هذا من الآيات، وأنكروا كثيرًا من الأحاديث التي تدل على الرؤية، فقالوا إنها أخبار آحاد، وأخبار الآحاد لا توجب العلم إذا عارضها ظاهر القرآن، مثل قوله تعالى: لاَ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ.
(المثل الثاني) مسألة صفات الله — ذلك أن المعتزلة قالوا — مثل كل المسلمين — بإله واحد، ولكنهم فلسفوا الوحدانية، فقالوا إن معنى وحدانيته أن ليست ذاته تعالى مركبة من اجتماع أمور كثيرة، لأنه لو كان مركبًا لافتقر تحققه إلى تحقق كل جزء من أجزائه، وكل جزء من أجزائه غيره، فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره، والله منزه عن الافتقار إلى الغير، فحقيقته تعالى أحدية فردية لا كثرة فيها بوجه من الوجوه، فليست له كثرة مقدارية كالتي للأجسام، ولا كثرة معنوية كما لأشخاصنا المركبة من ماهية وتشخص، إنما هو واحد تام الأحادية، ليس ذا أجزاء مقدارية ولا أجزاء معنوية.
فلما فسروا التوحيد بهذا المعنى الدقيق ثارت أمامهم مشكلة أو أثاروها هم، وهي مسألة «صفات الله» هل هي عين ذاته أو غير ذاته، لما يتصل من ذلك بمعنى التوحيد الذي قرروه.
وهي مسألة لم تُثر في الإسلام من قبلهم، فلم يذكر في القرآن ولا الحديث الصحيح كلمة (صفات الله) ولم يعرف ذلك عن أحد من الصحابة والتابعين، إنما ورد قوله تعالى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ونحوه، حتى جاء المعتزلة فوضعوا مسألة (صفات الله) هذا الوضع، وشغلت حيزًا كبيرًا في علم الكلام، وأثير حولها من الجدل ما جعلها في الصف الأول من المسائل الكلامية.
ذلك أن القرآن صرح بأوصاف الله في مواضع متفرقة؛ وهذه الأوصاف تنحصر في سبع: العلم، والحياة، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام. فتساءل المعتزلة بعد تقريرهم التوحيد بالمعنى الذي شرحناه: هل هذه الصفات هي الذات نفسها أم هي زائدة عن الذات؟ وبعبارة أخرى: هل هذه الصفات لا توجب معنى جديدًا خلاف الذات، أو توجب معنى جديدًا غير الذات؟ فهناك صفات سلبية لفظاًَ ومعنى لا تثبت شيئًا إيجابيًا مثل: (ليس كمثله شيء)؛ وهناك صفات إيجابية لفظًا سلبية معنى، وهي كذلك لا تثبت شيئًا إيجابيًا، كالوحدانية والقدم، فمعنى الوحدانية عدم الشريك، ومعنى القدم انعدام الأوَّلية، وليست هذه هي محل نظر المعتزلة؛ وهناك صفات إيجابية لفظاًَ ومعنى؛ كالإرادة والقدرة والعلم، فهل هي تثبت شيئًا زائدًا عن الذات؟ وهل الله عالم بعلم زائد عن الذات، وقادر بقدرة زائدة عن الذات، وحيّ بحياة زائدة عن الذات؟ وهكذا.
فلما فسر المعتزلة التوحيد بالمعنى الذي ذكرنا كانوا مضطرين أن يقولوا إن ذات الله وصفاته شيء واحد، فالله حي عالم قادر بذاته لا بعلم وقدرة وحياة زائدة على ذاته، لأنه لو كان عالمًا بعلم زائد على ذاته، وحيًّا بحياة زائدة على ذاته كما هو الحال في الإنسان، للزم أن يكون هناك صفة وموصوف، وحامل ومحمول، وهذه هي حالة الأجسام، والله منزه عن الجسمية. ولو قلنا إن كل صفة قائمة بنفسها لتعددت القدماء، وبعبارة أخرى لتعددت الآلهة.
ثم اختلفت المعتزلة فيما بينهم في تفسير هذا الأصل، فكان أبو الهذيل العلّاف يقول: إنه عالم بعلم هو هو، وقادر بقدرة هي هو، وحيُّ بحياة هي هو؛ فالعلم والقدرة والحياة هي نفس ذاته، وإنما اختلف التعبير لغرض، فإذا قلت «عالم» أثبت لله علمًا هو ذاته ونفيت عن ذاته الجهل، ودللت على أن هناك معلومات منكشفة لذاته، وإذا قلت «قادر» أثبت لله قدرة هي ذاته ونفيت عن ذاته العجز، ودللت على أن هناك مقدورات له، وهكذا.
ويفهم من قول النظام، أن صفات الله من حياة وقدرة وعلم وإرادة إلخ، إنما هي كذلك صفات سلبية لا تقتضي للذات شيئًا زائدًا عليها؛ فالعلم معناه نفي الجهل عن ذاته، ومعنى «عالم» أن ذاته ليست بجاهلة، ومعنى «قادر» نفي العجز، ومعنى «الحياة» نفي الموت وهكذا؛ وتعددت الصفات لاختلاف ما ينفي عن الذات، أما الذات نفسها فواحدة لا تعدد فيها، ولا تلحقها صفات وجودية.
وهذه التفسيرات كما ترى، تفسيرات متقاربة تختلف شكلًا وتتحد جوهرًا، وتلتقي في إثبات أن لا شيء غير الذات، وأن الصفات تختلف باختلاف إدراكاتنا نحن لمعاني ذاته.
ولما وصل المعتزلة إلى هذا الحد من قولهم أثاروا مسائل حول الصفات لا حصر لها كان يسلم بعضها إلى بعض.
وكذلك أثاروا مسألة من أهم المسائل وأعقدها، كان الفلاسفة اليونانيون قبلهم تكلموا فيها، فأثارها المعتزلة على نمطهم، وأجابوا عنها في حدود إيمانهم.
تلك هي أنهم قالوا: إذ ثبت أن الله قادر، عالم، محيط، وأن ذات الله وصفاته لا يلحقهما تغير، لأن التغير صفة المحدثات، والله منزه عن ذلك، فإذا كان الشيء يوجد وقد كان غير موجود، ويعدم وقد كان موجودًا، وقدرة الله وإرادته هما اللتان تولّتا ذلك فأوجدتا الشيء بعد أن لم يكن، وأعدمتاه بعد أن كانت؛ فكيف تتعلق القدرة الإلهية القديمة بالشيء الحادث فتوجده، ولِمَ أوجدته في هذه اللحظة دون غيرها وليس زمن أولى من زمن؟ فمباشرة القدرة لشيء بعد أن كانت لا تباشره تغير في القدرة، وقد ثبت أن الله لا يلحقه تغير ما، إذ ذلك — بلا شك — شأن القديم، وكذلك القول في الإرادة. ومثل ذلك يقال في العلم؛ فالعلم هو انكشاف المعلوم على ما هو عليه، والمعلوم يتغير من حين لآخر؟ فورقة الشجرة تسقط بعد أن كانت غير ساقطة، والرطب يتحول يابسًا، والحي ميتًا؛ والله يقول: وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ؛ وعلم الله تعالى ينكشف به الشيء على ما هو عليه، فهو عالم بالشيء قبل أن يكون على أنه سيكون، وعالم بالشيء إذا كان على أنه كان، وعالم بالشيء إذا عدم على أنه عدم؛ فكيف يتغير علم الله بتغير الموجودات، والعلم المغير بتغير الحوادث علم محدث، والله تعالى لا يقوم به محدث، لأن ما يتعلق به المحدث محدث؟
وقد سلك المعتزلة هم ومن بعدهم مسالك مختلفة للإجابة على هذا السؤال العسير الذي حير العقول، وكان للمتكلمين مناحٍ في الإجابة، وللفلاسفة من المسلمين مناحٍ أخرى.
فمن المتكلمين من قال: إن من المسلم به أن علمنا بأن زيدا سيقدم، غير علمنا بأنه قدم فعلًا، وتلك التفرقة ترجع إلى تجدد العلم، ولكن ذلك في حق الإنسان، فهو الذي يتجدد علمه لأن مصدر العلم وهو الإحساس والإدراك متجدد، أما في حق الله فلا تفرقة عنده بين مقدّر سيكون، ومحقق قد كان، ومنجَّز حدث، ومتوقع سيحدث؛ بل المعلومات كلها بالنسبة له على حال واحدة.
ومن المعتزلة من قال: إن الله تعالى عالم بذاته بكل ما كان وما سيكون، وكل المعلومات معلومات عنده بعلم واحد، والاختلاف بين ما سيكون وما كان يرجع إلى الاختلاف في الأشياء نفسها لا في علم الله.
•••
وكان طبيعيًا بعد ما أثيرت هذه المسائل أن تثار مسألة تتصل بها أشد الاتصال، وهي مسألة كلام الله وخلق القرآن، وهي أبرز شيء كان في تاريخ المعتزلة لما اتصل بها من أحداث تاريخية واجتماعية وسياسية.
والآن نبدأ بشرح وجهة نظر المعتزلة في هذه المسألة من الوجهة العلمية ونترك تاريخها وأحداثها عند الكلام في تاريخها السياسي:
قالوا إنه ثبت بالبرهان أن الله — ذاته وصفاته — وحدة لا تقبل التجزئة بحال من الأحوال، وثبت بالبرهان أن ذات الله وصفاته لا يلحقها تغير ولا تقوم بها المحدثات — (وقد تقدم برهانهم على هذين الأصلين) — وقد رأينا الله يسند إلى نفسه الكلام فقال: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، وسمي القرآن كلام الله في قوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِيَن اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ، فما معنى وصف الله بالمتكلم، ووصف القرآن بأنه كلام الله؟
قالت المعتزلة: إذا كان الله وصفاته وحدة لا تقبل التغيير فمحال أن يكون القرآن كلام الله على معنى أنه صفة من صفاته، لأنه لو كان كذلك لكان هو وذاته وبقية صفاته شيئًا واحدًا، ونحن نرى أن في القرآن أمرًا ونهيًا وخبرًا واستخبارًا ووعدًا ووعيدًا، فهذه حقائق مختلفة، وخصائص متباينة، ومن المحال أن يكون «الواحد» متنوعًا إلى خواص مختلفة، وهذه الخواص قد تتضاد كالذي بين الأمر والنهي.
ثم، إذا كان القرآن كلامًا أزليًا هو صفة من صفات الله ترتب على ذلك جملة استحالات: أولها: أن الأمر لا قيمة له ما لم يصادف مأمورًا، فلا يصح أن تصدر «أقيموا الصلاة» إلا إذا كان هناك مأمورون بالصلاة، ولم يكن في الأزل مأمورون مخاطبون، ومحال أن يكون المعدوم مأمورًا، والأمر من غير مأمور، بل والكلام كله من غير مُكلَّم «من أمحل ما ينسب إلى الحكيم».
ثانيها — أن الخطاب مع موسى عليه السلام غير الخطاب مع محمد عليه السلام، ومناهج الكلامين مع الرسولين مختلفة، ويستحيل أن يكون معنى واحد هو في نفسه كلام مع شخص على معان ومناهج، وكلام مع شخص آخر على معان ومناهج أخرى، ثم يكون الكلامان شيئًا واحدًا ومعنًى واحدًا؛ أضف إلى ذلك أن الخبرين عن أحوال الأمتين مختلفان لاختلاف حال الأمتين، فكيف يتصور أن تكون حالتان مختلفتان يخبر عنهما بخبر واحد؟! والقصة التي جرت ليوسف وأخوته غير القصة التي جرت لآدم ونوح وإبراهيم؛ وإذا اختلفت هذه الاختلافات استحال أن يكون الكلام صفة لله، وهو الواحد في ذاته وصفاته الذي لا يختلف ولا يطرأ عليه اختلاف.
ثالثها — أن المسلمين أجمعوا قبل ظهور هذا الخلاف على أن القرآن كلام الله، واتفقوا على أنه سور وآيات وحروف منتظمة، وكلمات مجموعة وهي مقروءة مسموعة، ولها مفتتح ومختتم، وهو معجزة رسول الله، وأجمعت الأمة على أنه بين أيدينا نقرؤه بألسنتنا ونحسه بأيدينا، ونبصره بأعيننا ونسمعه بآذاننا، ومحال أن يكون هذا كله وصفًا لصفة الله. فالكلام الأولى الذي هو صفة الله لا يوصف بمثل هذه الأوصاف.
هذه أدلتهم العقلية. ولهم بعد ذلك أدلة نقلية منها:
-
(١)
أن الله تعالى يقول: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ، وإذ ظرف زمان ماض، فيكون قوله الواقع في هذا الظرف مختصًا بزمان معين، والمختص بزمان محدث.
-
(٢)
يقول الله: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصَّلَتْ، وهذا يدل على أن القرآن مركب من الآيات التي هي أجزاء متعاقبة فيكون حادثًا.
-
(٣)
قوله تعالى: حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ، والمسموع حادث لأنه لا يكون إلا حرفًا وصوتًا.
-
(٤)
أنه تعالى عبر عن القرآن بقوله: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ولا شك أنه لا إنزال في الأزل.
-
(٥)
أن القرآن نص على نسخ بعض الآيات بقوله: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَو نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا، ولا يتصور النسخ إلا في الحادث، لأن القديم ليس عرضة لذلك … إلخ.
وكأن الزمخشري أراد أن يجعل كل هذه الأدلة ويشير إليها في خطبة تفسيره «للكشاف» إذ يقول: «الحمد لله الذي أنزل القرآن كلامًا مؤلفًا منظمًا، ونزّله بحسب المصالح منجمًا، وجعله بالتحميد مفتتحًا، وبالاستعاذة مختتمًا، وأوحاه على قسمين متشابهًا ومحكمًا، وفصّله سورًا، وسوَّره آيات، وميّز بينهن بفصول وغايات. وما هي إلا صفاتُ مبتدع، وسمات منشأ مخترع؛ فسبحان من استأثر بالأولية والقدم، ووسم كل شيء سواه بالحدوث عن العدم، أنشأه كتابًا ساطعًا تبيانه، قاطعًا برهانه، وحيًا ناطقًا ببينات وحجج، قرآنًا عربيًا غير ذي عوج» إلخ.
•••
وكان يناهض المعتزلة في صفة الكلام وخلق القرآن وغيرها من الصفات فريقان:
فهم — كما ترى — يرون الوقوف عند النص، ولا يسمحون لأنفسهم بتأويلها، وكأنهم يرون أن معرفة صفات الله وذاته فوق العقل البشري. وليس من القدرة ما يستطيع بها أن يدرك كنهها ولا كيفيتها، فتحاشوا أن يسألوا بما وبكيف، وقالوا نؤمن بما جاء كما جاء، ولا نتكلم فيما لم يجيء. وقالوا: إذا عجزنا في أنفسنا عن «ما» دائمًا، وعن «كيف» كثيرًا، فكيف نستطيع أن نجيب عن «ما» و«كيف» في ذات الله وصفاته؟! وإذا كان ذلك كذلك فلنؤمن بما جاء، ولنقف عند ما جاء، فلا نبحث فيما إذا كانت صفات الله عين ذاته ولا غير ذاته، ولا نبحث في كيف تصدر المحدثات عن القديم، ولا كيف يتصل علم الله القديم بالمعلومات المحدثة، ولا نحو ذلك، لأنها فوق عقولنا، وإذ ذاك تكون مجالًا للزلل؛ فجوهر الخلاف إذًا بين هؤلاء والمعتزلة هو سلطة العقل ومداها وحدودها؛ رأي المعتزلة أن العقل البشري قد منح من السلطة والسعة ما يمكنه من إقامة البرهان حتى على ما يتعلق بالله، فلا حدود للعقل إلا براهينه، ولا زلل ولا خطأ متى صلح البرهان، فلنستعمل البراهين في أدق الأمور وأصعبها وأعقدها، ففي استطاعة العقل الوصول إلى الحق فيها. وهكذا كانت نزعة المعتزلة هذه متجلية في كل أبحاثهم، يسيرون وراء البرهان إلى نهايته، ويثيرون أصعب المشاكل وأعقدها، ويتعرضون لحلها، فإذا تم لهم حلها أو — على الأقل — اعتقدوا بحلها، تأولوا آيات القرآن على مقتضاها. وعلى العكس من ذلك الآخرون: رأوا أن العقل أضعف من ذلك، وأن استطاعته محدودة بإدراك ما يتعلق بشأنه هو أو أقل من ذلك، وأنه منح القدرة على أن يدرك البرهان على وجود الله، والنبوة العامة، ونبوة محمد خاصة؛ ولم يمنح القدرة على كنه الله وصفاته، فلنؤمن بما جاء به أنبياؤه، ولنقف عند ما قالوه، ولا نُثر مشاكل لم يأت بها الأنبياء، ولنسد الطرق على من يثيرونها، فإن جادلناهم في شيء ففي بيان خطئهم وفساد طريقتهم؛ فلما أثار المعتزلة القول بخلق القرآن قالوا هم: «القرآن كلام الله لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق»، فإثارة هذه المسألة بدعة لم يقلها النبي ﷺ ولا صحابته، فلا نتابعكم في السير فيها، ولا نتابعكم في الجدال والخصومة، ونقف عند قولنا: القرآن كلام الله، وهذا فقط هو ما قال الله في قرآنه الكريم.
وهو قول ظاهر البطلان صادر من عقل ضيق ونظر سقيم.
هذان هما الفريقان اللذان ناهضا المعتزلة في قولهم بخلق القرآن، فكان الخلاف دائرًا حول القرآن، أعني حروفه وألفاظه وكلماته؛ يقول المعتزلة بحدوثها، ويقول بعض الحنابلة بقدمها، ويقول آخرون لا نتكلم في هذا الموضوع.
وظل النزاع محصورًا في هذه الدائرة أيام محنة القول بخلق القرآن، أعني أيام المأمون والمعتصم والواثق.
حتى جاء أبو الحسن الأشعري المتوفى نحو سنة ٣٣٠، ونقل موضوع النزاع إلى نقطة أخرى، فقال: إن «كلام الله يطلق أطلاقين كما هو الشأن في الإنسان، فالإنسان يسمى متكلمًا باعتبارين: أحدهما بالصوت، والآخر بكلام النفس الذي ليس بصوت ولا حرف، وهو المعنى القائم بالنفس الذي يعبر عنه بالألفاظ، فإذا انتقلنا من الإنسان إلى الله رأينا أن كلامه تعالى يطلق بهذين الإطلاقين: المعنى النفسي وهو القائم بذاته، وهو الأزلي القديم، وهو لا يتغير بتغير العبارات، ولا يختلف باختلاف الدلالات، وهذا هو الذي نريده إذا وصفنا كلام الله بالقدم، وهو الذي يطلق عليه كلام الله حقيقية؛ أما القرآن — بمعنى المقروء المكتوب — فهو بلا شك كما يقول المعتزلة حادث مخلوق، فإن كل كلمة تُقرأ تنقضي بالنطق بما بعدها، فكل كلمة حادثة، فكذا المجموع المركب منها، ويطلق على هذا المقروء المكتوب «كلام الله» مجازًا.
وهذا — كما ترى — تسليم منهم بكل ما يقوله المعتزلة في القرآن بمعنى المتلو المقروء، ثم انتقل النزاع في مسألة جديدة، هي ما ابتدعه الأشعري من الكلام النفسي، فالمعتزلة أنكروه والأشعرية أثبتوه، وبدأوا الجدل في الإنسان لأنه أقرب منالًا، حتى إذا فرغوا من ذلك تكلموا بنفس هذه المعاني في الله تعالى.
قال الأشعري والأشاعرة: إن هناك كلامًا نفسيًا قائمًا بالنفس الإنسانية وبذات المتكلم ليس بحروف ولا أصوات، يجده العاقل في نفسه، ويدور في خلده، تارة إخبارًا عن أمور رآها أو سمعها، وتارة حديثًا مع نفسه بأمر أو نهي، ووعد ووعيد، وتارة حكمًا عقليًا بأن الحق في هذه المسألة كذا، والباطل كذا؛ ثم أحيانًا يتحوّل هذا الكلام النفسي إلى كلام لفظي، وأحيانًا لا يتحول، وهذا هو ما يسمى بالنجوى، وهو الذي قال فيه الله تعالى: فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ؛ وفي الحديث عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله وقد سأله رجل فقال: إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطت أجري، فقال صلى الله عليه وسلم: لا يَلْقَى ذلك الكلام إلا مؤمن إلخ. ومن أنكر هذه المعاني فقد جحد الضرورة وباهت العقل، وأنكر البديهيات. ومن العجب أن الإنسان قد يجوز أن يخلو ذهنه عن كل معنى، ولكنه لا يخلو أبدًا من حديث النفس حتى في النوم، فإنه في الحقيقة يرى في منامه أشياء، وتحدثه نفسه بأشياء، وربما يطاوعه لسانه وهو نائم، فيتكلم متابعة لنفسه.
أثار الأشاعرة والمعتزلة هذا الكلام ليطبقوه على كلام الله، فلما أنكر المعتزلة الكلام النفسي قالوا ليس كلام الله إلا ما نقرؤه ونسمعه من القرآن والكتب الدينية وهي مخلوقة ولا شك، ولا شيء وراءها إلا ذات الله القادرة على خلق الكلام المريدة للخلق. وقال الأشاعرة: إن لله كلامًا نفسيًا غير القدرة والإرادة والعلم، وهو قديم لا يتغير، والقرآن مظهر لهذه الصفة وأثر من آثارها وهو مخلوق.
وقد يعجب القارئ من شدة الاختلاف بين الناس في مثل هذا الأمر حتى احتكموا فيه إلى السيف كما سيأتي بيانه، لكن يجب أن ننبه هنا إلى أن تحديد وجوه الخلاف وحصر نقط النزاع بالشكل الذي أوضحناه لم يكن بيّنا في أكثر عقول الناس إذ ذاك؛ بل كانت هناك معان غامضة زاد غموضها هياج الناس وتبلبل الأفكار، وأخذ الناس فيها بالشدة — فقد رأوا أن هناك قضيتين واضحتين وهما:
-
(١)
أن كلام الله صفة له، وكل ما هو صفة فهو قديم؛ فكلام الله قديم.
-
(٢)
أن القرآن كلام الله وهو مركب من حروف مرتبة متعاقبة في الوجود، وكل ما هو كذلك حادث؛ فالقرآن حادث ومخلوق — فهاتان القضيتان شتتا أفكار الناس وأدخلتاهم في منازعات جدلية شديدة، ودخلت العامة في النزاع فزادوا المسائل غموضًا وشتاتًا، ولو حددت مواضع النزاع بالشكل الذي شرحنا لا نحسم كثير من الخلاف، ولكن هذا لم يصل إليه العلماء إلا بعد أن أغمد السيف وهدأت الأفكار وتكلم العلماء وحدهم.
•••
هذا هو ملخص قول المعتزلة في التوحيد: توحيد لله فلا شريك له، وتوحيد لله ذاته وصفاته فليست متعددة بحال، وتنزيه له عن الجسمية وصفات الحوادث؛ وقد فرعوا على هذا الأصل كل الفروع التي ذكرناها، وفروعًا أخرى أقل منها أهمية لم نذكرها، وكانت كل مسألة يثيرونها تستتبع مسائل غيرها وهكذا، فملأوا العالم الإسلامي ببحوثهم من هذا القبيل.
(١-٢) العدل
الأصل الثاني من أصولهم العدل، والعدل والتوحيد أهم أصول المعتزلة، وكانوا يفخرون بأنهم أهل العدل والتوحيد.
والمؤمنون جميعًا يعتقدون بعدل الله، ولكن المعتزلة — كعادتهم — تعمقوا في معنى العدل وحدوده، وأثاروا حول ذلك مسائل كثيرة أهمها:
وقد ساروا في هذا الطريق إلى نهايته ووصلوا ببحثهم إلى مسائل كثيرة أهمها ثلاث:
-
(١)
أن الله يسير بالخلق إلى غاية، وأن الله يريد خير ما يكون لخلقه.
-
(٢)
وأن الله لا يريد الشر ولا يأمر به.
-
(٣)
وأن الله لم يخلق أفعال العباد لا خيرًا ولا شرًا، وأن إرادة الإنسان حرة، والإنسان خالق أفعاله، ومن أجل هذا كان مثابًا على الخير معاقبًا على الشر.
ولنشرح الآن في إيجاز وجهة نظرهم في هذه المسائل:
فنظرية الصلاح والأصلح، أن الله لما كانت أعماله معللة، ويقصد منها إلى غاية وهي نفع العباد، فالله يقصد في أفعاله إلى صلاح العباد؛ ومن المعتزلة من قال بأنه يجب على الله أن يعمل ما فيه صلاح لعباده، ومنهم من لم يكتف بذلك بل قال يجب رعاية ما هو الأصلح. فكل عمل من أعمال الله على رأيهم لابد أن يقصد به إلى خير العباد وصلاحهم، وجمهور المعتزلة يقولون إنه لابد أن يقصد إلى ما هو الأصلح لهم.
وقد استطاع المعتزلة أن يجيبوا عن بعض هذه الاعتراضات وعجزوا عن بعضها، وقالوا ليس عجزنا يضر بنظريتنا، فإنا لم ندع الإحاطة بأغراض الله، ولم تبلغ عقولنا بعد من السعة ما نستطيع بها أن ندرك كل علة وكل غرض.
على كل حال فخلاصة قول الآخرين أن المعتزلة أخطأوا في قياس الله على الإنسان؛ فرأوا أن الإنسان لا يفعل إلا لغاية، وأن الناس يتفاوتون في الغايات، وكلما كان الإنسان أعدل وأحكم كان أصح غاية، وكان أصح توجيهًا لأعماله إلى هذه الغاية، فالله لابد أن تكون له غاية، وأن يوجه أعماله إليها؛ وفاتهم أن هذا القياس ليس بصحيح أو على الأقل ليس بلازم، فلسنا نعلم عن الله ما يمكننا من هذا الحكم؛ ولو كانت له غاية كما يقولون فكيف نجرؤ على القول بأن غايته من أفعاله هي الغايات التي تخضع لها عقولنا، ثم نفسر غاياته من أعماله بهذا التفسير الإنساني؟
أما نظرية المعتزلة في الحسن والقبح، فإنهم لما قرروا أن الله عادل حكيم، وأن أعماله لغاية، وأنه يتبع العدل في أعماله للوصول إلى هذه الغاية، كان من الطبيعي أن يثيروا مسألة الحسن والقبح في الأعمال، فرأوا أن الحسن والقبح في الأعمال ذاتيان، فالكذب فيه قبح ذاتي، والصدق فيه حسن ذاتي، ومن أجل هذا لا نجوز على الله الكذب لما في الكذب من قبح، ونقول إنه لابد أن يقول الصدق لما في الصدق من حسن ذاتي؛ فجميع الأعمال الحسنة من عدل وصدق وشجاعة وكرم فيها نفسها صفة جعلتها حسنة، وجعلتنا نحكم عليها بالحسن إذا رأيناها، وجميع الأعمال القبيحة من ظلم وكذب وجبن وبخل فيها ذاتها صفة جعلتها قبيحة وجعلتنا نحكم عليها بالقبح — والشرع بأمره بأشياء ونهيه عن أشياء، إنما يتبع في ذلك ما في الأشياء من حسن وقبح، فأمره بالمحافظة على الأنفس والأموال إنما هو لما فيها من حسن، ونهيه عن القتل والسرقة لما فيهما من قبح، ومحال أن يعكس فيأمر بالقتل والسرقة، وينهى عن الأمانة، لأنه ليس مستقلًا في أمره ونهيه، بل هو تابع فيهما للحسن والقبح الذاتيين — وكذلك العقل يستحسن أشياء لإدراكه ما في الأشياء ذاتها من حسن، ويستقبح أشياء لإدراكه ما في الأشياء ذاتها من قبح؛ فالشرع في تحسينه وتقبيحه للأشياء مخبر عنها لا مثبت لها، والعقل مدرك لها لا منشئ — وكل ما في الأمر أن العقل قد يدرك الحسن والقبح بالضرورة، أي من غير إعمال نظر، كحسن إنقاذ الغريق، وحسن الصدق النافع، وقبح كفران النعمة؛ وقد يدركه بعد إعمال النظر، كحسن الصدق الضار، وقبح الكذب النافع.
واستدلوا على هذه النظرية بأدلة أهمها:
-
(١)
أن الناس قبل ورود الشرائع كانت تتحاكم إلى العقل، وتتجادل بالعقل، ويلزم الفريق خصومه بما يدل عليه العقل، وليسوا يرجعون في ذلك إلا إلى ما في الأشياء من حسن وقبح ذاتيين، ونرى العقلاء قبل الشرائع يستحسنون إنقاذ الغرقى، وتخليص الهلكى، ويستقبحون الظلم والعدوان، بل إنه يستحسن ويستقبح من أنكر الأديان والشرائع.
-
(٢)
لو لم يكن في الأشياء حسن وقبح ذاتيان، لأفحمت الرسل وما استطاعوا الدعوة، لأنهم يطلبون النظر إلى الأشياء بعقولهم، ومنها إمكان إرسال الرسل والمعجزة وما إلى ذلك، فلو لم تكن هذه الأشياء حسنة في ذاتها يدركها العقل من نفسه من غير توقف على الشرع لقال هؤلاء لا يجب علينا النظر في معجزاتكم ونبوتكم إلا بالشرع، ولا يستقر الشرع إلا بنظرنا في نبوتكم ومعجزاتكم فيفحمون.
-
(٣)
لو لم يكن في الأفعال ذاتها حسن وقبح، بل هي من عمل الشرع، لما أمكن الفقهاء أن يعملوا عقولهم في المسائل التي لم يرد فيها نص، ولا ستحال تعليل الأحكام، ولبطل القول بلم ولأنه؛ لأن التعليل كله مبناه صفات الأفعال.
ورتب المعتزلة على هذا الرأي أن الإنسان مكلف قبل ورود الشرائع — أو إذا لم تبلغه دعوة الرسل — بما يدل عليه العقل؛ فهو مكلف بشكر المنعم، ومكلف بمكارم الأخلاق، ولو لم يصل إليه شرع في ذلك.
وكان خصومهم يرون غير هذه النظرية، فيرون أن الحسن ما ورد الشرع بالثناء على فاعله، والقبيح ما ورد الشرع بذم فاعله؛ وليس الشرع يمدح ويذم، ويوجب وينهى، تبعًا لما في الشيء من حسن وقبح ذاتيين، بل الحسن والقبح تابعان لأمر الشرع ونهيه، فالشرع في أمره ونهيه مثبت لا مخبر، ولا شيء حسن لذاته، ولا قبيح لذاته، ولو عكس الشارع فأمر بالكذب ونهى عن الصدق، لكان الكذب حسنًا والصدق قبيحًا. ولهم على ذلك أدلة أهمها أن الحسن والقبح لو كانا ذاتيين لم يتخلفا، ولم يتوقفا على شروط، فإن ما بالذات لا يتخلف؛ ونحن نرى أن القتل قد يكون قبيحًا إذا توافرت فيه شروط، وقد يكون حسنًا في مواضع، فهو قبيح إذا لم يصدر من المقتول ما يستوجب القتل، وهو حسن إذا كان قصاصًا، ولو كان ذاتيًا لم يتبدل بالإضافة إلى الأحوال؛ ونرى الشيء قد يكون حسنًا في زمن ولا يكون حسنًا في آخر، والشرائع نفسها تشرع أشياء لقوم، وتشرع غيرها لآخرين، فلو كان هناك حسن وقبح ذاتيان لم تتغير الشرائع بتغير الزمان والمكان والناس.
أما مسألة الإرادة — أعني علاقة إرادة الله بالكائنات، فوجهة نظر المعتزلة فيها أنا نرى أن مريد الخير خير، ومريد الشر شرير، ومريد العدل عادل، ومريد الظلم ظالم؛ فلو كانت إرادة الله تتعلق بكل ما في العالم من خير وشر لكان الخير والشر مرادين لله، فيكون المريد موصوفًا بالخيرية والشرية والعدل والظلم، وذلك محال على الله، فهو يقول: وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ.
وإذًا فقد قالوا: إن الله أراد ما كان من الأعمال خيرًا أن يكون، وما كان شرًا ألا يكون، وما لم يكن خيرًا ولا شرًا فهو تعالى لا يريده ولا يكرهه. وبعبارة أخرى: إن الله مريد لما أمر به من الطاعات أن يكون، فهو يريد منا أن نأتي بالصلاة والزكاة، وأن نوحد الله ونؤمن برسله، ولا يريد منا المعاصي، فلا يريد الكفر والفسوق والعصيان؛ أما المباحات فلا يريدها ولا يكرهها.
وكان خصومهم يرون في هذه المسألة أن الله مريد لجميع ما كان، غير مريد لما لم يكن، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فالمعتزلة يقولون إن كفر الكافرين وعصيان العاصين لم يردها الله، وخصومهم يقولون أرادهما.
يستدل المعتزلة بأن الله لو كان مريدًا لكفر الكافر، ومعاصي العاصي، ما نهاه عن الكفر والعصيان، وكيف يتصور أن يريد الله من أبي لهب أن يكفر ثم يأمره بالإيمان وينهاه عن الكفر، ولو فعل هذا أحد من الخلق لكان سفيهًا، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا؛ ولو كان كفر الكافر وعصيان العاصي مرادين لله ما استحقا عقوبة، ولكان عملهما طاعة لإرادته — قالوا — هذا إلى ما في القرآن من آيات كثيرة تدل على أنه لا يريد ما نهى عنه، قال تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِيِنَ مِن قَبْلِهِم، وقال تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ، وقال تعالى: وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ، وقال تعالى: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرِ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرِ.
وحجة خصومهم أن كل ما في الكون من خير وشر محتاج إلى إرادة تريد حصوله، فكل حادث مراد، والشر والكفر والمعاصي حوادث موجودة واقعة، فهي مرادة.
والظاهر أن الخلاف راجع إلى تصور العدل وتصور الحسن والقبح، فلما قاس المعتزلة الغائب على الشاهد في تعرف العدل، وذهبوا إلى ما ذهبوا إليه من الحسن والقبح، كان ضروريًا أن يذهبوا في الإرادة هذا المذهب الذي شرحنا. ولما كان خصومهم لم يعترفوا بقياس الغائب على الشاهد، ولم يعترفوا بأن أعمال الله موجهة لغاية وغرض، ولم يعترفوا بأن ما يوصف من أعمالنا بالحسن والقبح هو عين ما يوصف من أعمال الله بذلك، رجحوا الجانب الآخر وهو شمول إرادة الله.
والواقع أن كل فرقة كانت أمام مشكلة عويصة حاولت أن تحلها من جانب فتعقدت من جانب؛ فإذا قلنا إن إرادة الله ومشيئته شاملة لكل ما يحدث فكيف يشاء الشر؟ وإذا قلنا إن إرادته لا تتوجه إلا إلى الخير فكيف يقع في ملكه ما لا يريد؟
وقالوا ثالثًا: إن كان الله خلق أعمال الناس فهو إذًا لا يرضى عما فعل، ويغضب مما خلق، ويكره ما دبر.
وكان لهم خصوم مختلفون، فأشد خصومهم من كان يذهب إلى الجبر المحصن؛ ويرون أن أفعال الناس واقعة بقدرة الله تعالى وحدها، وليس لقدرة الناس تأثير فيها، وليس الإنسان إلا محلًا لما يجريه الله على يديه، فهو مجبر جبرًا مطلقًا، وهو والجماد سواء لا يختلفان إلا في المظهر، فمظهر الإنسان أنه مختار وحقيقته أن لا اختيار، والجماد مجبرًا مظهرًا وحقيقة، وتنسب الأفعال إلى الإنسان مجازًا، فضرب فلان وكتب وأساء وأحسن كلها مجازات، كما يقال أثمرت الشجرة، وتحرك الحجر، وطلعت الشمس، وأمطر السحاب. والثواب والعقاب جبر، كما أن الأفعال جبر، والتكليف جبر، ولهم — كذلك — على قولهم أدلة كثيرة؛ قالوا: إن الإنسان إن كان موجدًا لأفعاله وخالقًا لها وجب أن تكون هناك أفعال لا تجري على مشيئة الله واختياره، ويكون هناك خالق غير الله؛ هذا إلى ما ورد في القرآن دالًا على ذلك من مثل قوله تعالى: اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ، وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا، وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ إلخ.
والواقع أن هذه هي مشكلة المشاكل، سميت بالجبر والاختيار، وبحرية الإرادة، وبالقضاء والقدر، وحار فيها الفلاسفة قديمًا وحديثًا فأثارها الفلاسفة اليونانيون قبل المعتزلة، وكان بعضهم يرى أن الإرادة حرة في الاختيار كالأبيقوريين، وبعضهم كان يرى أنها مجبورة على السير في طريق لا يمكنها أن تتعداه كالرواقيين.
ولما جاء الإسلام وجاء دور البحث أثاروا هذه المسألة، فقال الجبريون وعلى رأسهم «جهم بن صفوان»: إن الإنسان مجبور، وليست له إرادة حرة ولا قدرة على خلق أفعاله، وهو كالريشة في مهب الريح أو كالخشبة بين يدي الأمواج، وإنما يخلق الله الأعمال على يديه، وقالت المعتزلة: إن إرادة الإنسان حرة، وقدرته تخلق ما يعمل، وفي استطاعته أن يفعل وألا يفعل، وهو يفعل ما يختار.
والذي دعا إلى هذا الاختلاف بين المسلمين أن الأدلة العقلية متباينة، وظواهر النصوص مختلفة.
فمن ناحية نرى أن الله يطالب الناس بالعمل ويدعوهم إليه، ويأمر وينهى؛ ويثيب على فعل ما أمر، ويعاقب على الإتيان بما نهى، ووضع الحدود والعقوبات، ووعد و أوعد، وساءل العصاة لِمَ تعديتم ولِمَ عصيتم ولِمَ كفرتم، وقد أفسحت لكم مجال العمل، وأرسلت لكم الرسل، وأبنتُ الحجة! ثم ملئت نصوص الكتاب بذلك، فكيف يعقل بعد أن نقول إنه لا أثر لقدرة الإنسان أصلًا، ولو لم تكن له قدرة لما كان معنى للطلب، ولما كان معنى للثواب والعقاب، ولكان التكليف تكليفًا بالمجال، ولحق اعتراض المعترض بأنه لم يفعل ما فعل حتى يستحق لومًا أو عقابًا.
ومن ناحية أخرى، إذا قلنا إن العبد خالق أعماله ترتب عليه تحديد قدرة الله وأنها لم تشمل كل شيء، وأن العبد شريك لله تعالى في إيجاد ما في هذا العالم، والشيء الواحد لا يمكن أن تتعاون عليه قدرتان، فإن كانت قدرة الله هي التي خلقته فلا شأن للإنسان فيه، وإن كانت قدرة الإنسان هي التي خلقته فلا شأن فيه لقدرة الله، ولا يمكن أن يكون بعضه بقدرة الله وبعضه بقدرة العبد، لأن الشيء الواحد لا بعض له — هذا إلى النصوص القرآنية الكثيرة الدالة على شمول إرادة الله وقدرته.
ففريق المعتزلة رجحوا الجانب الأول، ووقفوا، وقف الدفاع عنه، وتأولوا النصوص التي ظاهرها مخالفته، وبذلوا في ذلك عناء كثيرًا ومجهودًا شاقًا، وألجأهم إلى ذلك ما تصوروه من معنى العدل عند الله كما بينا. وفريق الجبرية رجحوا الجانب الآخر، إذ كان شنيعًا لديهم أن يحدوا من إرادة الله وقدرته، وتأولوا الآيات الدالة على قدرة العبد، وقالوا في مسألة التكليف والثواب والعقاب. إنها ليست خاضعة لتصورنا في العدل والظلم، فالعدل والظلم ونحوهما كلمات تطبق على الناس لا على الله، إذ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وحار قوم بين أدلة هؤلاء وهؤلاء، فأرادوا أن يسلكوا سبيلًا وسطًا، ومن هؤلاء أبو الحسن الأشعري؛ فاخترع ما سماه «الكَسب». وقد فسره بعض أتباعه بأنه «الاقتران العادي بين القدرة المحدثة (أي قدرة الإنسان) والفعل، فالله تعالى أجرى العادة بخلق الفعل عند قدرة العبد وإرادته لا بقدرة العبد وإرادته، فهذا الاقتران هو الكسب».
وهو — كما ترى — لا يقدم في الموضوع ولا يؤخر، فهو شكل جديد في التعبير عن الجبر، فهو يرى أن القدرة الحادثة لا تؤثر في المقدور، ولم ينكر أن هذا الذي سماه كسبًا من خلق الله؛ فلم هذا الدوران والنتيجة القول بالجبر؟ وقال آخرون: إن الله خلق للعبد قدرة يصرف بها الأمور؛ فأعمال العباد تضاف إلى الله باعتباره أنه أقدرهم عليها، وخلق القدرة فيهم، وتضاف إلى العبد باعتبار أنه هو المصرف لأعماله بالقدرة الحرة التي خلقها الله فيه. وهذا رجوع في الحقيقة إلى قول المعتزلة، مع الخلاف في التعبير فقط.
فنحن في الواقع بين فرقتين لا غير: فرقة الجبر وفرقة الاختيار.
وقد نحا بعض المفكرين من المسلمين نحوًا آخر، فقالوا: إن العالم كله مبني على أسباب ومسببات، وإرادة الإنسان خاضعة لأسباب، فإذا أرادت ما أرادت فذلك لأسباب، وإذا لم ترده فلأسباب أيضًا؛ فإذا رأى إنسان طعامًا شهيًا وهو جائع اشتهاه من غير اختيار؛ وإذا رأى شيئًا يؤلمه ويؤذيه كرهه وهرب منه. فالعمل الذي نعمله نتيجة أمرين: أسباب خارجية وإرادة منا، ولما كانت هذه الأسباب الخارجية تجري على نظام محدود، وترتيب منضود، لا تختل أبدًا، وكانت إرادتنا الداخلية معلولة لهذه الأسباب، كانت إرادتنا كذلك جارية على نظام محدود، «والنظام المحدود الذي في الأسباب الخارجية والداخلية هو القضاء والقدر الذي كتبه الله على عباده».
وهذا القول في حقيقة أمره قول بالجبر الفلسفي.
على كل حال قرر المعتزلة حرية إرادة الإنسان وقدرته بأجلى مظاهرها، وتأولوا الآيات الواردة على خلاف ذلك، فتأولوا ما ورد من الختم والطبع مثل: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وبَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ بتأويلات مختلفة؛ من ذلك ما ذكره الزمخشري أنه من قبيل الاستعارة أو التمثيل، فلا ختم ولا طبع في الحقيقة، ولكن لما كان الحق لا ينفذ إلى قلوبهم، ولا يخلص إلى ضمائرهم من قبل إعراضهم واستكبارهم، جعل قلوبهم كأنها مستوثق منها بالختم أو الطبع، أو أن حالتهم في أن قلوبهم لا ينتفعون بها فيما كلفوا به وخُلقوا من أجله تشبه حالة من ختم على قلبه وطبع عليه، واستشهدوا على ذلك بقول بعض المازنيين، وقد جعله الحبسة في اللسان والعي ختمًا عليه فقال:
وقد أثارت مسألة خَلق الأفعال عند المعتزلة وخصومهم مسائل كثيرة متفرعة عنها؛ فمن ذلك مسألة التولُّد:
فلما قرر المعتزلة أن أفعال الإنسان مخلوقة له استوجب ذلك التساؤل: ما الرأي في الأعمال التي تتولد عن عمله؟ أهي كذلك من خلقه؟ فإذا ضرب إنسان آخر فالضرب لاشك من خلق الضارب، ولكن ما القول في الألم الذي يحسه المضروب وهو المتولد من الضرب؟ أهو كذلك من خلقه؟ وإذا رمى الإنسان سهمًا فقتل المرمي، فما القول في القتل؟ أهو من خلق الرامي؟ وهكذا تساءلوا في كل المتولدات؛ فإذا أضفنا نشا وسكر وأنضجناهما تولد من ذلك فالوذج، فهل طعم الفالوذج ولونه من خلقنا؟ وهل خروج الروح عند الذبح وذهاب الحجر عند الدفعة، والإدراك الحسي إذا فتحنا أبصارنا، وكسر الرجل عند السقوط، وصحتها إذا جبرت، ونحو ذلك، من خلقنا؟ هذه هي ما يسمونها (مسألة التولد).
فقال قوم من المعتزلة وعلى رأسهم «بشرُ بن المُعْتَمر» رئيس معتزلة بغداد: كل ما تولد من فعلنا مخلوق لنا، فإذا فتحتُ عين إنسان فأدرك الشيء فإدراكه فعلي، وإدراك جميع الحواس فعل الإنسان؛ ومن فعله أيضًا لون ما يصنع من المأكولات — مثلًا — طعومها ورائحتها، ومن فعله الألم واللذة والصحة والزمان والشهوة إلخ.
وفرّق أبو الهُذيل العلاف أحد شيوخ المعتزلة بين المتولِّدات فقال: إن كل ما تولد من فعله مما يعلم كيفيته فهو من فعله، وما لا فلا؛ فالألم الحادث عن الضرب، وذهاب الحجر صعدًا إذا رماه إلى أعلى، وسفلًا إذا رماه إلى أسفل ونحو ذلك من فعله؛ أما الألوان والطعوم والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والجبن والشجاعة والجوع والشبع فكلها من فعل الله.
وكان النَّظَّام يرى أن الإنسان لا يفعل إلا الحركة، فما ليس بحركة فليس من صنعه، ولا يفعل الإنسان الحركة إلا في نفسه، فأما في غيره فلا؛ فإذا حرك يده فذلك فعله، وأما إذا رمى حجرًا فتحرك الحجر إلى فوق أو إلى تحت، فتحرك الحجر ليس من فعل الإنسان، وإنما هو من فعل الله، بمعنى أن الله طبع الحجر أن يتحرك إذا دفعه دافع وهكذا؛ فصلاة الإنسان وصيامه، وحبه وكرهه وعلمه وجهله، وصدقه وكذبه، كلها حركاته، فكلها أفعاله، بل سكونه كذلك فعله، لأن السكون حركة، فمعنى سكون الإنسان في المكان أنه كائن فيه وقتين، أي تحرك فيه وقتين؛ وعلى ذلك فالألوان والطعوم والأراييح والآلام واللذائذ ليست من فعله لأنها ليست حركات.
ولغير هؤلاء أقوال في التوليد يطول ذكرها — وعلى اختلافهم في النظر إلى التولد اختلفوا في تعريفه؛ فقال بعضهم: الفعل المتولد هو الفعل الذي يكون بسبب منِّي، ويحل في غيري؛ وبعضهم يقول: «هو الفعل الذي أوجبت سببه فخرج من أن يمكنني تركه». وقال بعضهم: كل فعل يتهيأ وقوعه على الخطأ دون القصد إليه، والإرادة له، فهو «متولد»، وكل فعل لا يتهيأ إلا بقصد، ويحتاج كل جزء منه إلى تجديد وعزم وقصد إليه، وإرادة له، فهو خارج عن حد التولد إلى آخر الأقوال.
ويظهر أن هذه المباحث حول التولد وما توّلد منه لم تكن مباحث ميتافيزيقية بحتة، بل كان يراد منها أيضًا بحث في المسئولية القانونية والأخلاقية فإنا نراهم في هذه المسألة يبحثون في القتل وتحديده، وما هو عمل القاتل وعمل المقتول؛ وماذا إذا فعل القاتل ما يسبب القتل، ولكن لم يتولد من فعله القتل إلخ. وإن كان كلامهم في المسئولية لم يصل إلينا منه إلا القليل؛ كما أن من مقتضى قولهم في التولد، والإيمان بارتباط الأسباب بالمسببات، وأن الإنسان مكلف بالأسباب لحصول مسبباتها، كالتكليف ببناء المعاقل والحصون لدفع العدو، كما قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ لأن ذلك سبب لابد منه، ينتج عنه صد المغيرين؛ وكبناء القناطر لضبط المياه وتنظيم الري؛ وكإقامة الحدود حتى لا تكثر الجرائم. قالوا: وقد رأينا الشارع كلف بها، فلولا أن الأسباب مربوطة بالمسببة، ولولا أن هذه الأفعال في قدرتنا ما كلفنا بها، ولما كان هناك محل للمدح والذم من أجلها إلخ.
(١-٣) الوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين
وهما الأصلان الثالث والرابع من أصول المعتزلة، وقد جمعناهما معًا للارتباط الشديد بينهما.
وقول المعتزلة في ذلك ينبني على تصورهم للإيمان، وتصورهم للعدل الإلهي كما شرحوه، وعلى قولهم في أن العالم سائر لغرض يرمي إلى تحقيقه، على النحو الذي حكيناه عنهم.
واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة، منها قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أي صلاتكم إلى بيت المقدس، لأن الآية نزلت بعد تحويل القبلة، وقد توهم بعض الناس أن الصلاة التي صلوها إلى بيت المقدس قد ضاعت، فسمى الصلاة إيمانًا وهي عمل؛ ومن ذلك ما ورد في الحديث من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني وهو مؤمن»، ومثل «لا إيمان لمن لا أمانة له» إلخ.
وقد كان لهم معارضون كثيرون في تحديدهم للإيمان هذا التحديد، فمنهم من رأى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب فقط؛ ومنهم من ذهب إلى أنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان. وشغل هذا الموضوع حيزًا كبيرًا من كتب الكلام يذكرون فيه حجج الفرق المختلفة، وانبنى على اختلافهم في تصور الإيمان اختلافهم في هل يزيد الإيمان أو ينقص، أو لا يزيد ولا ينقص؟ إلخ.
والذي يهمنا هنا حكاية رأي المعتزلة، فبعد تعريفهم للإيمان هذا التعريف قالوا: إن المعاصي التي يرتكبها الناس تنقسم إلى صغائر وإلى كبائر، واختلفوا في تعريف الصغيرة والكبيرة؛ وأشهر أقوالهم أن الكبيرة ما أتى فيها الوعيد، والصغيرة ما لم يأت فيها الوعيد، ولهم بعد أبحاث في هل يصح أن تكون مجموعة من الصغائر تساوي كبيرة أو لا؟ وهل تغتفر الصغائر لمن لم يرتكب الكبائر؟ ونحو ذلك. ثم قالوا إن الكبائر بعضها يصل من كبره إلى حد الكفر؛ فمن شبه الله بخلقه، أو جوره في حكمه، أو كذّبه في خبره فقد كفر. وهناك كبائر أقل منها منزلة، وهذه الكبائر يسمى مرتكبها فاسقًا، والفسق منزلة بين المنزلتين، لا كفر ولا إيمان؛ فالفاسق ليس مؤمنًا ولا كافرًا: بل هو في منزلته بين المنزلتين.
ثم ربطوا الثواب والعقاب بالأعمال ربطًا حتمًا، وغلا بعضهم في التعبير فقال: «يجب على الله أن يثبت المطيع ويعاقب مرتكب الكبيرة؛ فصاحب الكبيرة إذا مات ولم يتب لا يجوز أن يعفو الله عنه، لأنه أوعد بالعقاب على الكبائر وأخبر به، فلو لم يعاقب لزم الخلف في وعيده ولأن الطاعات والأمر بها، والمعاصي والنهي عنها، وضعت لتحقيق غايات، فمن لم يطع فقد أخل بهذه الغايات فاستوجب العقاب، وهذا هو معنى أصلهم الذي وضعوه وعنونوه بالقول بالوعد والوعيد، يعنون بذلك أن الثواب على الطاعات والعقاب على المعاصي قانون حتى التزم الله تعالى به».
كما قالوا: إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار ولو صدق بوحدانية الله وآمن برسله لقوله تعالى: بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وقوله: وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا إلخ.
وكان مخالفوهم يرون أن ثواب الله فضل وعد به، خُلفُ الوعد نقص تعالى الله عنه؛ والعقاب عدل وله العفو عنه، وليس في خُلْف الوعيد نقص، ومرتكبو الكبيرة من المؤمنين لا يخلدون في النار، لقوله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ؛ ومرتكب الكبيرة قد عمل خيرًا وهو إيمانه، وشرًا وهو كبيرته، فيعاقب على كبيرته، ثم يثاب على إيمانه.
والبحث في هذا أثار مسألة موقف المعصية من الطاعة هل تحبطها؟ فتشدد كثير من المعتزلة في ذلك حتى ذهبوا إلى أن الكبيرة الواحدة تحبط جميع الطاعات، وبعضهم يذهب إلى المعادلة، فمن زادت معاصيه على طاعاته أحبطتها، ومن زادت طاعاته أحبطت عقاب زلاته.
(١-٤) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وهذا الأصل يشترك فيه المسلمون عامة عملًا بقوله تعالى: وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلىَ الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. ولكن من عهد الصحابة إلى هذا العصر الذي نؤرخه والمسلمون مختلفون في مدى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمنهم من رأى هذا الوجوب يكفي فيه القلب واللسان إن قدر عليه، ولا يصح أن يلجأ في ذلك إلى استعمال القوة باليد أو السيف. وكان يرى هذا الرأي سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة، ومن أجل هذا تراهم قد اعتزلوا ولم يشتركوا في القتال مع عليّ ومعاوية، سيرًا على مبدئهم هذا، وتبعهم في هذا أكثر المحدثين وعلى رأسهم أحمد بن حنبل.
وفي ذلك يقول صفوان الأنصاري لبشار:
هذه ناحية تمثل ناحية من عملهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعل الحركة العنيفة القوية في خلق القرآن ومحنته مظهر آخر من مظاهر ما اعتقدوا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما سيأتي.
وكان الخوارج في هذا الباب (باب استعمال السيف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) أشد وأقسى وأعنف، فمتى اعتقدوا الحق في شيء نفذوه بالسيف، ولهذا كان تاريخهم سلسلة حروب وخروج على الخليفة، لأنهم يرونه غير حائز للشروط التي يشترطونها، وغير سائر على المنهج الذي يرسمونه، وكأنهم يرون ذلك فرض عين، لا فرض كفاية، كما يحكي الزمخشري عن المعتزلة، وكأنهم يرون أن القتال دين حتم على كل فرد متى رأى منكرًا، ولم يحكموا العقل في هل هذا القتال يوصل إلى الغاية المنشودة أو لا يوصل كما فعل المعتزلة، فالواجب في نظر الخوارج يجب أن يفعل، ثم لتكن النتيجة ما تكون، وظلوا مخلصين لهذا المبدأ طوال العهد الأموي وصدر الدولة العباسية حتى أبيدوا.
(٢) نقد وتحليل لأصول المعتزلة
لعل التاريخ الإسلامي لم يشهد قبل المعتزلة هذا القول الشامل الفلسفي في الله وصفاته وأفعاله، مع البراهين العقلية، والحجج النقلية، كما شهده في المعتزلة؛ فقد أطلقوا للعقل العنان في البحث في جميع المسائل من غير أن يحدوه أي أحد، فجعلوا له الحق أن يبحث في السماء وفي الأرض، وفي الله والإنسان، وفيما دق وجلَّ، فليس له دائرة معينة له الحق أن يسبح فيها، ودائرة ليس له حق ذلك، بل خُلق العقل ليعلم، وفي مكنته أن يعلم كل شيء حتى ما وراء الطبيعة أو ما وراء المادة، بل كانت أبحاثهم فيما وراء الطبيعة أوسع وأعمق من أبحاثهم الطبيعية بحكم أنهم مصلحون دينيون، ودعاة عقيدة.
وقد كانت نظرتهم في توحيد الله نظرة في غاية السموّ والرفعة، فطبقوا قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ أبدع تطبيق، وفصلوه خير تفصيل، وحاربوا الأنظار الوضعية من مثل أنظار المجسمة الذين جعلوا الله تعالى جسمًا، له وجه ويدان وعينان، ولحم ودم، وغاية ما قاله أعقلهم أنه جسم لا كالأجسام، وله وجه لا كالوجوه، ويد لا كالأيدي، وقالوا بأن له جهة هي الفوقية، وأنه يرى بالأبصار وأن له عرشًا يستوي عليه، وأنه خلق آدم بيده، إلى آخر ما قالوا مما ينطبق على الجسمية. فأتى المعتزلة وسموا على هذه الأنظار، وفهموا من روح القرآن تجريد الله عن المادية، فساروا في تفسيرها تفسيرًا دقيقًا واسعًا، وأولوا ما يخالف هذا المبدأ، وسلسلوا عقائدهم تسلسلًا منطقيًا؛ فإذا كان الله تعالى ليس مادة، ولا مركبًا من مادة، فليس له يدان ولا وجه ولا عينان، لأن ذلك يدل على جزء من كل، والله تعالى ليس كُلا مركَّبًا من أجزاء، وإلا لكان مادة، وإذا كان كذلك فليست تدركه عيوننا التي خلقت، وليس في قدرتها إلا أن ترى ما هو مادة، وما هو في وجهة؛ وليس كلامه تعالى بلسان وأصوات، وإلا لكان جسمًا، وإنما يخلق الكلام والأصوات كما يخلق سائر الأشياء، ومن ذلك القرآن — وهكذا كانت كل نقطة تسلم إلى التي تليها، فيسيرون فيها من غير خوف من النتائج مهما كانت، متى اطمأنوا إلى أنهم يسايرون العقل؛ فهم من الناحية العقلية جريئون، يقررون ما يرشد إليه في شجاعة وإقدام وهم أمام النقل يسلّمون ما يوافق منها البرهان العقلي، ويؤولون ما يخالفه، فالعقل هو الحكم بين الآيات المتشابهة، وهو الحكم على الحديث ليقرر عدم صحته إن لم يوافق العقل ويحتمل التأويل.
كذلك كان نظرهم إلى عدل الله، فقد وقفوا أمام مشكلة المثوبة والعقوبة، فرأوا أن ذلك لا يكون له معنى إلا بتقرير حرية الإرادة في الإنسان، وأنه خلق أعمال نفسه، وأن في إمكانه أن يفعل الشيء وألا يفعل، فإذا فعل بإرادته وترك بإرادته، كانت مثوبته أو عقوبته معقولة عادلة؛ أما إن كان الله يخلق الإنسان ويضطره إلى العمل على نحو خاص، فيضطر المطيع إلى الطاعة، والعاصي إلى العصيان ثم يعاقب هذا ويثيب ذاك فليس من العدالة في شيء. ولعل نقطة الضعف فيهم أنهم أفرطوا في قياس الغائب على الشاهد، أعني في قياس الله على الإنسان، وإخضاع الله تعالى لقوانين هذا العالم؛ فقد ألزموا الله — مثلًا — بالعدل كما يتصوره الإنسان وكما هو نظام دنيوي، وفاتهم أن معنى العدل — حتى في الدنيا — معنى نسبي يتغير تصوره بتغير الزمان، وأن ما كان عدلًا في القرون الوسطى يعد ظلمًا الآن، فكيف إذا انتقلنا من عالم الدنيا إلى عالم الله، وكذلك الشأن في قولهم في الحسن والقبح والصلاح والأصلح. إنا نرى أن الإنسان إذا ضاق نظره حكم على الأشياء حكمًا، فإذا اتسع نظره تغير حكمه؛ فمن نظر فقط إلى أسرته كانت بعض أحكامه خطأ بالنسبة لمن اتسعت نظرته إلى أمه أو إلى الإنسان عامة؛ ونحن في أعمالنا ننظر إلى عالمنا، والله تعالى رب العالمين قد ينظر في أعماله إلى جميع العالم، ما نعلم منها وما لا نعلم، فكيف نخُضع الله لتصور العدل الذي نتصوره نحن في عالمنا هذا. وكذلك قولهم في أن صفات الله هي عين الله أو غير الله، كل براهينهم مبنية على قياس الغائب على الشاهد ولكن الشبه معدوم؛ وقد فرضوا أن العينية والغيرية والزمانية والمكانية والسببية والمسببية ونحوها قوانين لازمة لكل موجود، وهذا — في نظري — خطأ محض، فهي قوانين إنسانية وإن تسامحنا قليلًا قلنا إنها قوانين عالمنا هذا، ولسنا نستطيع القول بأنها تنطبق على غير عالمنا أو لا تنطبق — فإصدار حكمان على الله على اعتقاد أنها قوانين شاملة للإنسان والله، جرأة لا يرتضيها العقل الذي يعرف قدره ولا يعدو طوره. وليس هذا عيب المعتزلة وحدهم، بل هو عيب من أتى بعدهم من علماء الكلام كذلك.
ولكن على كل حال كان مسلك المعتزلة مسلكًا لابد منه، لأنه أشبه برد فعل لحالة بعض العقائد في زمنهم. لقد قرروا سلطان العقل وبالغوا فيه أمام من لا يقر للعقل بسلطان، بل يقول نقف عند النص، فما كان محكمًا واضحًا عملنا به، وما كان متشابهًا غامضًا تركنا علمه إلى الله. وقال المعتزلة بحرية الإرادة وغلوا فيها أمام قوم سلبوا الإنسان إرادته، حتى جعلوه كالريشة في مهب الريح، أو كالخشبة في اليم. وعندي أن الخطأ في القول بسلطان العقل وحرية الإرادة والعلو فيهما خير من الغلو في أضدادهما، وفي رأيي أنه لو سادت تعاليم المعتزلة في هذين الأمرين — أعني سلطان العقل وحرية الإرادة — بين المسلمين من عهد المعتزلة إلى اليوم، لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي، وقد أعجزهم التسليم وشلهم الجبر، وقعد بهم التواكل.
وإن كان المعتزلي أخلاقيًا، فكذلك يستطيع ألا يقف عند حدود الأوامر والنواهي، بل يزن الفضائل والرذائل بمقياس الزمان والبيئة ونحوهما، ويجتهد في تقرير الأخلاق كما يجتهد صاحبه في الفقه.
وقالوا بسلطان عقل الإنسان وإرادته وتحررهما من سلطان القدر؛ فالعقل حر في التفكير لم يقيده قدر سابق، والإرادة حرة في التنفيذ لم نقيدها إرادة سابقة، ومن أجل هذا تحددت مسئولية الإنسان وتعينت تبعته، فهو إذا كان حرًا كان مسئولًا، وإذا فقد حريته زالت تبعته، وكان كالصغير والمجنون، بل والحيوان والجماد.
ووسعوا دائرة التفكير هذه فقالوا: إن الله والعالم سائران على قوانين العدل ألزم الله بها الإنسان والتزم هو بها، أو بعبارة أخرى كتبها على نفسه، فليس يعذب مطيعًا، وليس يثيب عاصيًا، لأنه تقيد بقوانين العدل، وليس يدخل الجنة والنار حسبما اتفق ولا لمجرد الرغبة، بل قد كتب على نفسه أن يفعل وفق قوانين العدل؛ فالله تعالى ليس حاكمًا مستبدًا، ولكنه حاكم التزم السير على قانون، وأوجب على نفسه العدل.
ومن مظاهر تمجيدهم للعقل تفسيرهم للقرآن بالمعقول أكثر من اعتمادهم على المنقول، وبنوا تفسيرهم على أسسهم من التنزيه المطلق، وحرية الإرادة، والعدل، وفعل الأصلح ونحو ذلك؛ ووضعهم أسسًا للآيات التي ظاهرها التعارض، فحكموا بذلك العقل ليكون الفيصل بين المتشابهات، وقد كان من قبلهم يكتفون بمجرد النقل عن الصحابة والتابعين؛ فإذا جاءوا إلى المتشابهات سكتوا وفوضوا العلم إلى الله — وجرهم القول بسلطان العقل هذا إلى إنكار أحاديث تناقض أسسهم، وأخبار لا تتفق ومذهبهم، وكان هذا أحد الأسباب التي أثارت الخصومة بينهم وبين المحدثين.
وربما أخذ عليهم أنهم في سيرهم هذا وراء سلطان العقل قد نقلوا الدين إلى مجموعة من القضايا العقلية والبراهين المنطقية، وهذا النهج إذا صح أن يقتصر عليه في الفلسفة فلا يصح أن يقتصر عليه في الدين، لأن الدين يتطلب شعورًا حيًا أكثر مما يتطلب قواعد منطقية؛ فالدين ليس كالمسائل الرياضية ولا كالنظريات الهندسية تتطلب من العقل حلها، وفي ذلك كل الغناء. بل الدين أكثر من ذلك يتطلب شعورًا يدعو إلى العمل، وحرارة إيمان تبعث على التقوى. ونظام المعتزلة — وهو الذي جرى عليه المتكلمون بعدهم — نظام جيد التفكير ضعيف الروح، غلا في تقدير العقل، وقصر في قيمة العاطفة. يتجلى ذلك لك إذا أنت وازنته — مثلًا — بمنهج الصوفية؛ فهو على العكس من المعتزلة، شعور وعاطفة ولا منطق. والنظام العقلي في الدين يقف الإنسان — في العادة — موقفًا سلبيًا أكثر منه إيجابيًا، فالأسس الخمسة التي قال بها المعتزلة منها الأربعة الأولى لا تتطلب عملًا، بل هي تنزيه لله تعالى وتحديد لموقفه مع الناس من أطاع منهم ومن عصى، وليس يتطلب العمل الإيجابي إلا المبدأ الخامس وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا نفسه ليس يتطلب من الإنسان عملًا بصفته إنسانًا متدينًا، وإنما هو نوع من الإشراف على أعمال الغير.
وإذا وصلنا إلى هذه النقطة أمكننا أن ننقد هذا المبدأ (مبدأ الأمر بالمعروف) عندهم، فهم يرون تنفيذ ما يعتقدون وإنكار ما ينكرون ولو بالسيف، وساروا على ذلك فعلًا كما روينا من تهديدهم بعض من اعتقدوا الزندقة بالقتل. وهذا من أخطر المبادئ لأنه يجعل في الأمة حكومة داخل حكومة، ويهدد الحرية العامة، فيجعل للفرد سلطانًا أن يحمل السيف ليستعمله ضد مخالفه في الرأي والعقيدة. وكنت أفهم أن يقرروا أن يكون أولوا الرأي منهم مشرفين على الحكومة مراقبين لها، فإذا سارت على المنهج القويم أيدوها، وإذ ا رأوا من أحد منكرًا استعدوا عليه الحكومة العادلة لتنتصف منه، وإذا لم تكن الحكومة عادلة استنكروا أعمالها وثاروا عليها إذا كان في قدرتهم الثورة. أما أن يقروا الحكومة ويعترفوا بشرعيتها وصحة بقائها، ثم يجعل كل فرد من نفسه حكومة، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولو بالسيف، فمسلك يدعو إلى الفوضى والاضطراب.
ويظهر أن بعض المعتزلة شعر بهذا الخطر فقرر مبدأ عادلًا، وهو أنه لا يجوز الخروج على الإمام الجائر إلا لجماعة لهم من القوة والمنعة ما يغلب على ظنهم معها أنها تكفي للنهوض وإزالة الجور، ولا يصح الخروج إلا مع إمام عادل، ولا يتولى إنفاذ الأحكام وقطع يد السارق والقود إلا الإمام العادل، أو من يأمره الإمام العادل، لا يجوز غير ذلك.
ومن ناحية أخرى، لم يفرقوا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين شيء أجمع على إنكاره كالسرقة والقتل والزنا ونحو ذلك، وبين شيء مختلف فيه كالاعتقاد بوحدة الله ذاتًا وصفات، والقول بالعدل وخلق القرآن؛ فكان يجب أن يفرقوا بينهما، ويقرروا أن الأشياء المختلف فيها يجب أن يكون الأمر بالمعروف فيها والنهي عن المنكر مقصورًا على المناظرة والدعوة إلى الرأي فيها بالحسنى. ولكنا نرى أن المعتزلة في أيام دولتهم عكسوا الأمر وجعلوا المسائل المختلف فيها في العقائد في الدرجة الأولى، واشتركوا مع الحكومة في فرض رأيهم بالسيف، وجعلوا المسائل الأولى في المنزلة الثانية، وهو عكس للوضع الطبيعي؛ فمسألة الاختلاف في العقائد داخل حدود الإسلام كان يجب أن تترك حرة، ولو اعتقدوا فيها أنهم على صواب وغيرهم على خطأ. أما أن يقيموا الدولة ويقعدوها ويقدموا القول بخلق القرآن على كل أمر عداه، ويجعلوا البلاد كلها موضوع محاكمة، فسوء تقدير للأمور وخطل في تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد كان من أثر ذلك أن خصومهم يوم دولتهم عاملوا المعتزلة بنفس السلاح الذي استعملوه أيام سلطانهم، فضيقوا عليهم وشردوهم وصادروا كتبهم، وطبقوا عليهم مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذا المعنى المضطرب المفكك.
وأيًا ما كان، فلسنا ننكر ما كان للمعتزلة من فضل في ترقية العقل ورفع مستواه في المملكة الإسلامية، وأنهم كانوا السابقين الأولين الذين شقوا الطريق لمن أتى بعدهم من أمثال «إخوان الصفا»، وفلاسفة المسلمين كالكندي والفارابي وابن سينا؛ وأنهم كانوا أول من فلسف الدين، وقرر سلطان العقل في أن يبحث مسائل الدين.
•••
والذي دعا إلى اتفاق المعتزلة على صحة خلافة أبي بكر، حتى من قال منهم بأفضلية عليّ على أبي بكر، أنهم رأوا عليَّا بايع أبا بكر غير مكره، فلابد أن تكون بيعته صحيحة، ولا يصح أن يكونوا علويين أكثر من عليّ.
فإذا وصلنا إلى عثمان وقتلته وجدنا كثيرًا من المعتزلة يقفون في ذلك؛ فواصل بن عطاء يقف في الحكم على عثمان لتعارض الأدلة عنده، فلعثمان مقام محمود في الجهاد بماله، وله هجرتان وسابقة إلى الإسلام، ولم يحضر بدرًا فألحقه رسول الله بمن حضرها؛ ثم كانت فتوحات في الإسلام عظيمة، وسيرة في الإسلام هادية، ولم يتسبب في سفك دم، ولكنه في السنين الست الأواخر من حكمه حدثت منه أحداث، فتعارضت عنده الأدلة، فترك أمره لله.
وبناء على ذلك تكون نظرتهم إلى بني أمية أنهم خلفاء لا عن حق، وقد طبقوا مذهبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الصحابة والتابعين الذين كانوا في عهد الأمويين؛ فمذهبهم أنه لا يصح الخروج إلا عند غلبة الظن بنجاح الثورة. أما الخوارج الذين يجعلون الثورة واجبًا فرديًا مهما تكن النتيجة، فكان تاريخها ثورة مستمرة.
وعلى الجملة فيظهر أن المعتزلة كان موقفهم من الدولة الأموية موقف كراهية وإن لم يثوروا ثورة الخوارج، ولعلهم نهجوا في هذا منهج شيوخهم وأسلافهم؛ فقد رأينا قبل أن رجلًا سأل الحسن البصري عن رأيه في الفتن فقال له: لا تكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء. فقال الرجل: ولا مع أمير المؤمنين؟ فقال الحسن: ولا مع أمير المؤمنين. وكان القائلون بحرية الإرادة — وهم الذين يسمون القدرية — قبل تأسيس فرقة المعتزلة من أعداء الدولة الأموية؛ فمعبد الجهني — وهو من أوائل من تكلم في القدر — خرج مع ابن الأشعث على الدولة الأموية فقتله الحجاج؛ وغيلان الدمشقي — من أوائل القدرية كذلك — قتله هشام بن عبد الملك، وجهم بن صفوان — وإن كان جبريًا إلا أنه يعد من شيوخ المعتزلة لقوله بنفي الصفات كما تقول المعتزلة، وقال بخلق القرآن، وقد خرج مع الحارث بن سريج على بني أمية فقتل.
فلعل المعتزلة ورثوا أيضًا كراهية بني أمية من شيوخهم هؤلاء، وبنو أمية — كما يظهر — كانوا يكرهون القول بحرية الإرادة، لا دينيًا فقط، ولكن سياسيًا كذلك، لأن الجبر يخدم سياستهم. فالنتيجة للجبر أن الله الذي يسير الأمور قد فرض على الناس بني أمية كما فرض كل شيء، ودولتهم بقضاء الله وقدره، فيجب الخضوع للقضاء والقدر. وجهم وإن كان جبريًا إلا أنه قد ثار مع الخارجين على بني أمية، وقال بأقوال أحفظت عليه الناس، فاستغلت السياسة كراهية عامة الناس له وقتلته …
فهم في نصرة يزيد جروا على مبدئهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فخرجوا مع إمام اعتقدوا فيه العدل، ولم يخرجوا إلا بعد أن غلب على ظنهم الفوز، وقد فازوا فعلًا.
وهذه الحكاية لها مغزاها؛ فمحمد بن عبد الله بن الحسن هذا هو زعيم الشيعة الذي خرج هو وأخوه إبراهيم على المنصور؛ وهذه القصة تدل على أن محمدًا أراد أن يستعين على المنصور بعمرو بن عبيد وأتباعه من المعتزلة، فيخرج المعتزلة لقتال المنصور بالسيف؛ فلما أجاب عمرو لم يجب بأن هواه مع المنصور، ولم يتبرأ من أن هواه مع محمد، وكل ما قاله أنه لم ير استعمال السيف. فكأن عمرًا يرى أن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يصح أن يصل إلى حد السيف؛ فهو ينكر على المنصور مظالمه بلسانه، ويعظه ويؤنبه، فأما السيف فلا. وقد اكتفى منه المنصور بذلك، ولكن فهم منه من غير شك ميله النفسي لمحمد بن عبد الله بن الحسن، ولم يعبأ كثيرًا بهذا الميل متى لم يستعمل السيف؛ فمبدأ استعمال السيف في الأمر بالمعروف لم يكن رأي عمرو، وإن كان رأي غيره من بعض المعتزلة.
فإذا استنتجنا من هذه الحكاية أن عمرو بن عبيد كان أميل لمحمد بن عبد الله بن الحسن منه للمنصور لم نبعد.
•••
ثم للمعتزلة أيضًا ناحية أخرى جاءتهم من تقديرهم لسلطان العقل، وهي أنهم بعد أن قرروا أصولهم، وآمنوا بها إيمانًا تامًا، كان ما يعارضها من آيات يؤولونها كما رأيت من قبل، وما يعارضها من أحاديث ينكرونها — وكل ذلك في جرأة وصراحة — ولذلك كان موقفهم في الحديث كثيرًا ما يكون موقف المتشكك في صحته، وأحيانًا موقف المنكر له، لأنهم يحكمون العقل في الحديث لا الحديث في العقل، ولنضرب لذلك بعض أمثلة:
وأنكروا حديث: «لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن» وقالوا: ينبغي إذا أن تكون الريح عندكم غير مخلوقة، لأن كل شيء في الله قديم غير مخلوق.
وكذلك فعل النظام فيما روي عن ابن مسعود أيضًا من أنه رأى قومًا من الزط فقال: «هؤلاء أشبه من رأيت بالجن ليلة الجن»، وذلك أن المعتزلة ينكرون قدرة الناس على رؤية الجن لقوله تعالى: يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ. يقول الزمخشري: وفي ذلك دليل بَيَّن أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس، وأن إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم، وأن زعم من يدعي رؤيتهم زور ومخرقة».
وقد ذكر الجاحظ في كتاب الحيوان كلامًا ممتعًا على الجن وعدم إمكان رؤيتهم فقال: وللناس في هذا الضرب ضروب من الدعاوى، وعلماء السوء يظهرون تجويزها وتحقيقها، كالذي يُدعون من أولاد السعالي من الناس، وكما يروي أبو زيد النحوي عن السعالاة التي أقامت في بني تميم حتى ولدت فيهم؛ فلما رأت برقًا يلمع من شق بلاد السعالي حنت وطارت إليهم، وأنشدني أن الجن طرقوا بعضهم فقال:
وحُكي أن لصًا دخل دار معتزلي فأحس به فتبعه، فنزل إلى البئر فأخذ المعتزلي حجرًا عظيمًا ليدليه عليه، فخاف اللص فقال: «الليل لنا والنهار لكم» يوهمه أنه من الجن، فهزئ المعتزلي بذلك ورمى بالحجر فهشمه.
ولنعد إلى ما كنا فيه فنقول: إن المعتزلة نقدوا الصحابة والتابعين بحرية، ورموهم بالتناقض أحيانًا، فنقد النَّظام أبا بكر في قوله حين سئل عن آية من كتاب الله فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا أنا قلت في آية من كتاب الله برأيي؛ ثم سئل عن الكلام فقال: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمني. قال النَّظَّام: والقول الثاني خلاف القول الأول. وعاب حذيفة بن اليمان إذ جعل يحلف لعثمان على أشياء بالله تعالى ما قالها، وقد سمعوه قالها، فقيل له في ذلك. فقال: إني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله. إلى كثير من أمثال ذلك مما نقله ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث، وألف كتابه هذا للرد عليه والتوفيق بين ما ظاهره التناقض في الحديث.
وعلى الجملة فقد كان هذا وأمثاله من أكبر مظاهر المعتزلة في الإيمان بسلطان العقل وتحكيمه في كل الأمور، فلا عجب بعد أن يطلق عليهم المستشرقون اسم «العقليين». وقد استخدموا ما وصل إليه العلم والترجمة والفلسفة في عصرهم في بحوثهم الدينية، وهاجموا بذلك كله المحافظين والمتشددين، وقد أدرك ذلك الناس وعبروا عنه تعبيرًا ظريفًا؛ فقالوا: «النرد أشعري والشطرنج معتزلي»، لأن لاعب النرد يعتمد على القضاء والقدر، ولاعب الشطرنج يعتمد على الكد وإعمال الفكر. وفي ذلك يقول بعضهم في النرد:
ويقول آخر في الشطرنج:
(٣) تاريخ المعتزلة ومشهورو رجالهم
كان أهم عصر في تاريخ المعتزلة من سنة ١٠٠ إلى سنة ٢٥٥هـ، ففي هذا العصر تكونوا ونموا وبلغت دولتهم أوجها، وقد رأينا قبل أنهم نشأوا في أواخر العهد الأموي، وكانوا يكرهون الأمويين ويكرههم الأمويون، وأن هشام بن عبد الملك كان يكره هذه النزعة منهم، ونكل ببعض من يرى رأي القدرية، وأنهم لم يرضوا عن أحد من بني أُمية كما رضوا عن يزيد بن الوليد لاعتناقه مذهبهم.
وأنهم في أول العهد العباسي كان زعيمهم عمرو بن عبيد مهادنًا للمنصور لا يخرج عليه، ولكن لا يعاونه.
وفي بدء العصر العباسي نشطت دعوتهم، وبعثوا الدعاة إلى أقصى الأمصار ينشرون مبادئهم، وقد وصف ذلك شاعر المعتزلة صفوان الأنصاري أصدق وصف، إذ يقول في قصيدته التي تعد وثيقة من أهم الوثائق في أعمال المعتزلة:
ففي هذه القصيدة وصف المعتزلة بأن لهم دعاة بلغوا أقصى الصين وخلفها، وبلغوا المغرب الأقصى، وأن لهم من إيمانهم في دعوتهم ما يستسهلون معه الصعاب، فلا يثنيهم البرد القارس، ولا الحر القائظ، ولا تعوقهم مشقة السفر، ولا احتمال الخطر، وهم في كل بلد أوتادها كأنهم الجبال الرواسي في الثبات ومتانة العقيدة، وهم من سعة النظر ومعرفة الدين بحيث كانوا موضع الفتيا، ثم وصفهم بأنهم أهل الجدل والمناظرة، يثيرون المسائل ويبرهنون عليها، ويحركون العقول للبحث والتفكير وتقليب الآراء على وجوهها المختلفة، إلى طلاقة في اللسان، يعجز عن بلوغ شأوها سحبان، وهم حرب على أهل العقائد المختلفة يلزمونهم الحجة، ويدعونهم إلى المحجة، ينازلون الخوارج، وينازلون الروافض، ويجادلون المرجئة، ويزيلون شك الشكاك، ثم لهم سيمًا خُلُقية، فهم في سمت حسن، ورزانة وهدوء، كأن على رؤوسهم الطير، وهم الحُجَّاج لا يعبأون بمشاق الأسفار، وهم المتعبدون تطول صلاتهم، وتطول فيها تلاوتهم، إلى صدق في القول، وصراحة في الكلام، ولهم شعار في ملابسهم وشكلهم، فهم يعتمون عمامة خاصة يعرفون بها، ويقصون أطراف الثوب (وهو كناية عن تقصيرها)، يَعْفون شاربهم (وهو المبالغة في قصها والأخذ منها).
فنرى من هذا أن واصلا كون حوله رجالا كثيرين، وبعث بهم إلى البلدان دعاة يدعون إلى الاعتزال وينشرونه بين الناس، وكان ناجحًا في تأسيس جمعيته وتنظيمها ووضع خططها.
ويذكر ياقوت في مادة «تاهرت» وهي «مدينة بالمغرب قرب تلمسان» «أن مجمع الواصلية (أصحاب واصل بن عطاء) كان قريبًا من تاهرت، وكان عددهم نحو ثلاثين ألفًا في بيوت كبيوت الأعراب يحملونها».
وفي أيام المأمون والمعتصم والواثق زاد عددهم، لأن الدولة كانت دولتهم، وقد بلغوا في أيامهم أوجهم.
ثم أثاروا الفكر وحملوه على البحث ووجهوا نظره إلى مسائل لم تثر قبلهم، فأثاروا مسائل كثيرة في الإلهيات كالذي رأينا، وفي الطبيعيات، وفي السياسيات.
فللمعتزلة الفضل الأول في وضع الأسس الأولى لعلم الكلام، وعلم البلاغة، وعلم الجدل والمناظرة، كما أنهم كانوا المنفذ الأول الذي دخل منه فلاسفة المسلمين إلى الفلسفة اليونانية، لأن المعتزلة أول من استعان بالفلسفة اليونانية، واستقوا منها في تأييد نزعاتهم، فأقوال كثيرة من أقوال النظام وأبي الهذيل والجاحظ وغيرهم، بعضها نقلٌ بحت من أقوال فلاسفة اليونان، وبعضها دخله شيء من التعديل كما سيأتي بيانه في مواضع متفرقة.
•••
ومدرسة المعتزلة تنقسم إلى فرعين كبيرين: فرع البصرة، وفرع بغداد، وفرع البصرة أسبق في الوجود، وله الفضل الأكبر في تأسيس المذهب، وأكثر استقلالًا في رأيه، ويتلوه في كل ذلك فرع بغداد. ولنرسم بيانًا مجملًا لأشهر رجال كل فرع، ونترجم لأعلامهم:
(٣-١) فرع البصرة
فأهم رجال هذا الفرع:
واصل وعمرو بن عبيد
ولهذا كان أكثر رجال المعتزلة تلاميذ لواصل أو تلاميذ لتلاميذه. وميزة عمرو بن عبيد كانت أبين في أنه حي القلب، يعظ فيجيد الوعظ، ثم لا يخشى في وعظه خليفة وأميرًا، يحتقر عطاياهم ويعلو بنفسه على نفوسهم، وينفذ بموعظته إلى قلوبهم فيبكيهم، ثم يلحون عليه في أن يغشى مجالسهم ويتردد عليهم، فيأبى ويفر منهم. وكان إذا جادل واصلا هزمه واصل، فهو من ناحيته العقلية أقل منه، مع أنه من ذلك في منزلة رفيعة، ولكنه من ناحية قلبه وإيمانه لا يقل عن واصل إن لم يزد عليه زهدًا وورعًا.
وقد وصفه النَّظَّام فقال: كان عمرو بن عبيد عالمًا عاقلًا عابدًا، وكان ذا بيان وحلم وصاحب قرآن.
أبو الهُذَيْل العَلاَّف
ولعل اتصاله هذا بالفلسفة اليونانية هو الذي مكنه من تنظيم مبادئ المعتزلة؛ وفتح له جهات نظر لم تكن تُعرف من قبل.
وقد امتلأت حياته بالمناظرة والجدل مع الزنادقة، والشكاك، والمجوس، والثنوية، ورووا أنه أسلم على يده أكثر من ثلاثة آلاف رجل.
فهو في هذا يصوره بخيلًا، ويبالغ في تصويره كعادته، كما يصوره على شيء من الغفلة؛ إذ يضحك الناس من قوله عن الدجاجة، وهو يظن أنهم معجبون لا مستهزئون، وهو مع بخله يفتخر بالكرم ويدعي التبذير والإسراف. وليس عجيبا أن يكون مع علمه الواسع بخيلًا وفيه غفلة، فمن السهل اجتماع ذلك في شخص، والشواهد الواقعية عليه كثيرة. وكلام الجاحظ في شيخه مقبول مصدق، وعلى العكس من ذلك ما اتهمه به بعض المحدثين من الفجور وذكره الخطيب البغدادي، فقد جد المحدثون في وضع الأخبار لانتقاص المعتزلة لما بينهم من عداء.
ويرميه «بشر بن المعتمر» — شيخ معتزلة بغداد — بالنفاق وحب الظهور، ويقول فيه هذه الكلمة البليغة: «لأن يكون أبو الهذيل لا يعلم وهو عند الناس يعلم أحب إليه من أن يعلم وهو عند الناس لا يعلم؛ ولأن يكون من السفلة وهو عند الناس من العلية أحب إليه من أن يكون من العلية وهو عند الناس من السفلة؛ ولأن يكون نبيل المنظر سخيف المخبر أحب إليه من أن يكون نبيل المخبر سخيف المنظر، وهو بالنفاق أشد عجبًا منه بالإخلاص، ولباطلٌ مقبول أحب إليه من حق مدفوع».
وعلى الجملة فيظهر من مجموع ما نقل عنه أنه كان من ناحيته العلمية كبير العقل واسع المعرفة، ومن ناحيته اللسانية قوي الجدل فصيح المنطق، ومن ناحيته الخلقية فيه مغمز: فهو بخيل يدعي الكرم، يهمه المظهر أكثر مما يهمه المخبر، وهو إلى الغفلة أقرب منه إلى المكر والدهاء.
نموذج من جدل:
-
(١)
قالوا إنه مات لصالح بن عبد القدوس ابنٌ فمضى إليه أبو الهذيل فرآه حزينًا فقال: لا أعرف لجزعك وجهًا إلا إذا كان الإنسان عندك كالزرع (يعني أن لا حياة له بعد هذه الحياة). فقال: إنما أجزع لأنه لم يقرأ كتاب الشكوك. قال أبو الهذيل: وما كتاب الشكوك؟ قال: كتاب وضعته، من قرأ فيه شك فيما كان حتى يتوهم أنه لم يكن، وفيما لم يكن حتى يظن أنه كان. قال أبو الهذيل فشك أنت في موت ابنك وافرض أنه لم يمت وإن كان قد مات، وشك أيضًا في أنه قرأ ذلك الكتاب وإن كان لم يقرأ.
-
(٢)
وجاءه رجل فقال: أشكلت عليَّ آيات من القرآن توهمني أنها ملحونة، فقال أبو الهذيل: أأجيبك بالجملة، أو تسألني عن آية آية؟ قال: بل تجيبني بالجملة. فقال أبو الهذيل: هل تعلم أن محمدًا كان من أوسط العرب، وأن العرب كانوا أهل جدل؟ قال: نعم. قال: فهل تعلم أن العرب اجتهدوا في تكذيبه؟ قال: نعم. قال فهل تعلم أنهم عابوه باللحن؟ قال: لا. قال أبو الهذيل: فتدع قولهم مع علمهم باللغة، وتأخذ بقول رجل من الأوساط؟
وقد اشتهر أبو الهذيل بالجدل والإقناع من أقرب طريق، حتى يروي الخطيب البغدادي أن لصًا لقيه فأمسك بمجامع جيبه (الجيب فتحة الرقبة) وقال له: انزع ثيابك. فقال أبو الهذيل: استحالت المسألة. قال: وكيف؟ قال تمسك بموضع النزع وتقول لي انزع، أأنزعه من ذيله أم من جيبه؟ قال: أنت أبو الهذيل؟ قال: نعم. فتركه.
ودخل على الحسن بن سهل فلقي عنده رجلا يدعي التنجيم، فقال له أبو الهذيل: إنه عملٌ باطل. فسأله البرهان، وكان في المجلس تفاح؛ فقال: آكل هذه التفاحة أم لا؟ قال المنجم: تأكلها. فوضعها أبو الهذيل وقال: لست آكِلها. قال المنجم. فتعيدها إلى يدك وأعيد النظر. فوضعها وأخذ غيرها. فقال له الحسن: لم أخذت غيرها! قال: لئلا يقول لي لا تأكُلها فآكلها خلافًا عليه فيقول. قد أصبت في المسألة الأولى.
كان يرى أن للعالم كُلاًّ وجميعًا، ونهاية، وغاية، لأنه محدث، والمحدث مخالف للقديم؛ فإذا كان القديم ليست له غاية ولا نهاية، وجب أن يكون للمحدث غاية ونهاية، ولأن المحدثات ذات أبعاض، وما كان كذلك فواجب أن يكون له كل ونهاية. فلما اعُترض عليه — في قوله هذا — بنعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، وأنهما لا نهاية لهما، لم ير هذا الرأي، وقال: إني لا أفهم حركات لا تنتهي، ولذلك يجب أن نقول إن حركات أهل الجنة وأهل النار تنقطع، وأنهم يصيرون إلى سكون دائم خمودًا، وتجتمع اللذات في ذلك السكون لأهل الجنة، وتجتمع الآلام في ذلك السكون لأهل النار.
ومن المسائل التي اشتهر بها أبو الهذيل رأيه في «إرادة الله»، وهي مسألة من المسائل المشكلة في الصفات أشرنا إليها فيما قبل؛ ذلك أن الإرادة التي نفهمها في الإنسان صفة من وظيفتها ترجيح أحد طرفي المقدور، فإذا أردت القراءة في كتاب، فقد رجحت القراءة على عدم القراءة، وكانت القراءة وعدمها مقدورين لي. وقد رجحت القراءة لحكمي بأن المصلحة في القراءة تفوق المصلحة في عدمها. فما معنى الإرادة إذا نسبت إلى الله، وقد وردت النصوص بنسبتها؛ كقوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ؛ ولو فسرت الإرادة في الله كما فسرت في الإنسان لاستحال ذلك، لأن ترجيح الشيء وترتيب الفعل عليه طارئ بعد أن لم يكن، وطروء شيء على الله بعد أن لم يكن محال؛ وهذا بعينه هو الإشكال الذي أثير في مسألة العلم والقدرة، وقد مر الكلام فيهما، فكان أبو الهذيل يرى في إرادة الله أنها ضرب من ضروب العلم، وله على ذلك شرح طويل.
وكان يرى أن الإنسان مكلف بالأشياء التي يستطيع العقل التمييز فيها بين الخير والشر ولو لم تصل إليه أوامر الشرع، وإن قصر في ذلك استوجب العقوبة؛ فيجب عليه الصدق والعدل والإعراض عن الكذب والجور ولو لم يصله شرع في ذلك، لأن العقل يستطيع أن يدرك حسنها وقبحها لما فيها من صفات تجعلها حسنة أو قبيحة.
وقد اقتبس أبو الهذيل مسائل كثيرة من الفلسفة اليونانية، طبيعية وإلهية، وربما كان هو أول من أثارها في الإسلام، وتبعه الناس بعد، ينظرون فيها ويوسعونها ويبدون فيها آراءهم المختلفة؛ فقد أثار الكلام في الجسم ما هو؟ فكان أبو الهذيل يقول: إن الجسم ما له يمين وشمال، وظهر وبطن، وأعلى وأسفل، وأقل ما يكون الجسم ستة أجزاء؛ فتكلم في الجوهر الفرد، أو الجزء الذي لا يتجزأ ما هو؟ وهل له جميع صفات الجسم؟ فكان يرى أنه يتحرك ويسكن ويماس، ولكن لا يحتمل اللون والطعم والرائحة ولا شيئًا من الأعراض غير ما ذكرنا، فإذا اجتمعت ستة جواهر وكونت جسمًا استطاعت إذا أن تتحمل بقية الأعراض.
وبحث في أن جوهر العالم واحد (يعني العنصر الذي ينبني منه العالم) أو جواهر مختلفة — وبحث في حركة الجسم هل تنقسم على عدد أجزائه، وكذلك اللون، فكان يرى أن الحركة تنقسم، فما حل في جزء الجسم من الحركة غير ما حل في جزء آخر، وكذلك اللون، وأن الحركة تنقسم بالزمان، فما وجد منها في زمان غير ما وجد منها في زمان آخر، إلخ. وبحث في رؤية الأجسام والأعراض، فكان يذهب إلى أنهما يريان، فالإنسان يرى الجسم ويرى الحركة والسكون والألوان والقيام والقعود، كما كان يذهب إلى أن الإنسان يلمس الحركة والسكون بلمسه للشيء المتحرك والساكن.
وبحث في الكمون، فكان يرى أن الزيت كامن في الزيتون، والدهن كامن في السمسم، والنار كامنة في الحجر ونحو ذلك.
وبحث في علة الخلق، فقال: إنما خلق الخلق لمنفعتهم، ولولا ذلك لكان لا داعي لخلقهم، لأن من خلق ما لا ينتفع به، ولا يزيل بخلقه ضررًا، ولا ينتفع به غيره فهو عابث.
وبحث في حواس الإنسان وإدراكه وإرادته وغير ذلك مما تطول حكايته.
فترى من هذا أنه كان من أسبق الناس في الإسلام في تفتيح موضوعات لم تُثر بينهم من قبل. وهذه الموضوعات قد بحثت في الفلسفة اليونانية، فأخذها وكون له فيها رأيًا عرضه على المسلمين.
وكثير من هذه الموضوعات لا شأن لها بالاعتزال، ولا بالمسائل الدينية، لأنها مسائل طبيعية بحتة؛ ولكن كأن أبا الهذيل وأمثاله أرادوا أن يستعينوا بالفلسفة فعكفوا على ما وصل إلى أيديهم ليستخرجوا منها ما يثبت مذهبهم، ثم إذا هم يشتاقون إلى الفلسفة للفلسفة — على أنهم في كثير من الأحيان أدخلوا هذه المسائل الطبيعية في الدين، وولدوا منها مسائل دينية؛ كالذي رأيت في بحث أبي الهذيل في الحركة، فقد قاده إنكار أن الحركة لا تتناهى، إلى القول بأن حركات أهل الجنة وأهل النار تنقطع، فصدم بذلك بعض التعاليم الدينية.
كما يصح أن نستنتج من هذا أن هذه المسائل كانت أبحاثًا مفرقة لا يؤلف بينها نظام. ويظهر أن مسلك العالم في ذلك الزمان لم يكن تفكيرًا منظمًا يرتب به أصول المسائل، وينتقل من أصل إلى أصل، يربط بينهما رباط منطقي، ثم يستنتج الفروع من الأصول على نظام ثابت؛ بل كانت هناك آراء مبعثرة يتلقفها هؤلاء المعتزلة، ويضعون كل مسألة تحت البحث والجدل، أو بعبارة أخرى يثيرون حولها «الكلام»، وهذا الكلام يجري من شيء إلى شيء. وكثيرًا ما يثير الجدل مسائل ليس يربط بعضها ببعض رباط — ومن أجل ذلك حاولت في أبي الهذيل العلاف أن أنقل كل ما روي عنه فيما بين يدي من كتب الكلام، وفكرت في أن أؤلف منها نظامًا مسلسلًا، وأصولًا أساسية وضعها وفرع منها فلم أستطع، وكذلك كان شأني مع غيره من المعتزلة، وهذا يرجع إلى أحد سببين: إما أنهم وضعوا كتبًا منظمة فلما ضاعت لم يبق لدينا منها إلا المسائل المبعثرة التي رويت لنا، وهذا عندي بعيد، لأن عناوين الكتب التي روي لنا أنهم ألفوها لا تدل على نظام في البحث، وإنما أكثرها جدل لأهل الديانات الأخرى والمذاهب المختلفة. والسبب الثاني الذي أرجحه هو أن المسائل التي كانوا يثيرونها كانت تخضع للفرص والاتفاق وتشعب الجدل أكثر من خضوعها للنظام ووضع الأصول، وكان هذا طبيعيًا؛ فالمعتزلة أول من تعرض لهذا الضرب من البحث. وكل بحث في فرع من فروع العلم يأتي أولًا مبعثرًا ثم يدخله النظام والترتيب، فكان عملهم إرهاصًا لعمل فلسفي منظم يأتي بعد، يقوم به أمثال الكندي والفارابي وابن سينا.
النَّظَّام
كان «النَّظَّام» آية في النبوغ: حدة ذهن، وصفاء قريحة، واستقلال في التفكير، وسعة اطلاع، وغوص على المعاني الدقيقة، وصياغة لها في أحسن لفظ وأجمل بيان.
وهو إبراهيم بن سيار بن هانئ النظام البصري (وكان من الموالي)، تتلمذ للعلاف في الاعتزال، ثم انفرد عنه وكون له مذهبًا خاصًا وعاش في بغداد حينًا، ومات وهو شاب في نحو السادسة والثلاثين من عمره سنة ٢٢١، وكان أستاذ الجاحظ.
ومن كلامه: «العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه لك البعض على خطر». وسمع وقع الصواعق ودوىّ الريح فقال: اللهم إن كان عذابًا فاصرفه، وإن كان صلاحًا فزد فيه، وهب لنا الصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء؛ اللهم إن كانت منحة فمنَّ علينا بالعصمة، وإن كان عقابا فمنَّ علينا بالمغفرة. وكان يقول: ثلاثة أشياء تخلق العقل وتفسد الذهن: طول النظر في المرآة، والاستغراق في الضحك، وطول النظر إلى البحر. ومن ظرفه أنه كان يقول: «لا أقول متُّ قبلك، لأني إذا مت قبله مات هو بعدي، ولكني أقول مت بدلك». وسئل: أي أمور الدنيا أعجب؟ فقال: «الروح». وله تعليقات لطيفة على بعض ما يروى له من أحداث، فقد روي له أن عبد الملك بن مروان توعد الناس فقال: والله ما أنا بالخليفة المستضعف (يعني عثمان)، ولا أنا بالخليفة المداهن (يعني معاوية)، ولا أنا الخليفة المأمون (يعني يزيد بن معاوية)، فقال النظام: والله لولا نسبك من هذا المستضعف، وسببك من هذا المداهن لكنت منها أبعد من العَيُّوق. إلخ.
ثم له شعر رقيق نحا فيه نحوًا خاصًا في دقة المعنى وحسن السبك كقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
ويقول:
وقال:
وقال:
وقال:
ولما مرض قيل له وفي يده قدح دواء. ما حالك؟ فقال:
فتراه في نثره وشعره يتفلسف فتعزز معانيه، وتجود ألفاظه.
وكان يعجبه أبو نواس للطف معانيه ورقة طبعه، وتفلسفه أحيانًا وقربه إلى نفسه. قال الجاحظ: «سمعت النَّظَّام يقول — وقد أنشد شعر لأبي نواس في الخمر — كأن هذا الفتى جمِع له الكلام فاختار أحسنه».
ولما قال أبو نواس:
سأل النظام عن بيت أبي نواس حتى دّلوه عليه فقال له: «أنت أشعر الناس في هذا المعنى، والجزء الذي لا يتجزأ منذ دهرنا الأطول نخوض فيه، ما خرج فيه لنا من القول ما جمعته أنت فيه في بيت واحد».
وفي أقواله نواة لما نراه بعد في تلميذه الجاحظ.
وفي هذا مثل أعلى من أمثلة البحث العلمي والتجربة الصحيحة الدقيقة، واستعمال المنطق السليم في البحث عن الحقائق.
وهذا تحليل يدل على عقل راجح ونظر دقيق وتفكير حر، ولعل النظام علل هذا تدعيمًا لرأي المعتزلة الذي سبق من أن الجن لا يراهم الإنس؛ وأن طبيعة تكوين الجن لا تمكن الإنس من رؤيتهم.
ثم هو واسع الحرية في التفكير شديد الجرأة على المحدثين، قليل الإيمان بصحة الحديث، وهو شديد الإيمان بالقرآن، قليل التصديق بما يرويه المفسرون حول الآيات من أخبار، كالذي يرويه في التفسير عكرمة، والكلبي، والسدي، ومقاتل.
فكان يقول: «كّلف ابن يسير الكتب ما ليس عليها»، فهي لا تصير البليد عالمًا، فالعلم ليس في جمع الكتب وحفظ ما فيها، وإنما هو بالتعقل. كما أن النظام أوضح فكرة في التعليم كان يظن أنها جديدة، فهو يرى أن العالم يجب أن تكون له ثقافتان: ثقافة عامة فيأخذ من كل شيء بطرف، وثقافة خاصة، وهي أن يتخصص في بعض الفروع ويتعمق فيها ويتبحر:
هذا والمحدثون يكرهونه كرهًا عميقًا، وهذا طبيعي بعد الذي ذكرنا من مهاجمته لهم، وهم يصورونه فاسقًا سكيرًا. فيقول ابن قتيبة: «وجدنا النظام شاطرًا من الشطار يغدو على سكر ويروح على سكر، ويبيت على جرائرها، ويدخل في الأدناس، ويرتكب الفواحش والشائنات؛ وهو القائل:
ومثل ذلك في الأنساب للسمعاني.
وقال فيه أبو نواس يهجوه:
ولكن أبا نواس لا يعتد يهجوه فليس في هجائه مقياس الصدق، فقد هجا أبا عبيدة ورماه باللواط، وهجا قُطْرُبا النحوي كذلك. وابن الأعرابي وأبان اللاحقي إلخ؛ وهجا كل من كان يضايقه حتى هجا رمضان لأنه بالصوم يضايقه؛ وهجا المطر لأنه أفاته موعد حبيب. وقال الجاحظ في البخلاء: «كان أبو نواس يرتعي على خوان إسماعيل بن نوبخت كما ترتعي الإبل في الحمض بعد طول الخلة. ثم كان جزاؤه منه أنه قال:
ولعله كان يشرب النبيذ على عادة أهل العراق، ويستحسن الجمال على عادة الأدباء، فاستغل المحدثون ذلك وشنعوا عليه.
وقال الشهرستاني: «إن (النظام) قد طالع كثيرًا من كتب الفلسفة، وخلط كلامهم بكلام المعتزلة». وقال في موضع آخر: «إن أكثر ميله أبدًا إلى تقرير ومذاهب الطبيعيين (من الفلاسفة) دون الإلهيين».
آراؤه الكلامية:
وكان «النظام» يرى أن الجوهر مؤلف من أعراض اجتمعت وأن العالم خلق دفعة واحدة على ما هو عليه من معادن ونبات وحيوان، وكل ما في الأمر أن المتأخر منه في الزمان كامن في المتقدم، فالتقدم والتأخر إنما يقعان في ظهورها من كمونها دون حدوثها ووجودها.
وبحث في أشياء كثيرة طبيعية يطول شرحها؛ كبحثه في الأعراض ورؤيتها، وفي الإنسان هل هو الروح فقط أو الروح والجسم، وفي الأصوات، وفي الخواطر، وفي النار والنور، وفي العلل، وفي التولد إلخ. وإنما الذي يهمنا الآن آراؤه الكلامية والدينية.
فقد رقَّى النظام أصول المعتزلة وزاد فيها ونظمها؛ فوسع القول في توحيد الله على النحو الذي رأيت قبل، وقال: إن الله لا يوصف بالقدرة على الشر، لأن القبح إذا كان صفة ذاتية للقبح ففي تجويز وقوع القبح منه قبح. وزاد في القول بحرية الإرادة عند الإنسان وسيطرته على أعماله، وقد شرحنا قبلُ أصول المعتزلة، وجزء كبير منها من تنظيم النظام.
وعلى الجملة فكان شخصية غريبة حقًا، يشعر هو بقوة شخصيته، وقوة عقليته، فلا يريد أن يقف أمامها شيء؛ فهو يفسر القرآن حسب ما يؤديه إليه عقله، ويخضع ما يرويه المحدثون لحكم عقله؛ ويطلق عقله في نقد ما روي من أعمال الصحابة، وما روي من آرائهم، ولا يرضى عن الفقهاء في كثير من أقوالهم، حتى ولا يرضى عن المعتزلة في مجموعهم، ويهجم على أكبر الفلاسفة فلا يعترف لهم بسلطان؛ فيخطّي أرسطو ويخطئ الذرّيين، ويخطئ الطبيعيين؛ وهكذا كان عقله فوق عواطفه، ورأيه وفكره فوق دينه. يريد أن يخضع كل شيء للمنطق، وفاته أن الدنيا منطق وفن، والإنسان عقل وشعور، والحياة رأي وعاطفة.
الجاحظ
تكلمنا فيما سبق عن الجاحظ الأديب، ونريد أن نتكلم هنا كلمة في الجاحظ المعتزلي.
ولعلنا بعد أن ألقينا بعض الضوء على «النَّظام» وحياته ومنهجه في البحث، نستطيع أن نقول إن الجاحظ لم يكن أمة وحده، وإنه لم يكن بدعًا، ولم تتكون عقليته من عدم، إنما كان وليد النظام ونتاجًا له، وصورة من صوره في البلاغة وفي منهج البحث، وفي سعة الاطلاع، وفي تحرير العقل، وفي الشك والتجربة قبل الإيمان واليقين، وربما لم يكن يساوي النظام في حدة الذهن ولا في الجرأة، ولكن ربما فاقه في اطلاعه على كتب الثقافة اليونانية وغيرها أكثر مما اطلع النظام بحكم تقدم الزمان، وازدياد حركة الترجمة والتأليف؛ هذا إلى أن النظام مات شابًا في مقتبل حياته، أما الجاحظ فقد عمر طويلا، ولم يمت إلا بعد أن نيف على التسعين، واتصل بالأمراء والخلفاء والعامة، ورزق الحظوة عندهم، ورزقت كتبه الحظوة بما منح من أسلوب فضفاض جذاب طويل متعرج غير ممل.
وكان في حياته لسان المعتزلة المدافع عنها، المناصر لها، الموضح لمشاكلها، الذائد عن حياضها، ولكن — مع الأسف — أدى التعصب البغيض إلى أن يحتفظ الناس بكتبه الأدبية لا الدينية، فكتبه في الاعتزال لم تصل إلينا ولم يسلم من يد المتزمتين ضيقي النظر؛ فقد بقي لنا «البيان والتبيين» و«الحيوان» و«البخلاء» ونحوها من كتب الأدب، ولكن لم يبق لنا مثلًا كتابه «الاعتزال وفضله على الفضيلة»، ولا كتابه في «الاستطاعة وخلق الأفعال» و«خلق القرآن» وكتاب «فضيلة المعتزلة» إلى غير ذلك من كتبه الدينية. فالمترجم له من ناحية الاعتزال يحار فيه كما يحار في غيره من المعتزلة، ويحاول أن يجمع نتفا متفرقة هنا وهناك ليتعرف منها مذهبه في الاعتزال، مع أنه المؤلف المكثر والكاتب القدير.
وعلى الجملة فقد جمع الجاحظ في عقله كل ثقافة عصره، وقلّ أن يكون له في ذلك نظير، فقد كان العلماء يبرزون في ناحية من النواحي، فاللغوي لا يعرف الفلسفة، والفيلسوف لا يعرف الأدب، ولكن هذه الإحاطة قل أن نجدها عند غير النظام أولًا، والجاحظ من بعده، وقد فاق الجاحظ في ذلك أستاذه. ومن أجل هذا كان للجاحظ فضل على الأدب والفلسفة جميعًا، ففي الأدب كان فضله أنه أغزر معانيه، وجعل له موضوعًا بعد أن كاد يكون شكلًا بحتًا؛ فتقرأ رسائله فتجدها ناصعة الأسلوب، غزيرة المعنى، لها موضوع ولها شكل، هذه رسالة في القيان، وهذه رسالة في المعلمين، وهذه رسالة في الغناء، حتى رسالته في الهجاء، وهي رسالة «التربيع والتدوير»، استطاع أن يجعل لها موضوعًا علميًا، بل لعلها أحسن رسائله لمن شاء أن يعرف أي المسائل العلمية والعقلية والأدبية والفلسفية كان يشغل الناس في عصر الجاحظ. وفضله على الفلسفة أنه صاغها صياغة أدبية قريبة إلى الأذهان، لا كما كان يفعل حنين وبختيشوع الأعجميان؛ فهو يمزج كلام أرسطو بأشعار الجاهليين، وقول الفلاسفة بأقوال الأدباء، ويخرج من ذلك كله إلى نتيجة تلذ القارئ وتغذي العقل.
وهو مع ذلك كله استفاد فائدة كبرى من أستاذه «النظام» ومن المعتزلة عامة في القول بسلطان العقل؛ فليس عبدًا للأدب يرويه فقط، بل يرويه وينقده، وليس عبدًا لأرسطو وفلاسفة اليونان كما يفعل حنين وبختيشوع وسلمويه، وليس عبدًا للحديث كما يفعل المحدثون، بل ينقده ولا يسلم بصحته شيء منه إلا ما استساغه العقل.
فلو قلنا إن الجاحظ كان أوسع أهل زمانه معرفة لم نبعد. ولو بقيت لنا كتبه كلها، وجمعنا ما فيها، ورتبناه ترتيبًا أبجديًا لخرج لنا منها «دائرة معارف» شاملة وافية دالة على معارف عصر الجاحظ.
ولنعد بعد ذلك إلى ناحية الجاحظ الاعتزالية.
وهذه المسألة جرى فيها الخلاف بين علماء الكلام في عصر الجاحظ وبعده: هل المعارف ضرورية أو نظرية؟ ويعنون بالضرورية أنها تحصل بلا اكتساب وبلا نظر، وبأنها نظرية أنها تحصل بالاكتساب والنظر؛ فكان الفخر الرازي يرى كالجاحظ أنها ضرورية، وكان إمام الحرمين والغزالي يريان أنها نظرية؛ ويرى غيرهم أن بعضها ضروري وبعضها نظري، وفي ضوء هذا يمكننا تفسير رأي الجاحظ.
وقد جر المعتزلة إلى البحث في هذا الموضوع مسألتان هما:
-
(١)
هل الإنسان يخلق أفعال نفسه أو يخلقها الله فيه؟
-
(٢)
والأفعال المتولدة من فعل؛ هل تنسب إلى الفاعل أو لا تنسب؛ فإذا رمى حجرًا في الماء فتولدت منه دائرة ودائرة ودائرة، هل تنسب إليه؟ وإذا أشعل عودًا فأحرق البيت، وتولد عن الإحراق موت أشخاص، وتولد من الموت أحداث، هل تنسب إلى من أشعل العود؟ وقد تقدم بحث هاتين المسألتين؛ فكان «ثُمامَةُ بن الأشْرَس» من أعلام المعتزلة يرى أن الأفعال المتولدة لا فاعل لها؛ فقد يفعل شخص فعلا، ويتولد بعد موته عنه أفعال، فلا يمكن نسبتها إلى الميت، وإذا كانت قبيحة فلا يمكن نسبتها إلى الله، لأنه لا يفعل القبيح، فهي أفعال لا فاعل لها، فيجب أن نقول ذلك في كل المتولدات.١٦٦
ويظهر أن الجاحظ كان يرى هذا الرأي فأداه إلى القول بأن المعارف ليست من فعل الإنسان، لأنها متولدة إما من اتجاه الحواس أو من اتجاه النظر. ولذلك قال إن الإنسان في تحصيل معارفه ليس له إلا توجيه الإرادة، وما يحدث بعد ذلك فاضطرار وطبيعة؛ فإذا أنت فتحت عينك فأدركت أن هذا الشيء أحمر، وهذا أصفر، وأن هذا أكبر من ذاك، ففتحك لعينك عمل إرادي اختياري كسبي، وأما المعارف التي تحصل منه، أو بعبارة أخرى تتولد منه، فاضطرارية؛ وكذلك الشأن في توجيه الفكر إلى البحث واستعراض البرهان، فتوجيه النظر عمل إرادي، ولكن اقتناع الناظر أو عدم اقتناعه وتحصيل العلم به عمل ضروري أو اضطراري لا كسبي.
ومعارف الإنسان معارف بطبعه؛ فهو يلتقم الثدي بطبعه، ويألم ويطرب بطبعه، فإذا نما عقله طبيعيًا نمت معارفه طبيعية، فبدأ يدرك أن الكل أكبر من الجزء، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين، وهو بطبعه يتطلب الفكر والنظر، وهو بطبعه يقبل ما صح لديه من برهان ويرفض ما لم يصح عنده.
ووجه ما ذهبنا إليه من ربطنا قول الجاحظ في هذه المسألة بقوله إن المعارف ضرورية، أنه لما رأى أن المعارف ضرورية استتبع ذلك أن آراء الإنسان وعقائده ليست مكتسبة، بل هي مفروضة عليه فرضًا، وأنها نتيجة حتمية لكيفية تكوين عقله وما يعرض من الآراء، وأنها تفاعل طبيعي بين هذين العاملين، فمن عرض عليه دين فلم يستحسنه عقله فهو مضطر إلى عدم الاستحسان، وليس في الإمكان أن يستحسن؛ فمن أسلم عن نظر فإسلامه ضروري غير مكتسب، ومن كفر فكفره ضروري غير مكتسب؛ وليس للإنسان من الأعمال المكتسبة إلا توجيه الإرادة، فإذا وجهها فما بعد ذلك من كفر وإيمان لا دخل له فيه. وحينئذ لا يكون مسئولًا عن اعتقاده، إذ لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها؛ فمن أصيب بعمى اللون فرأى الأحمر أسود فلا لوم عليه في ذلك، إذ ليس في استطاعته إلا أن يفتح عينه أو يقفلها، أما أن يرى هذا أسود أو أحمر فلا دخل له فيه، وكذلك الشأن في المعقولات.
هذا ما استطعت أن أفهمه من قول الجاحظ: «إن المعارف ضرورية»، ومن قول المرتضى، إنه أغرى بذلك. ولست أرى في هذا الرأي تناقضًا بينه وبين مبدأ المعتزلة العام، وهو أن الإنسان يخلق أفعال نفسه، لأنه إذا قال بسيطرة الإنسان على إرادته لم يخالف المبدأ العام، وإن قال إن ما تولد بعد ذلك طبع وضرورة.
وهي عبارة — على إيجازها — تدل على معان عديدة، فهو يقرر فيها القوانين الطبيعية للأشياء؛ فللماء وللنار ولأشياء هذا العالم كلها قوانين طبيعية لا تتخلف، وهو يقرر المبدأ الهام الحديث وهو أن المادة لا تنعدم، فهو يقول: «الجوهر لا يجوز أن يفنى» وإنما تتغير الأعراض؛ فجوهر المادة ثابت لا ينعدم وإنما يتحول ويتغير فيكون مرة ماء، ومرة زرعًا، ومرة معدنًا، ومرة خشبًا، وهذه كلها أعراض طارئة على المادة، وإن شئت فقل: إنها طارئة على العناصر الأولية التي تتكون منها المواد.
بل يذهب في ذلك إلى رأي غريب حتى في الآخرة؛ يرى أن طبيعة أهل النار وفاق للنار، وعلى هذا النمط طبيعة أهل الجنة وفاق للجنة؛ فأهل النار بطبيعتهم يعلنون النار عن أنفسهم، فهي تجذبهم إليها بطبيعتها وطبيعتهم.
وأما المسألة الثانية التي ذكرها المرتضى، وذكر أن الجاحظ أغرم بها، وهي الكلام على الرافضة؛ فقد بقي لنا مما كتبه الجاحظ فيها نتف قصيرة من رسالته في «استحقاق الإمامة» — والرافضة فرقة من الشيعة سميت بذلك لأنه لما خرج زيد بن عليّ بن الحسين سئل عن رأيه في أبي بكر وعمر فأحسن القول فيهما وترحم عليهما، فرفضه قوم من الشيعة من أجل توليه لهما فسموا رافضة، وانقسم الشيعة إذ ذاك إلى فريقين: رافضة وزيدية، وكلاهما يفضل عليا على أبي بكر وعمر، ولكن الزيدية أقل طعنًا عليهما وأعدل حكمًا فيهما كما سيأتي.
ونقد النابتة من أهل عصره الذين يزعمون «أن سب ولاة السوء فتنة ولعن الجورة بدعة» وعجب من أنهم مجمعون على لعن من قتل مؤمنًا متعمدًا أو متأولًا؛ ثم إذا كان القاتل سلطانًا جائرًا، أو أميرًا عاصيًا لم يستحلُّوا سبه ولا خلعه ولا نفيه ولا عيبه، وإن أخاف الصلحاء، وقتل الفقهاء، وأجاع الفقير، وظلم الضعيف؛ وإنما يتسكعون مرة، ويداهنونهم مرة، ويقاربونهم مرة، ويشاركونهم مرة، إلا بقية ممن عصمه الله.
وقد أفادتنا هذه الرسالة أيضًا أن الجاحظ لا يرى العمل بالحديث إلا ما كان مجمعًا عليه، كما يدل عليه نصه المتقدم؛ فإذا اختلف الناس في الحديث كأن يصححه قوم ويضعفه آخرون، أو كأن يروي حديث آخر ينقصه فالحكم للعقل؛ ولذلك ترك الأحاديث الواردة في النبيذ، لأن بعضها يفيد الحل، وبعضها يفيد الحرمة، ورجع إلى عقله يحكمه. كما أبان بصراحة أن العقل الصحيح أساس من أسس التشريع، ووضعه في شكل غير الشكل الذي يوضع عادة، وهو القياس المقيد في كتب الفقهاء.
وهاجم في هذه الرسالة رجال الحديث، ورماهم بالقصور في البحث والتنقيب والميل عن التنقير، والانحراف عن الإنصاف، وهذا دأب المعتزلة والمحدثين دائمًا، متنافرين متباغضين متخاصمين خصومة عنيفة، للاختلاف بينهم في العقلية ومنهج البحث، وبلغ ذلك أشده في فتنة خلق القرآن كما سيأتي.
وعلى الجملة فقد كان الجاحظ من الرجال القليلين الذين لهم أثر واسع في الأدب وفي الكلام وفي الدين، ورزق الحظوة في أسلوبه، فكان أسلوبًا سهلًا، عذبًا، واسعًا، فكهًا، يتتبع المعنى ويقلبه على وجوهه المختلفة، ولا يزال يولده حتى لا يترك فيه قولًا لقائل؛ فلما استعمل أسلوبه هذا في الاعتزال وفي المسائل الدينية قرَّبها إلى الأذهان، وكانت قبله مركَّزة غامضة لا يدركها إلا الخاصة، فجلا بأسلوبه غامضها، وأوسع ضيقها وقربها إلى كل ذهن يفهم، فاتسعت دائرة المعارف، ووصلت به إلى أذهان لم تكن تسيغ أقوال الفلاسفة والمتكلمين، وأقنع عقول قوم لم يكن يقنعهم القول الموجز، والتعبير المجمل؛ فأي إنسان من قرَّاء العربية بعده لم يكن مدينًا له؟
(٣-٢) فرع بغداد
بشر بن المعْتَمر
هو أبو سهل الهلال مؤسس فرع الاعتزال في بغداد، وقد اتصل بالفضل ابن يحيي البرمكي، وكان مقرّبًا إليه، وأزهر في أيام هارون الرشيد، وهو شخصية قوية، وله ناحيتان بارزتان: ناحيته الأدبية، وناحيته الاعتزالية.
- (١)
بأن يتخير أوقات الكتابة فليس كل وقت صالحًا لها، فليعمد إلى أوقات الفراغ، وخلو البال، ومواتاة الطبع، فإن ذلك أحرى أن يخرج الكلام عنده سهلًا سائغًا لا متكلفًا ولا معقدًا.
- (٢)
ورسم المثل الأعلى للكلام البليغ، وهو أن يكون اللفظ رشيقًا عذبًا، وفخمًا سهلًا، والمعنى ظاهرًا مكشوفًا، وقريبًا معروفًا.
- (٣)
وأبان أساس البلاغة، وهو أن يكون الكلام مطابقا لمقتضى الحال «فليس يشرف المعنى بأن يكون من معاني الخاصة، وليس يتضع بأن يكون من معاني العامة، إنما مدار الشرف على الصواب، وإحراز المنفعة مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال»، فإذا أمكن الأديب أن يفهم العامة معاني الخاصة ويكسوها الألفاظ التي تقربها إليهم «فهو البليغ التام».
- (٤)
وعرض للألفاظ وأماكنها في الكلام، وأنه يجب أن تقع موقعها، وتحل في مراكزها ونصابها، وتتصل بشكلها، ولا تكون نافرة من موضعها، ولا مكرهة على النزول في غير أوطانها.
فمن لم يجد نفسه أهلا لذلك، وتعصّى فكره، فإن كان لعارض عرض، فليترك الكتابة إلى أن تواتيه طبيعته، أما إن تخلف ذهنه وذوقه لا لعلة عارضة، ولكن لعدم استعداد وجمود قريحة، فخير أن يترك الأدب والبلاغة، ويتحول إلى صناعة أخرى هو لها أكثر استعدادًا وأشد مشاكلة.
وهذه كما ترى أسس البلاغة. وقد كتبها قبل أن يؤلف الجاحظ كتابه البيان والتبيين، لأن الجاحظ نقلها عنه، ولأن بشرًا نضج قبل نضج الجاحظ، ومات قبله بنحو خمس وأربعين سنة — فإن بشرًا مات نحو سنة ٢١٠ ومات الجاحظ سنة ٢٥٥، ولا نعلم قبل بشر من تعرض لوضع هذه الأسس في اللغة العربية، فلو أسميناه «مؤسس علم البلاغة» لم نبعد.
ثم كانت له قدرة فائقة في نوعي المخمس والمزدوج من الشعر. قال الجاحظ: «لم أرَ أحدًا أقوى على المخمس والمزدوج مما قوي عليه بشر، وقد كان في ذلك أقدر من أبّان اللاحقي».
ولعل قصيدتي بشر بن المعتمر في عجائب صنع الله في الحيوان هما اللتان أوحتا للجاحظ تأليف كتابه «الحيوان».
وله شعر مزاوج، مثل قوله في تفضيل عليّ على الخوارج:
فشعره أكثره شعر تعليمي تتعلق بالديانات والمذاهب، والعظة بالنظر في مخلوقات الله، وهكذا. وقد ذكر المرتضى أن له قصيدة أربعين ألف بيت رد فيها على جميع المخالفين.
•••
ومما يدور حول المسئولية أيضًا بحثه في أعمال الطفل، هل هو مسئول عنها وهل يعاقبه الله عليها؟ فرأى «بشر» أنه ليس بمسئول وأن الله تعالى قادر على أن يعذبه، ولكنه لو فعل ذلك لكان ظالما إياه، ولكنه رأى أن هذا تعبير غير مستحسن في جانب الله؛ فيحسن أن يعبر عن هذا المعنى تعبيرًا ألطف.
ومما يتصل بالمسئولية أيضًا قوله: إن من تاب عن كبيرة ثم عاد إليها استحق العقوبة على الجريمة الأولى التي تاب عنها، فإن توبته إنما تمحو المسئولية بشرط ألا يعود.
•••
وقد تتلمذ له كثيرو كان من أظهرهم شخصية وأبعدهم أثرًا في نشر الاعتزال في بغداد ثلاثة:
-
(١)
أبو موسى المُردار.
-
(٢)
وثُمَامَةُ بن الأشْرَس.
-
(٣)
وأحمد ابن أبي داود.
أبي موسى المْردار
والناس يؤثر فيهم هذا المنظر الورع الزاهد، فلا عجب إذا انتشر الاعتزال في بغداد بسلوكه.
وطبيعي أن هذا القول من أبي موسى يثير الناس للجدل والرد عليه، ويجعلهم يقابلون الغلو بالغلو، وكذلك كان، فقد اتسع الموضوع في هذا الحديث حتى كانت المحنة فيما بعد.
ووقف من الصحابة والأحداث السياسية موقف كثير من المعتزلة، فكان يتبرأ من عمرو بن العاص ومعاوية ومن كان في صفهما، وتوقف في الحكم على عثمان، فلم يحكم عليه بخير ولا شر، لأنه خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا، ولكنه تبرأ من قاتليه؛ وشهد لهم بأنهم من أهل النار.
وكان قول المعتزلة هذا في معاوية وعمرو وحزبهما يوافق هوى العباسيين، لأنهم يكرهون دولتهم، ويحبون كل ما يشوه سمعتهم، فإذا كان من رجال الدين — أمثال المعتزلة — من يتبرأ منهم صادف ذلك هوى في نفوسهم. ولكن هل تأثر المعتزلة في هذا الرأي بالسياسة العباسية؟ أظن أن بعضهم من رجال الدنيا والدين معًا تأثروا بذلك، وبعضهم هداه إلى ذلك التفكير الحر، وأظن أن من هؤلاء الأخيرين أبا موسى المردار، فقد كان ورعًا زاهدًا، ومن كان يُكِّر بالقرب من السلطان لا يبيع رأيه له.
الجعفران
وعلى الجملة فإن المردار وتلميذيه الجعفرين قد أظهروا في بغداد نوعًا من الاعتزال، ورعًا زاهدًا، فكانوا أشبه شيء بعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء؛ وكانت سيرتهم سببًا في انتشار الاعتزال ببغداد، وضرب المثل بالجعفرين، فكان يقال عِلم الجعفرين، وزهد الجعفرين، كما يقال عدل العمرين.
ثمامة بن الأشرس
يقول الجاحظ: «قال ثمامة، كان جعفر بن يحيي (البرمكي) أنطق الناس، قد جمع الهدوء، والتمهل والجزالة والحلاوة وإفهامًا يغنيه عن الإعادة، ولو كان في الأرض ناطق يستغني بمنطقه عن الإشارة لاستغنى جعفر عن الإشارة كما استغنى عن الإعادة». وقال ثمامة مرة: «ما رأيت أحدًا كان لا يتحبس ولا يتلجلج ولا يتنحنح، ولا يرتقب لفظًا قد استدعاه من بُعْد ولا يتلمس التخلص إلى معنى قد تقصّى عليه طلبه، أشد اقتدارًا ولا أقل تكلفًا من جعفر ابن يحيي». يقول الجاحظ بعد هذا القول: «وهذه الصفات — التي ذكرها ثمامة بن أشرس فوصف بها جعفر بن يحيي — كان ثمامة بن أشرس قد انتظمها لنفسه واستولى عليها دون جميع أهل عصره، وما علمت أنه كان في زمانه قروي ولا بلدي، كان بلغ من حسن الإفهام مع قلة عدد الحروف، ولا من سهولة المخرج مع السلامة من التكلف ما كان بلغه، وكان لفظه في وزن إشارته، ومعناه في طبقة لفظه، ولم يكن لفظه إلى سمعك بأسرع من معناه إلى قلبك». قال بعض الكتاب: معاني ثمامة الظاهرة في ألفاظه، الواضحة في مخارج كلامه كما وصف الخُرَيميّ شعر نفسه في مديح أبي دُلَف حيث يقول:
وهي شهادة من الجاحظ تعترف بأن ثمامة كان أبلغ أهل عصره وأحسنهم منطقًا وأقدرهم على أداء المعاني. وحسبك بقول الجاحظ من شهادة. وقد كان ثمامة من شيوخ الجاحظ، نقل عنه كثيرًا من أدبه في البيان والتبيين والحيوان، ويقول «أخبرنا ثمامة» و«حدثني ثمامة»، وانتفع به في أسلوبه ومعانيه؛ كما كان — على ما يظهر لي — أستاذه في المجون والفكاهة والنادرة اللاذعة، فما حكى لنا من نودر ثمامة تدل دلالة واضحة على ذلك.
فثمامة في هذا يدفع المأمون إلى تنفيذ مذهب الاعتزال، وقد بدأ برأي المعتزلة في سب معاوية، وهذه كانت أول خطوة يتلوها ما بعدها، ومنه خلق القرآن كما سترى. وهو يحقر العامة ويحمل الخليفة على ألا يعبأ بهم، لأنهم هم أكبر عقبة في سبيل مذهب الاعتزال الحقيقي.
وله في تحقير العامة الشيء الكثير؛ سأل الرشيد يومًا جلساءه عن أسوأ الناس حالًا، فقال كل واحد شيئًا، حتى جاء دور ثمامة فقال: أسوأ الناس حالًا عاقل يجري عليه حُكم جاهلٍ. قال ثمامة: فتبينت الغضب في وجه الرشيد (لأنه ظن أنه يعنيه وكان قد حبسه)، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما أحسبني وقعت بحيث أردت، وإنما عنيت حادثة، وهي أن سلاما الأبرش (وكان سجانًا) وأنا في السجن كان يقرأ في المصحف: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ فقلت له: المكَذَّبون هم الرسل، والمكَذِِّّبون هم الكفار، فاقرأها وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ فقال سلام: «قيل لي من قبل إنك زنديق ولم أقبل» ثم ضيق عليَّ أشد الضيق، فجعل الرشيد يضحك.
وهو قوي الحجة: ناظر يحيى بن أكثم بين يدي المأمون في خلق الأفعال فقال ثمامة: ليست تخلو أفعال العباد من أمور: أن تكون كلها من الله ليس للعباد فيها صنع، أو أن يكون بعضها من العباد وبعضها من الله؛ فإن زعمت أن ليس للعباد فيها صنع كفرت، ونسبت إلى الله كل فعل قبيح؛ وإن زعمت أنها من الله ومن العباد كفرت، لأنك جعلت الخلق شركاء الله في فعل الفواحش والكفر؛ وإن زعمت أنها للعباد ليس لله فيها صنع صرت إلى ما أقوله.
ورأى أبو العتاهية يومًا ينشد:
ورووا أن المأمون سأل يحيى بن أكثم عن العشق ما هو: فقال يحيى: إنه «سوانح للمرء تؤثرها النفس، ويهيم بها القلب»، فقال له ثمامة: إنما شأنك أن تفتي في مسألة طلاق أو مُحرّم، فقال المأمون: قل يا ثمامة، فقال «العشق جليس ممتع، وأليف مؤنس، وصاحب مالك، ومالك قاهر؛ مسالكه لطيفة، ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائرة؛ ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآراءها، وأُعطي عنان طاعتها، وقياد ملكها، وقوى تصرفها، توارى عن الأنصار مدخله، وغمض في القلوب مسلكه» فقال له المأمون: أحسنت.
قال رجل لثمامة: إن لي إليك حاجة. قال ثمامة: ولي إليك حاجة. قال: وما هي؟ قال: لا أذكرها حتى تضمن قضاءها. قال: قد فعلت. قال ثمامة: حاجتي ألا تسألني هذه الحاجة. قال: رجعت عما أعطيتك. قال ثمامة: لكني لا أرد ما أخذت» إلخ.. إلخ.
أحمد بن أبي دُؤَاد
وقد اتصل بالمأمون من طريق يحيي بن أكثم، فكان يحضر مجالس المأمون في الجدل والمناظرة؛ فأعجب المأمون بعقله وحسن منطقه فقربه، وأصبح ذا نفوذ كبير في قصره، وكان من وصية المأمون للمعتصم: «وأبو عبيد الله أحمد ابن أبي دؤاد لا يفارقك الشركة في المشورة في كل أمرك، فإنه موضع ذلك ولا تتخذن بعدي وزيرًا». فلما ولي المعتصم جعل ابن أبي دؤاد قاضي القضاة مكان يحيى بن أكثم، وكان كذلك قاضي القضاة في أيام الواثق، فلما ولي المتوكل أصيب بالفالج وأفل نجمه، فكانت مدة عظمة ابن أبي دؤاد ونفوذه وجاهة نحوًا من ثمان وعشرين سنة، من سنة ٢٠٤، وهي السنة التي عرفه فيها المأمون، إلى ٢٣٢ وهي سنة خلافة المتوكل. ومات أحمد سنة ٢٤٠ على ما حكى المسعودي والذهبي وابن خِلِّكان.
ويقول:
ومدحه مروان الأصغر بن أبي الجنوب وغيره. وقد وقف ببابه أبو تمام وجماعة من الشعراء، وقد طالت أيامهم في الوقوف على بابه، فلما دخلوا قال لأبي تمام: أحسبك عاتبا؟ فقال أبو تمام: إنما يُعْتَبُ على واحد وأنت الناس جميعًا فكيف يعتب عليه؟
واتصل به الجاحظ بعد أن كان منحرفًا عنه، لأن الجاحظ كان من أتباع محمد بن عبد الملك الزيات، وكان محمد من أعداء أحمد بن أبي دؤاد، فلما أوقع بابن الزيات خاف الجاحظ من ابن أبي دؤاد، وتوقع أن يوقع به، ولكنه عفا عنه وأطلقه، فاتصل بعد ذلك الجاحظ بابن أبي دؤاد، وأهدي إليه كتابه «البيان والتبيين»، وأعطاه ابن أبي دؤاد خمسة آلاف دينار، ومدحه الجاحظ بقوله:
وفتن به المعتصم حتى ما كاد يرد له طلبًا، وكان يقول فيه: «هذا والله الذي يُتزيَّنُ بمثله، ويُبْتَهَجُ بقربه؛ ويُعدّ به ألوف من جنسه» وقال له الواثق: «قد اختلَّت بيوت الأموال بطُلبائك اللائذين بك، والمتوسلين إليك. فقال: يا أمير المؤمنين، نتائج شكرها متصلة بك، وذخائر أجرها مكتوبة لك، وما لي من ذلك إلا عشق اتصال الألسن بحُلْو المدح فيك». فقال الواثق: يا أبا عبد الله! لا منعناك ما يزيد في عشقك، ويقوي من همتك، فتناولنا بما أحببت.
وهكذا كان ينال من الخلفاء كثيرًا، وينفق على الناس كثيرًا، ويستحث الخلفاء في عمل الخير للناس وإعطائهم، وتخفيف ويلاتهم؛ لقد وقع حريق بالكرخ فمازال بالمعتصم حتى عوضهم في حريقهم؛ ومرض ابن أبي دؤاد فعاده المعتصم في داره، ونذر المعتصم إن شفاه الله أن يتصدق بعشرة آلاف دينار، فقال ابن أبي دؤاد: فاجعلها لأهل الحرمين، فقد لقوا من غلاء الأسعار عنتًا؛ فقال المعتصم: نويت أن أتصدق بها ههنا، وأنا أطلق لأهل الحرمين مثلها.
«وقيل للمعتصم: كيف تعوده وأنت لا تعود إخوتك وأجلّاء أهلك؟ فقال: وكيف لا أعود رجلًا ما وقعت عيني عليه قط إلا ساق إليَّ أجرًا، أو أوجب لي شكرًا، أو أفادني فائدة تنفعني في ديني ودنياي، وما سألني حاجة لنفسه قط».
هذا النفوذ الكبير، والجاه العريض في قصور الخلفاء، وفي أوساط العلماء والأدباء، وعلى قضاة الأمصار (إذ كان قاضي القضاة) قد أخطأ فاستعمله في حمل الناس على الاعتزال، وإكراههم على القول بخلق القرآن، فهو أكبر سبب في هذه المحنة، فاستوجب سخط كثير من الناس وضاع مجده وعلو شأنه في كثير من الأوساط، حتى قال محمد بن يحيى الصولي: «لولا ما وضع به نفسه من محبة المحنة لاجتمعت الألسن عليه؛ ولم يضف إلى كرمه كرم أحد»؛ فقد كان موصوفًا بالجود والسخاء، حسن الخلق، وافر الأدب، واسع العلم، ولكنه حمل الخلفاء الثلاثة: المأمون، والمعتصم، والواثق، على أن يمتحنوا الناس بالقول بخلق القرآن، فكانت المحنة، وكانت الكارثة، حتى على مذهب الاعتزال نفسه. لقد رأينا قبل أن ثمامة بن الأشرس حاول بعض هذه المحاولات في جعل الاعتزال مذهبًا رسميًا للدولة، ولكن لم يكن له من الجاه والنفوذ، وحسن مداخلة الخلفاء وسحر التأثير فيهم ما كان لابن أبي دؤاد، فنجح ابن أبي دؤاد حيث فشل ثمامة، أو قلْ أتم أحمد ما بدأ به ثمامة.
•••
هؤلاء الذين ذكرناهم أعلام المعتزلة في البصرة وبغداد، وكان لكل مدرسة من المدرستين ألوان خاصة:
-
(١)
من ذلك أن الاعتزال في البصرة كان مذهبًا نظريًا، والاعتزال في بغداد كان عمليًا متأثرًا بالدولة، قريبًا من السلطان.
-
(٢)
وأن تأثر الاعتزال بالفلسفة اليونانية كان أظهر في مدرسة بغداد منه في مدرسة البصرة، لقوة حركة الترجمة في بغداد، ولأن بلاط الخلفاء كان ملتقى رؤساء المسلمين رؤساء المفكرين من أهل الديانات الأخرى؛ فنرى ثمامة بن الأشرس يقرر أن العالم نشأ عن طبيعة الله، أو بعبارة أخرى أن العالم برز من الله، لأن طبيعة الله من شأنها — طبعًا — الإيجاد، ولا يمكن ذلك أن يتخلف، وهذا يؤدي حتمًا إلى القول بقدم العالم، لأن طبيعة الله لا تتغير؛ وهذا متأثر بآراء أرسطو في قدم العالم وطبيعته، وأنه قانون. وقد أشار إلى هذه الصلة بين هؤلاء المعتزلة وفلاسفة اليونان — الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل»، في أكثر من موضع.
-
(٣)
أخذ البغداديون كثيرًا من المسائل التي عرض لها البصريون، فوسعوا مدى بحثها، واستفادوا مما نشر من آراء الفلاسفة فيها؛ كمسألة تحيد «الشيء» ومسألة الجوهر والعرض. ولنشرح هاتين المسألتين بعض الشرح: فقد أثار المعتزلة مسألة «هل المعدوم شيء»؛ وبعبارة أخرى: هل «الشيء» يرادف الموجود؟ وكان النظر في أول الأمر تفسيرًا لغويًا؛ فقد كان سيبويه يقول: «إن الشيء ما يصح أن يعَلم ويخبر عنه»، وبناء على ذلك يكون المعدوم شيئًا، لأنه يصح أن يعلم أنه معدوم، ويصح أن يخبر عنه؛ وكان غيره يرى أنه مرادف للموجود، فلا يصح أن يطلق على المعدوم أنه شيء. ولكن بعد ذلك نرى أن المسألة تطوّرت وبحث فيها على هذا النحو: هل المعدوم جوهر ووجوده عبارة عن اتصافه بالأوصاف وقيام الأعراض به أو ليس بجوهر؟ إلى غير ذلك من التفصيلات الواردة في كتب الكلام.
ولعل أهم مسألة وسعَّها معتزلة بغداد مسألة خلق القرآن.
وإذا كانت هذه المسألة أهم مظهر من مظاهر الاعتزال في هذه الفترة، وكانت الشغل الشاغل للأذهان، والعمل الذي أقام الدولة وأقعدها؛ صح لنا أن نفردها بشيء من التفصيل.
(٤) مسألة خلق القرآن
ويستنتج من ذلك أن الجعد كان في دمشق، ولكنه بذر بذرته في العراق لما هرب إليه وقتل به.
وقال بذلك أيضًا جهم بن صفوان الترمذي الذي قتله سالم بن أحوز بمرو سنة ١٢٨؛ فقد كان ينفي الصفات، واستتبع ذلك نفي الكلام، والقول بخلق القرآن.
وقد رووا أن الرشيد قال يومًا: بلغني أن بشرًا يقول القرآن مخلوق؛ والله إن أظفرني الله به لأقتلنّه. فأقام بشر متواريًا أيام الرشيد.
وورثت المعتزلة هذا القول عن الجعد والجهم، فكانوا يقولون بذلك؛ وزادوا المسألة تفصيلًا، ووسعوا فيها الجدل. وقد رأينا «المردار» المعتزلي يتوسع في هذا القول، ويكفر من يقول بقدم القرآن.
ويختلف الباحثون في أن المسلمين تأثروا — في قولهم بخلق القرآن — باليهودية كما يروي ابن الأثير؛ أو بالنصرانية، تقليدًا لقولهم في عيسى: إنه كلمة الله، وكلمة الله لا يصح أن تكون مخلوقة، فقلد المسلمون ذلك بقولهم مثل هذا القول في كلام الله.
ولعله مما يؤيد القول الأخير قول المأمون في كتابه الآتي: «فضاهوا به قول النصارى في ادعائهم في عيسى بن مريم أنه ليس بمخلوق، إذ كان كلمة الله».
فيظهر من ذلك أن مسألة خلق القرآن خلقت في آخر الدولة الأموية، وظلَّت تنمو ويدور حولها الجدل، وتتسع فيها المناظرة، وتؤلَّف فيها الكتب إلى عهد المأمون. ولكن أحدًا من قبل لم يفكر في أن تتخذ هذه المسألة الدين الرسمي للدولة حتى جاء المأمون.
كان المأمون مثقفًا ثقافة واسعة عميقة، وشغف من أجل ذلك بالبحث العلمي والأدبي، واتخذ له رجالًا يجتمعون في قصره، فيتجادلون ويتناظرون في شتى المسائل: مرة أدبًا، ومرة فقهًا، وحينًا تاريخًا، وحينًا كلامًا. وكان عقله عقلًا فلسفيًا، حرًا في تفكيره مع التقييد بأصول الدين. وكان ما يدور في مجالسه من الجدل والمناظرة يتناقل على ألسنة الناس فيتجادلون فيه هم كذلك؛ ويكون جدالهم صدى لجدال القصر.
وإذ كان المأمون على ما ذكرنا من حرية التفكير، كان الاعتزال أقرب المذاهب إلى نفسه، لأنه أكثر حرية وأكثر اعتمادًا على العقل؛ فقرب المعتزلة منه، وأصبحوا ذوي نفوذ في القصر، وكان من أظهرهم ثمامة بن الأشرس وأحمد بن أبي دؤاد.
ولكن مع ميل المأمون إلى الاعتزال كان بجانب ذلك مسألة أخرى، وهي هل يظل الاعتزال مذهبًا كغيره من المذاهب كالإرجاء ونحوه، كل إنسان حر أن يعتنق منها ما يراه صوابًا، ولا دخل للدولة في ذلك، لأن المسألة ليست مسألة كفر وإيمان، إنما هي آراء داخل حدود الإسلام، فلا سبيل إلى الإقناع فيها إلا الحجة والبرهان، أو أن الدولة تتخذ شعارها الاعتزال وتحمل الناس عليه، ويكون المذهب مذهبها الرسمي، كما أن الإسلام دينها الرسمي؟
يظهر أنه كان هناك تياران في هذا، فقد كان هناك فرقة ترى أن الدولة لا شأن لها بذلك، والناس أحرار في اعتقاد ما يرون، والخليفة لا ينبغي أن يدخل في نصرة مذهب على مذهب، وعلى رأس هذا الرأي يحيى بن أكثم قاضي المأمون، ويزيد بن هارون الواسطي؛ فيحيى بن أكثم يقول للمأمون عندما هم بلعن معاوية: «والرأي أن تدع الناس على ما هم عليه، ولا تظهر لهم أنك تميل إلى فرقة من الفرق، فإن ذلك أصلح في السياسة، وأحرى في التدبير»، وقد تقدم قوله هذا؛ ويزيد بن هارون يحكي عنه يحيى بن أكثم أن المأمون قال: «لولا مكان يزيد بن هارون لأظهرت القول بخلق القرآن. فقال له بعض جلسائه: ومن يزيد بن هارون حتى يتقيه أمير المؤمنين؟ فقال: إني أخاف إن أظهرته يرد عليَّ فيختلف الناس وتكون فتنة، وأنا أكره الفتنة».
وهناك حزب آخر يحسّن للخليفة رأي حمل الناس على ما ثبتت عندهم صحته، وكان من أظهر هؤلاء ثمامة وابن أبي دؤاد.
وشاء القدر أن يضعف الحزب الأول؟ فقد مات يزيد بن هارون سنة ٢٠٦، وعزل يحيى بن أكثم عن منصب قاضي القضاة سنة ٢١٧، وتولى مكانه ابن أبي دؤاد، فرجحت كفة المؤيدين، وحمل المأمون الناس على القول بخلق القران سنة ٢١٨.
فهو — من قديم — يميل إلى حمل الناس على ما يعتقد أنه الحق في مسائل الدين، وَنصره في ذلك وشجعه المعتزلة، لأنهم بالغوا في أصولهم بالقول بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما رأيت قبل؛ وكان كثير منهم يرون أن المؤمنين هم من اعتنقوا أصول الاعتزال، وغيرهم ليس بمؤمن، فحمل الناس على مذهبهم يساوي أو يقرب من دعوة الكفار إلى الإسلام، فإذا نجحوا في حمل الخليفة على أن نسخر الدولة في تعميم رأي المعتزلة، فقد خدموا الإسلام ونشروا العقيدة الصحيحة. وقديمًا حارب واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد الزنادقة والمستهترين، وحملا بشارًا على الهرب لفسقه. وقد كانت مسألة خلق القرآن هي المسألة التي تركَّز فيها الاعتزال في زمن المأمون لكثرة القول والجدل فيها، ولأنها تبتني على أكبر أصل من أصولهم، وهو التوحيد وعدم تعدد صفات الله، فساعدوا المأمون في ميله، وكان حامل لوائهم هو أحمد بن أبي دؤاد، وظلت هذه المسألة مسألة الدولة والناس من سنة ٢١٨ إلى سنة ٢٣٤.
وسميت في التاريخ بالمِحنة، وهي في الأصل الخْبرة: محنتُه وامتحنته: خبرته واختبرته، وامتحنت الذهب والفضة إذا أذبتهما لتخبرهما، والاسم المحنة، واستعمل فيما لقيه الأنبياء من العذاب فصبروا على دعوتهم، كما استعمل فيما لقيه الشيعة من العذاب وصبرهم على بلائهم؛ ثم اشتهر استعماله في اختبار العلماء بالقول بخلق القرآن وما لقوه في ذلك من عذاب.
وقد ذكروا أن المأمون نضجت عنده هذه الفكرة واعتنقها من قديم، فإن صحت الرواية عن المأمون أنه كان يتقي بزيد بن هارون في إذاعة هذا القول، وكان يزيد قد مات سنة ٢٠٦، دلَّنا ذلك على أن المأمون كان يفكر في حمل الناس على القول بخلق القرآن قبل هذه السنة؛ ويروي الطبري أنه في سنة ٢١٢ أظهر المأمون القول بخلق القرآن، وذلك في شهر ربيع الأول — ثم في سنة ٢١٨ امتحن الناس بذلك. فجمعا بين هذه الأقوال يمكن أن نقول إن المأمون كان يتكلم في خلق القرآن في مجالسه الخاصة إلى سنة ٢١٢، ثم أعلن رأيه للناس في تلك السنة من غير أن يضطرهم إلى القول به، وظل على هذا الحال ست سنين، ثم كانت الخطوة الأخيرة سنة ٢١٨ تحمل الناس على ذلك.
بدأ المأمون في سنة ٢١٨ بإرسال كتاب إلى واليِ بغداد إسحق بن إبراهيم بن مصعب، وهو كتاب مطول حفظ لنا نصه، رواه الطبري في تاريخه وطيفور في تاريخ بغداد.
بدأه بالسبب الذي ألجأه إلى حمل الناس على ذلك، وهو أن خليفة المسلمين واجب عليه حفظ الدين وإقامته، والعمل بالحق في الرعية، «وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة — ممن لا نظر له ولا روية ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته، ولا استضاء بنور العلم وبرهانه، في جميع الأقطار والآفاق — أهل جهالة بالله وعمى عنه، وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به، وُنكوبٍ عن واضحات أعلامه، وواجب سبيله، وقصورٍ أن يقدروا الله حق قدره، ويعرفوه كنه معرفته، ويفرقوا بينه وبين خلقه، لضعف آرائهم، ونقص عقولهم، وجفائهم عن التفكر والتذكر، وذلك أنهم ساووا بين الله تبارك وتعالى وما أنزل من القرآن، فأطبقوا مجتمعين … على أنه (أي القرآن) قديم أزليّ لم يخلقه الله ويحدثه ويخترعه. وقد قال الله عز وجل في محكم كتابه الذي جعله لما في الصدور شفاء، وللمؤمنين رحمة: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، فكل ما جعله الله فقد خلقه. وقال: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ وقال عز وجل: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ فأخبر أنه قصص لأمور أحدثها بعده وتلا به متقدمها، فقال تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، وكل محكم مفصلِّ فله محِكم مفصِّل، والله محكم كتابه ومفصِّله فهو خالقه ومبتدعه، ثم هم الذي جادلوا بالباطل فدعوا إلى قولهم، ونسبوا أنفسهم إلى السنة، وفي كل فصل من كتاب الله قصص من تلاوته مبطلُ قولهم. ومكذب دعواهم، يرد عليهم قولهم ونحلتهم. ثم أظهروا مع ذلك أنهم أهل الحق والدين والجماعة، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر والفرقة؛ فاستطالوا بذلك على الناس، وغروا به الجهال، حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب، والتخشع لغير الله، والتقشف لغير الدين، إلى موافقتهم عليه، ومواطأتهم على سيئ آرائهم، تزينًا بذلك عندهم، وتصنعًا للرياسة والعدالة فيهم، فتركوا الحق إلى باطلهم، واتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالتهم».
ثم ذكر أن هؤلاء قد زكَّوا أمثالهم، وُقبلت شهادتهم، وُنفِّذت الأحكام بهم، مع دغل دينهم، وفساد عقيدتهم.
«وأولئك شر الأمة، ورءوس الضلالة المنقوصون من التوحيد … وأحق من يتهم في صدقه، وُتطرح شهادته، ولا يوثق بقوله ولا عمله، فإنه لا عمل إلا بعد يقين، ولا يقين إلا بعد استكمال حقيقة الإسلام وإخلاص التوحيد».
ثم قال: فاجمع من بحضرتك من القضاة، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، فأبدأ بامتحانهم فيما يقولون، وتكشيفهم عما يعتقدون في خلق الله القرآن وإحداثه، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله، ولا واثق فيما قلده الله واستحفظه من أمور رعيته بمن لا يوثق بدينه، وخلوص توحيده ويقينه: فإذا أقروا بذلك … فمرهم بنظر من بحضرتهم من الشهود على الناس ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك إثبات شهادة من لم يقرّ أنه مخلوق محدث … واكتب إلى أمير لمؤمنين بما يكون في ذلك إن شاء الله. كتب في «شهر ربيع الأول سنة ٢١٨».
نستخلص من هذا الكتاب:
-
(١)
أن المأمون كان يرى أن واجبًا عليه تصحيح عقائد الناس الفاسدة ولا سيما إذا تغلغل الفساد إلى أصل من أصول الدين، كالإشراك مع الله في القدم شيئًا آخر مثل القرآن.
-
(٢)
وأن كثيرًا من عامة الناس كانوا يتكلمون في خلق القرآن ويرون أنه قديم، ولهم علماء ومتورعون يدعون إلى ذلك؛ وقد رد عليهم المأمون في كتابه بالحجج من القرآن.
-
(٣)
وأن بعض القضاة كان على هذا الرأي من القول بقدم القرآن، وكان يقبل شهادة من يقول بقدمه، وقد يرد شهادة من يقول بحدوثه.
-
(٤)
وأن المأمون يرى أن القاضي أو الشاهد لا يوثق بقضائه ولا بشهادته إذا كانت عقيدته غير صحيحة؛ فمن اعتقد قِدم القرآن قد ضعف توحيده، وساءت عقيدته، وصار لا يؤتمن على شهادة ولا حكم، وكان مظَّنة أن يكذب في شهادته، وأن يظلم في حكمه.
-
(٥)
فهو لذلك لا يريد أن يولّي الأحكام ويزكي الشاهد إلا إذا صح إيمانه، وصح توحيده.
لهذا كانت خطوة المأمون الأولى مقصورة على هذا؛ فلا تعذيب، ولكن لا يتولى أحكامه إلا من وثق به، وهو لا يثق إلا بمن قال: إن القرآن مخلوق، لأنه في نظره برهان صحة عقله وصحة إيمانه؛ فمن لم يكن كذلك يعزل إن كان قاضيًا، ولا تقبل شهادته إن تقدم للشهادة. ولا شيء من التهديد في هذا الكتاب وراء ذلك.
والكتاب ظاهر عليه روح الاعتزال، وتعبيرات المعتزلة، وحججهم في التوحيد، كما يظهر فيه طابعهم، فقد كان لها طابع خاص غريب يجمع بين التعصب الحاد وحرية الفكر المفرطة؛ فهم متعصبون أشد التعصب فيما يتصل بتوحيد الله وعدله، لا يقبلون في ذلك هوادة؛ ثم هم أحرار فيما عدا ذلك من الآراء واستعمال العقل والقول بسلطانه. فالمأمون الحر التفكير، الواسع العقل، إذا وصل إلى التوحيد واعتقد أن القول بقدم القرآن يمس هذا التوحيد، خرج عن حريته كالمعتزلة وأبى أن يتولى أحد من القضاة عملًا له إلا وحَّد توحيده.
وإذا علمنا أن المأمون توفي في ١٨ رجب سنة ٢١٨، علمنا أن هذا الكتاب صدر قبل موته بنحو أربعة أشهر، وأرسلت منه صور للأقطار الإسلامية لمصر والشام والكوفة وغيرها، وأمرِ الولاة أن يفعلوا بقضاتهم كما فعل والي بغداد بقضاتها.
وهذه الحادثة — من غير شك — قوَّت جانب الحكومة، وفتت في عضد المحدّثين والعامة وأحزنتهم، وهيأتهم لأن يرتقبوا البطل الذي يردّ على هذا الحادث.
وفي هذه الخطوة الثانية لم يكتف المأمون بأن يحرم من ليس على مذهبه من مناصب الدولة؛ بل أراد أن يحمل الفقهاء والمحدّثين على الإقرار بخلق القرآن ولو لم يرد أن يتولى عملا، أو يؤدي شهادة، فكأنه اعتقد أنه — وهو خليفة المسلمين وراعيهم — مسئول عن رعيته؛ ومن هذا أنه مسئول عن توحيدهم، والقول بقدم القرآن شبه إشراك، فيجب أن يُردّ الناس عن ذلك كما يرد الكافر عن كفره. والخطوة الثالثة أن يقتله كما يقتل المرتد؛ وإذ كان العلماء هم قادة الناس في هذه العقائد، فيجب أن يبدأ بهم وبتصحيح عقيدتهم وبعقابهم إن أصرّوا، بل بقتلهم أحيانًا.
وليس في هذا الكتاب الثالث جديد إلا التوسع في الحجة والبرهان، والأمر بالتوسع في امتحان الناس، وتقرير أن من لا يقول بخلق القرآن لا يصلح لتولي عمل ما؛ ولذلك رأينا إسحاق بن إبراهيم بعد هذا الكتاب يجمع كثيرًا من الفقهاء والحكام والمحدّثين ويمتحنهم، فالفقهاء يتولون الفتيا، والحكام يتولون الحكم، والمحدّثون يتولون التعليم، وكلها أمور لا يريد المأمون أن يتولاها إلا من قال بخلق القرآن.
أحضر إسحاق بن إبراهيم مشاهير العلماء ورءوس الناس وامتحنهم. ولنقص عليك نماذج من الأسئلة والأجوبة كما وردت في كتب التاريخ:
امتحان آخر
امتحان ثالث
امتحان رابع
امتحان خامس
وهكذا كانت إجابات القوم.
حرر إسحق بن إبراهيم محضرًا بجميع أقوال الممتحنين وأرسلها إلى المأمون فثارت ثائرته، وجن جنونه؛ وفي تاسع يوم من إجاباتهم جاء كتاب المأمون وهو الكتاب الرابع في هذا الموضوع، وكله عنف وتقريع؛ فقد رأى المأمون أن أجوبتهم لا تدل على عقل، لا تنكر في صراحة، ولا تقر في صراحة؛ وبعضهم يسلم بالمقدمات وينكر النتيجة، فيقول القرآن مجعول، والمجعول مخلوق، ولا يرضى أن يقول القرآن مخلوق؛ كمن يقول إن هذه الكمية ٣ وهذه ٤ ولا يريدون أن يقول إن المجموع سبعة. واعتقد أن عقلية هؤلاء عقلية عوام، يريدون أن يتظاهروا بالبطولة أمامهم، وهم على خلاف ذلك أمام أنفسهم، ولو كانوا ذكروا له حججًا على نظريتهم أو امتناعهم لجادلهم فيها، ولكنهم كانوا كما رأيت لا يريدون أن يقروا، ولا يريدون أن ينكروا. ولعل هذا ما أغضب المأمون في كتابه الرابع أشد الغضب، فأمره أن يستدعي بشر بن الوليد، فإن أصر على شركه، ولم يقل إن القرآن مخلوق فاضرب عنقه وابعث برأسه إلَّي، وإن تاب فأشهر أمره بالتوبة وأمسك عنه، وكذلك أمره في إبراهيم بن المهدي؛ وأما غير هذين فلم يأمر بضرب عنقهم، ولكنه عرَّض بهم، وذكر أفعالهم ومخازيهم ليبين أن امتناعهم ليس عن دين، ولكن عن تصنع؛ «فالذيال بن الهيثم» يقول المأمون إنه كان يسرق الطعام في الأنبار. و«أبو العوام» صبي في عقله لا في سنه، ويقول: إنه سيحسن الجواب في القرآن إذا أخذه التأديب، ثم إن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك. و«أحمد بن حنبل» إجابته تدل على جهله، و«الفضل بن غانم» اغتنى في مصر من منصبه في أقل من سنة، ومحمد ابن حاتم وابن نوح وأبو معمر فإنهم مشاغيل بأكل الربا عن الوقوف على حقيقة التوحيد. وهكذا استمر يعدد لكل رجل امتحنه عيوبه؛ ثم أمر المأمون إسحاق في كتابه هذا أن يعيد الكرَّة عليهم، فمن أبى غير بشر بن الوليد وإبراهيم بن المهدي «فاحملهم أجمعين موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين مع من يقوم بحفظهم وحراستهم في طريقهم حتى يؤديها إلى عسكر أمير المؤمنين ويسلمهم إلى من يؤمن بتسليمهم إليه لينصحهم أمير المؤمنين، فإن لم يرجعوا ويتوبوا حملهم جميعًا على السيف إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله».
وقد أسرع المأمون بإرسال هذا الكتاب غير منتظر اجتماع البريد، فجمعهم إسحاق ثانية، وكانوا نحوًا من ثلاثين قاضيا ومحدثًا وفقيهًا، فأعاد امتحانهم وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين، فأقروا جميعًا بأن القرآن مخلوق إلا أربعة: أحمد بن حنبل، وسجادة، والقواريري، ومحمد بن نوح؛ فأمر بهم إسحاق بن إبراهيم فشدوا في الحديد، فلما أصبحوا أعاد امتحانهم ثالثة، فاعترف سجادة بخلق القرآن فأطلقه، وبعد يوم آخر أجاب القواريري بأن القرآن مخلوق فأخلى سبيله، ولم يبق بعد من هؤلاء إلا أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فشُدَّوا في الحديد، ووُجِّها إلى طرسوس للمأمون؛ وكتب إسحاق كتابًا إلى المأمون يخبره بإشخاصهما، وكتب كتابًا آخر يذكر فيه أن القوم الذين أجابوا لم يجيبوا عن عقيدة، وإنما أجابوا عن تأويل، وقد تأوّلوا أنهم مكرهون، وليس على المكره حرج.
فبعث المأمون كتابًا خامسًا يعلن أن هؤلاء أخطأوا التأويل، وليست الآية: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ منطبقة عليهم، «إنما عني الله بهذه الآية من كان معتقد الإيمان مظهر الشرك، فأما من كان معتقد الشرك مظهر الإيمان فليست الآية له». ثم أمر بإشخاص — من أبى — إليه في طرسوس، فأرسل واحدًا وعشرين كانوا امتنعوا عن الإقرار بخلق القرآن؛ فلما كانوا في الرقّة بلغتهم وفاة المأمون، فأعادهم والي الرقة إلى والي بغداد فخلى هذا سبيل أكثرهم.
فأما محمد بن نوح فقد مات وهو عائد إلى بغداد بعد موت المأمون، ففك عند قيده وصلى عليه ابن حنبل. وتركزت رياسة المعارضة في أحمد بن حنبل، فكان زعيمها وعَلمها ومتجه الأنظار فيها، ولذلك لم يخل سبيله كما خلي غيره؛ وبذلك انتهى المأمون وانتهى دوره في المحنة.
وقد كتب المأمون وصيته للمعتصم، وجاء فيها مما يتصل بموضوعنا: «وخذ بسيرة أخيك في القرآن»، كما أوصاه بابن أبي دؤاد وحرصه عليه وإشراكه في المشورة في أموره كلها.
كان المأمون عالمًا فكانت كتبه في خلق القرآن تصدر عن علمه، ولكن المعتصم كان رجلًا جنديًا كره العلم منذ صغره، فكان كما قال الصولي: «يكتب ويقرأ قراءة ضعيفة»، وكانت ثقافته من جنس ثقافة الذين يجربون الحياة ويسمعون أحاديث الناس والعلماء، ولم نعد نرى مجالس المناظرة في قصره كالتي كانت في عهد المأمون. فقد نفذ الامتحان بخلق القرآن في عهده لأنه وكِّل بذلك من المأمون في العهد الذي صار به خليفة، فكان يرى أنه ملزم بذلك؛ لهذا استمر على طريقة المأمون ولكن لم يصدر منشورات جديدة فيها معان وحجج جديدة — فكتب إلى الأمصار بالاستمرار في امتحان الناس بخلق القرآن، «وأمر أن يعلموا الصبيان ذلك، وقاسى الناس منه مشقة في ذلك، وقتل عليه خلقًا من العلماء، وضرب الإمام أحمد بن حنبل، وكان ضربه في سنة عشرين و(مائتين)».
ثم دعاه المعتصم فأدخل والمعتصم جالس، وابن أبي دؤاد وأصحابه في حضرته والدار غاصة بأهلها، وبالقضاة والفقهاء من أتباع الدولة، فأمرهم أن يناظروه؛ وهذه خلاصة المناظرة:
وهكذا ينفض المجلس، ويعاد إلى الحبس ويوكَّل به من يناظره، ويعاد إلى مجلس آخر على هذا النمط، واستمرت هذه المناظرات ثلاثة أيام.
ولم يقتله المعتصم كما قتل غيره (مع أنهم يروون أنه حتى في اليوم الذي دعا المعتصم ابن حنبل لامتحانه كان قد قتل قبله رجلين)، وهذا يرجع لأسباب: منها أن جمهور الناس التفوا حول ابن حنبل أكثر من التفافهم حول أي شخص آخر، فإذا قتله المعتصم كانت فتنة. قال ميمون بن إصبع: «أخرج أحمد بعد أن اجتمع الناس وضجوا حتى خاف السلطان» ويروون أيضًا أنه قال: «لو لم أفعل ذلك لوقع شر لا أقدر على دفعه»، ومنها: أن المعتصم أعجب بشجاعته وثباته على ما يعتقد أنه الحق، فلم يخف ولم يهن؛ وكان المعتصم شجاعًا يحب الشجعان؛ هذا إلى أنه قرأ في وجهه أنه ليس بمنافق يريد التظاهر بالورع، بل قرأ فيه أنه يتكلم عن عقيدة، ويصرح بأن الله قديم وليس كمثله شيء، ولكن لا يقول بخلق القرآن لأن الله لم يقله، ورسوله لم يدع إليه.
ومات المعتصم سنة ٢٢٧، أي بعد محنة أحمد بن حنبل بسبع سنوات، فلم يتعرض له؛ وخلفه الواثق، وكان مثقفًا ثقافة واسعة أيضًا، وكانت أمه رومية اسمها «قراطيس». قال الصولي: «كان الواثق يسمى المأمون الأصغر لأدبه وفضله»، بل فضله بعضهم على المأمون من ناحية أنه كان أكثر رواية للشعر العربي من المأمون؛ فتعصب للقول بخلق القرآن عن علم وعقيدة.
وأظهر ما حدث في أيامه حادثة أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي، كان جده مالك بن الهيثم أحد نقباء بني العباس في أول الدولة العباسية، ولذلك يقولون إنه كان من أولاد الأمراء، وكان يرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أعني أنه كان يرى تنفيذ ذلك بيده، والخروج على الحكومة إن جارت، والثورة عليها فيما انحرفت فيه عن الصواب، وتبعه على ذلك أتباع كان يستعملهم في خطته؛ ولم يعجبه المأمون في سيرته، فثار هو وأتباعه ببغداد أيام كان المأمون بخراسان، فلم قدم المأمون بغداد استتر أحمد بن نصر؛ فلما ولي الواثق استمر في خطته، وعزم هو وأتباعه على الثورة، فوصل الخبر إلى والي بغداد إسحاق ابن إبراهيم، فقبض عليه وعليهم، وقدم إليه أحمد، فقال الواثق: دع ما أُخِذت له، ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله، ليس بمخلوق، فحمله على أن يقول إنه مخلوق فأبى؛ وسأله عن رؤية الله يوم القيامة (والمعتزلة كما رأيت ينكرونها) فقال بها، وروى له الحديث في ذلك، فقال الواثق: ويحك هل يُرى كما يرى المحدود المتجسم، ويحويه مكانه ويحصره الناظر، إنما كفرت برب هذه صفته.
ثم مات الواثق سنة ٢٣٢ وبويع للمتوكل فلم يتحمس، للقول بخلق القرآن، ففترت حركة الامتحان حتى سنة ٢٣٤ «فنهي فيها عن القول بخلق القرآن، وكتب بذلك إلى الآفاق، وتوفر دعاء الخلق له، وبالغوا في الثناء عليه والتعظيم له، حتى قال قائلهم، الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصديق يوم الردة، وعمر بن عبد العزيز في رده المظالم، والمتوكل في إحياء السنة»، مع ما كان عليه من الظلم والتعسف. وكما شغل الناس في العراق — مستقر الدولة — بالجدل في خلق القرآن شغل الناس في كل قطر من الأقطار الإسلامية، فكان الجدل بين العلماء وامتحان الأمراء للعلماء والقضاة والحكام في مصر والشام وفارس وغيرها من البلدان.
وكان من أشد الناس تحمسًا للقول بخلق القرآن، وتعذيب من أنكر من المصريين، محمد بن أبي الليث قاضي مصر في بعض أيام المعتصم وفي أيام الواثق، وكان يناصر المعتزلة، وكان حنفي المذهب، وكان يكره المالكية والشافعية، فاضطدهم واستغل المحنة بخلق القرآن لتعذيبهم والإيقاع بهم، وبجانبه شاعر مصر إذ ذاك الحسين بن عبد السلام الجمل يشيد بذكره ويتشفى ممن نكل به.
ويذكر في قصيدة من قصائده أنه نكل بالشافعية والمالكية، وما زال يعذبهم حتى اعترفوا بخلق القرآن، وصار الأمر كما قال:
فبعض الناس لزم بيته فلم يظهر، وبعضهم هرب إلى اليمن، وكان ممن هرب ذو النون المصري الصوفي، ثم عاد فقبض عليه وامتحن فأقر.
واستمر الحال على ذلك في أيام الواثق، ثم ورد كتاب المتوكل مصر برفع المحنة والسكوت عن هذه المقالة جملة.
وكان ممن نُكِّل به بمصر في أيام الواثق يوسف بن يحيي البُويْطي صاحب الإمام الشافعي ووارث علمه — وشى به حَرْمَلة والمزني وابن الشافعي، ولعلهم نفسوا عليه علمه. وقيل وشى به ابن أبي الليث الحنفي قاضي مصر، فكتب ابن أبي دؤاد إلى والي مصر أن يمتحنه، فأبى أن يقول بخلق القرآن، وقال: «إنما خلق الله الخلق بكن، فإذا كانت مخلوقة، فكأن مخلوقًا خلق بمخلوق، ولئن أُدخلت عليه (على الواثق) لأصدقته، ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم. وقد حُمل من مصر إلى بغداد ومات في سجنها سنة ٢٣١.
ولم يقتصر الأمر على محاكمة الولاة للناس؛ بل كانت مجالس الخاصة والعامة تلوك هذه المسألة. فإذا جلس عالم مجلسًا سأله سائل: هل القرآن مخلوق؟ وإذا خلا الناس بعضهم إلى بعض تحدثوا في أخبار خلق القرآن؛ ومن حقد على آخر وأراد أن يدسّ عليه اتهمه بأنه يقول القرآن غير مخلوق.
وسبب شغبهم عليه أنه أراد أن يفرق بين القرآن وهو كلام الله، والقرآن الذي هو نطقنا به، وكتابتنا له، وأراد أن يقول إن الأول قديم والثاني محدث، فشغبوا عليه لأنه يقول إن الثاني محدث، إذ يريدون أن يقال إنه قديم حتى ألفاظنا به.
والأمثلة من هذا القبيل كثيرة، وأسئلة وإجابات، وفتن ودسائس، بل وأدخلوا المسألة في المزاح والأدب أيضًا.
رووا أن رجلًا من الظرفاء سمع آخر يقرأ قراءة قبيحة، فقال: «أظن هذا هو القرآن الذي يزعم ابن أبي دؤاد أنه مخلوق».
ودخل عبادة المخنث على الواثق وقال له: يا أمير المؤمنين، أعظم الله أجرك في القرآن. قال: ويلك، القرآن يموت؟ قال: يا أمير المؤمنين كل مخلوق يموت، بالله يا أمير المؤمنين من يصلي بالناس التراويح إذا مات القرآن؟ فضحك الخليفة وقال: قاتلك الله! أمسِكْ.
وقال أبو العالية:
وكان بعض القصاص بأصبهان يتشدد في القول يخلق القرآن، فسئل معاوية: هل كان مخلوقًا؟ فقال: نعوذ بالله من نهايات الجهالات … إلخ.
•••
وبعد، فما هذه المسألة وكيف وصلت إلى ما وصلت إليه؟ وكيف بلى بها المسلمون هذا البلاء؟ وما الداعي إليها؟ وما وجهة نظر كل فريق؟ وما نتائجها؟ هذه أسئلة تجول في ذهن الباحث لأن المسألة غريبة في بابها، وكانت أشبه بمحكمة التفتيش تمتحن فيها العقائد ويعذب عليها الناس.
ثم في كل مسائل التاريخ توجِّه الظروف الحوادث جهات قد لا تخطر على البال؛ فقد أصدر المأمون «ديكريتو» بتحليل المتعة وبتفضيل عليّ، ولكن لم تتطور الحوادث فيهما كتطورها في هذه المسألة، لأن المأمون اكتفى فيهما بالقرار ولم يصدر أمرًا بالامتحان؛ أما في خلق القرآن فأصدر أمرًا بالامتحان، وكانت وجهة نظره في ذلك أن القضاة والشهود يجب أن يكونوا مؤمنين ولا يوثق بأحكام القضاة ولا شهادة الشهود إذا فسدت عقيدتهم؛ كما صرّح هو بذلك في كتابه الأول، ومن اعتقد بقدم القرآن فقد أشرك، ومتى أشرك لم يصح منه حكم ولا شهادة؛ ولكنه نظر فرأى قومًا لما امتحنوا أنكروا القول بخلق القرآن وقومًا لم يريدوا أن يصرّحوا؛ وغاظه جدًا أن يرى قومًا من هؤلاء وهؤلاء يعرف منهم سوء النية وضعف الدين، فمنهم المرتشي والمرابي، وأنهم قد حملهم على مخالفته حب الحظوة عند العامة، فتألم من هذا. وكان المأمون مع حلمه له لحظات حدَّة، وانفعالات غضب، فثار ثائره واشتد في طريقه، وغلا في عمله، ومن حوله من المعتزلة يدفعونه أيضًا إلى ذلك لأنه وفق عقيدتهم، ولأنه وفق هواه.
ومن الناحية الأخرى، فالناس من طبيعتهم حب المعارضة والعطف عليها، سواء في ذلك المعارضة السياسية والمعارضة الدينية، وهم أشد تحمسًا للمعارضة الدينية، فوقف المأمون ورجاله في صف، ووقف هؤلاء العلماء المعارضون والعامة من ورائهم، وتكوّن بذلك معسكران، وكلما أفرطت الحكومة في التعسف أفرط العامة في التصفيق للمعارض. وظلت كل خطوة تدفع إلى ما وراءها. وكلما علت نغمة حزب أعلى الآخر نغمته حتى تفوقه. وفي عهد المعتصم صار زعيم الحكومة الخليفة؛ وحوله العلماء المعتزلة ورجال الدولة؛ وزعيم المعارضة أحمد ابن حنبل وحوله قلوب الشعب.
وتورطت الحكومة وأصبح من الصعب رجوعها، لأنها من ناحية تعتقد أنها على حق، وأن خصومها ليسوا إلا مشاغبين، وأكثرهم يحب التصفيق أكثر من حبهم للحق. ومن ناحية أخرى فالرجوع عن ذلك يضيع هيبة الحكومة، ويمكن العامة وقادتهم الجهال في نظرهم من السيطرة على الحكومة، وفي هذا خطر كبير.
هذه هي وجهة نظر المعتزلة والحكومة. وأما وجهة نظر المعارضين، فيظهر لي أنهم لم يكونوا جميعًا على رأي واحد كما كانت المعتزلة، بل كانوا أصنافًا، أمثلهم قوم كانوا في باطن أنفسهم مع المعتزلة في أن القرآن مخلوق، ولكنهم يرون أن الكلام في هذا لا يصح، ولا يصح أن يصل إلى العامة، لأنهم ليسوا أهلًا للنظر، وأنا إذا قلنا لهم القرآن مخلوق لم يبق في نفوسهم إلا شيء واحد هو عدم التقديس والإجلال، وهذا يدعو إلى ضعف العقيدة، فوجب أن يسد هذا الباب بتاتًا، حفظًا لدين العامة وهم السواد الأعظم في الأمة. ولذلك كان هؤلاء إذا سئلوا لم يجيبوا ولم يقولوا إنه مخلوق ولا إنه غير مخلوق، ولا يزيدون عن قولهم إنه كلام الله. وزادهم إيمانًا بذلك أنها مسألة لم تثر في عهد النبي ﷺ ولا صحابته، فما الداعي إلى إثارتها الآن؟ وقد كان إيمان النبي ﷺ والصحابة والتابعين موفورًا من غير هذه المسألة، والقول فيها بنفي أو إثبات.
ومن هذا القبيل ما روي أن الواثق أُتى بشيخ بحضرة ابن دؤاد، فسئل: ما تقول في القرآن؟ قال الشيخ: لابن أبي دؤاد لم تنصفني ولي السؤال. قيل: سل. قال: هل هذا شيء علمه رسول الله ﷺ؛ وأبو بكر وعمر والخلفاء؟ أم شيء لم يعلموه فقال ابن أبي دؤاد: لم يعلموه. فقال الشيخ: سبحان الله! شيء لم يعلموه، أعلمته أنت؟ وفي رواية أنه أعاد عليه السؤال، فقال ابن أبي دؤاد: علموه ولم يَدْعوا إليه. فقال الشيخ: هل وسعهم ذلك؟ قال: نعم: قال الشيخ: أفلا وسعك ما وسعهم؟!
هؤلاء هم أمثل المعارضين؛ وهناك قوم أداهم السخف إلى القول بقدم القرآن حتى المكتوب في المصاحف، والملفوظ به في ألسنتنا، وهو قول جر إليه ضيق النظر وضعف العقل، وقد نسب الذهبي إلى ابن حنبل القول بقدم الألفاظ، وما أظنه كذلك، كما نفاه السبكي عنه نفيًا باتًا.
فإن نحن تساءلنا: أي الحزبين على حق؟ قلنا: إن المعتزلة والمأمون وإن كان رأيهم العلمي حقًا وصحيحًا، فإن خصومهم على حق في ألا تثار هذه المسألة أمام العامة. وقد أخطأ المعتزلة والحكومة خطأين: (الأول) إرادتهم إشراك العامة في هذه المسائل، والعامة أبعد الناس عن ذلك، وكيف يفهمون علم الكلام وهو علم دقيق تاهت فيه عقول الخاصة؟ إنما هو للفلاسفة وأمثالهم، لا للعامة وأشباههم. هل يريد المعتزلة أن يفهم العامة صفات الله، وهل هي عين الذات أو غير الذات، وأن الرؤية تقتضي أن يكون المرئي محدودًا في مكان؟! إن فهموا هذا فهو خرق في الرأي، وقد قبل النبي ﷺ من الجارية أن تعتقد أن الله في السماء وأن تشير إليه، لأن عقلها لا يسمح لها بأكثر من ذلك، ولم يحاول أن يفهمها أنه ليس في مكان، فمحاولة المعتزلة تفهيم العامة ما هو أدق من ذلك تكليف بما لا يطاق.
والخطأ الثاني حملهم الحكومة أن تتدخل بسلطانها وسيوفها وسياطها وجنودها وولاتها في هذه المسألة، فكأنهم أرادوا أن يجعلوا مجالسهم للجدل والمناظرة مجمعًا كمجامع القساوسة يقررون فيه ما يشاؤون، ثم يرغمون الناس على القول بما يقررون، بل زادوا عليهم قسوة وتعذيبًا. وقد دلوا بعملهم هذا على جهلهم بنفسية الشعوب، وجهلهم بتاريخ انتشار العقائد؛ فالعقيدة لا ينشرها التعذيب، إنما ينشرها الإقناع، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة. وقد غلوا غلوًا شنيعًا في أنهم عدو السكوت عن القول بخلق القرآن إشراكًا؛ فالإسلام عماده «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، فمن قالها عصم دمه وحسابه بعدُ على الله.
وأشد ما يدعو إلى الغرابة أن يكون مصدر هذا التعذيب والمحنة هم المعتزلة الداعين إلى حرية الفكر والقائلين بسلطة العقل، فقد كان الظن بهؤلاء التسامح في العقيدة والبعد عن الضغط والتعذيب. ولكن المعتزلة كما قلنا كانوا عقليين، وكانوا متزمتين في عقليتهم، فهم يؤمنون بسلطان العقل، ولكنهم يرون أن من لا يحكّم عقله كما حكّموا أنعام أو كالأنعام. ويجب أن يحمل من لا يعقل على قول من يعقل؛ وفاتهم أن العقول متفاوتة وأنماطها مختلفة، وأن القول بسلطان العقل يقضي أن يعذر من ضاق عقله ويسمح له أن يسير في حياته حسب عقله الضيق ما لم يضر بمصلحة عامة.
لقد تجلى في هذه الحركة بأجلى بيان صراع العقل والعاطفة، كان العقل والمنطق في جانب المعتزلة، والعواطف في جانب الجمهور والمحدّثين. وكان عقل المعتزلة عقلًا حادًا جافًا فلسفيًا، وأضعف نقطة فيه أنه يراد أن يفرض على العامة فرضًا، يراد أن تكون الأمة فلاسفة تعرف الجوهر والعرض والكمية والكيفية، والمحدود واللا محدود، والوحدة والتعدد والمكان والجهة، وإلى الآن لم يخلق الله أمة كلها فلاسفة على هذا النمط، ولا أدري إن كان ذلك في مصلحة الإنسانية أو لا.
والمعارضون شعب يؤمن بقلبه لا عقله، ولا يستطيع أن يفهم ما يقوله المعتزلة في صفات الله، وزادهم فيه كراهية أن الحكومة تنصره، والجنود بسيوفها وسياطها تؤيده، وأصحاب المناصب الكبيرة في كل ولاية تَمْتَحِن فيه، والناس دائمًا يكرهون من أعماق قلوبهم هذه المظاهر، ويدعون الخارج عليها بطلًا، ويحلّون رجال الدين يوم يبتعدون عنها، ويحترمون من يزهد فيها. وكُتُب التراجم مملوءة بإطراء من رفض عطاء من وال وسلطان؛ فلما رأوا السلطة تؤيد القول بخلق القرآن جال الشك في نفوسهم، وأحسوا إحساسًا من طريق الإلهام أن هذا القول لا يتفق والدين؛ والعقلاء من علماء المحدّثين فطنوا إلى هذا ورأوا أن العامة إذا تفلسفوا ألحدوا، وإذا قلت لهم إن القرآن مخلوق فذلك يساوي أنه يصح الرد عليه، ويجوز الإتيان بمثله وتصح مخالفته، ويمكن للعقل أن يأتي في التشريع ونحوه بخير منه، إلى غير ذلك من المعاني الغامضة التي قد تجول — مع غموضها — في أنفسهم ولا يستطيعون التعبير عنها، فرأى هؤلاء العقلاء من المحدّثين أن الكلام في نفس الموضوع لا يصح لا بالنفي ولا بالإثبات، وعبروا عن ذلك بأن الكلام فيه بدعة، حتى امتنعوا أن يقولوا ما هو ظاهر بالبداهة لا ينكره عاقل، وهو أن ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، والحروف والورق في المصاحف مخلوقة، فهذا يكاد يكون محسوسًا، فألفاظنا تفنى بمجرد النطق بها، والمصحف عرضة للحريق والفناء بالزمان؛ ولكنهم مع إيمانهم بهذا لا يريدون أن يقولوا به المبدأ الذي ذكرنا. فتلاقى عقل العقلاء من المحدّثين مع عواطف العامة، وكونوا جبهة واحدة، وزادهم قوة معنوية أن الجنود والسلاح ليست معهم، وأن العذاب يوقَّع عليهم، وأن فضيلة التضحية إنما تظهر من جانبهم، وكلما عذب أحد من رجالاتهم زادهم برأيهم إيمانا — وهذا ما صرح به كبراؤهم كأحمد بن حنبل وأحمد بن نصر والبُوَيْطي، فقد قالوا جميعًا أقوالًا متشابهة تدل على أن إيمان العامة أصبح في عنقهم، وأن إقرارهم بخلق القرآن هزيمة للشعب، وهزيمة لإيمان الشعب، وشعور بخذلان الدين، فليضحوا بدمائهم وأنفسهم نصرة للدين وإعلاء لكلمة الله.
ومن الحق أن نقول إن في كل من المعسكرين من كانوا مخلصون لعقيدتهم، فأنا أعتقد أن مثل المأمون والواثق وأحمد بن أبي دؤاد كانوا مخلصين في آرائهم: رأوا أن ما يقولونه هو الحق، وأنا معهم أنه هو الحق، وإن لم أكن معهم في أن كل حق يقال لكل إنسان، وإن لم أكن معهم أيضًا في إلزام الناس أن يقولوا ما أرى أنا أنه الحق، ولكن الكثير في هذا المعسكر أتباع كل سلطان، إن قالت السلطة هو أحمر فهو أحمر، أو أسود فهو أسود. ويعبر عن ذلك تمام التعبير ما روي من أن جنديًا قال لأحمد بن حنبل لما امتُحن أمام المعتصم: «ويحك! إمامُك على رأسك قائم، والناس حولك، وتريد أن تغلب هؤلاء جميعًا؟»، وكثير من هؤلاء رأوا أنهم لا يستطيعون أن يبقوا في مناصبهم إلا إذا جاروا السلطة في رأيها فقالوا بذلك؛ كما أن في المعسكر الآخر مخلصين كابن حنبل وأشباهه، ومنهم من أعجبه تصفيق العامة، خصوصًا إذا لم يصل الأمر إلى السيف، ففضلوا أن يكونوا أبطال العامة على أن يكونوا جنودًا مجهولين في معسكر السلطان، لا سيما وكره العامة يكون أحيانًا أنكى وأوجع من سياط الحكومة، ومكافأة الجمهور قد تكون أروع من مكافأة الحكومة؛ لقد كوفئ أحمد بن حنبل من جمهور المسلمين مكافأة أين منها مكافأة المأمون والمعتصم والواثق لابن أبي دؤاد؟ لقد مات أحمد فقال فيه القائل:
ويقول عبد الوهاب الوراق في جنازة ابن حنبل: «ما بلغنا أن جمعًا كان في الجاهلية والإسلام مثله، حتى إن المواضع التي وقف فيها الناس مسحت وحُزرتْ، فإذا هي نحو من ألف ألف، ولحزرنا على السور نحوًا من ستين ألف امرأة»، وكان الناس في الشوارع والمساجد حتى تعطلَ بعض الباعة، وحيل بينهم وبين البيع والشراء، وقيل في عدد المصلين عليه إنهم كانوا نحو ألف ألف وثلاثمائة ألف سوى من كان في السفن إلخ.
أضف إلى ذلك حرمة العلماء والمحدّثين له، حتى إن من وثّقه ابن حنبل وثِّق، ومن ضعَّفه ضعف، وكان أحد الأسباب التي يَبني عليها توثيقه وتضعيفه القول بخلق القرآن وعدمه.
وكان بجانب هؤلاء العقلاء من المعارضين طائفة أخرى سخيفة ضيقة العقل، لا تمتنع عن الكلام في القرآن، ولكنها تقول بقدمه حتى المكتوب والملفوظ، وربما دعاهم إلى ذلك أنهم رأوا الأئمة الكبار كأحمد بن حنبل يعارضون المعتزلة، فلم يفهموا سر معارضتهم ووجهة نظرهم، فظنوا أن المعتزلة يقولون بخلق القرآن، فيجب أن يقولوا هم بقدمه في كل مظاهره، وقد حكي هذا القول عن كثيرين.
ثم نلاحظ أن ما نقل إلينا من المناظرات كان ضعيفًا سطحيًا، فلم يتعرض المتجادلون لجوهر المسألة، ولا أثاروا حقيقة المشاكل، ولا برهنوا البراهين العقلية على وجهة نظرهم، ولا دخلوا في الصميم من الموضوع. وإذا نحن وازنّا بين هذه المناقشات التي رويت وبين الكتب التي صدرت عن المأمون، وجدنا كتب المأمون تعرضت لجوهر الموضوع، وأبانت وجهة نظره ونظر حزبه بخير مما تعرض له المناظرات. ولعل السبب في ذلك أمران، (الأول): أن المأمون أثناء المناظرات كان قد لحق بربه وخرج من ميدان المناظرة، وقد كان من أكبر أصحابه عقلًا ومن أقدرهم إقناعًا، ومن أوقفهم على حقيقة الموضوع. (والثاني): أن المناظرة كانت بين المعتزلة وخصومهم، وخصومهم محدّثون لا يرون علم ولا يقرأونه، ولا يتعلمون مصطلحاته وقواعده ومبادئه، فكان المعتزلة إذا ناظروهم في شيء من ذلك قال المحدثون: لا نعلم شيئا مما تقولون، كما حدث مع ابن حنبل، فيضطرون إذًا إلى المجادلة فقط في النصوص وفي المنقول لا المعقول، وهي دائرة ضيقة لا تتسع لبيان الأسباب الخفية والدواعي العقلية.
•••
ولعل المعتزلة أو كبراءهم كانوا يؤملون من وراء هذه المسألة آمالا واسعة، فكانوا يؤملون أن يصبح الاعتزال مذهب الدولة الرسمي، كما أن الإسلام دينها الرسمي، فإذا تم ذلك انتشر الاعتزال تحت حماية الدولة، وأصبح أكثر المسلمين معتزلة، فوحدوا الله كما يوحدون، واعتنقوا أصول الاعتزال كما يعتنقون، ويحرر المسلمون في أفكارهم، فأصبح المشرّعون لا يتقيدون بالحديث تقيد المحدّثين، إنما يستعملون العقل ويزنون الأمور بالمصالح العامة، ولا يرجعون إلى نص إلا أن يكون قرآنًا أو حديثًا مجمعًا عليه؛ وتتحرر عقول المؤرخين من المسلمين، فيتعرضون للأحداث الإسلامية بعقل صريح ونقد حر، فيشرحون أعمال الصحابة والتابعين ويضعونها في نفس الميزان الذي توزن به أعمال غيرهم من الناس؛ ثم تهجم العقول على فلسفة اليونان والهند والفرس فتستقي منها، وتُعمل — فيها — عقولها، وتأخذ منها ما لا يتنافى مع القرآن والحديث المجمع عليه. وتتحرر عقول العامة فلا يخافون من جن، لأن الجن لا ترى، ولا تصدق بغول وسعلاة، وعلى العموم لا يشلها الخوف من الخرافات؛ ولا يشلها الخوف من الله لأن الله في نظر المعتزلة ليس حاكمًا مستبدًا، بل هو تعالى قد ألزم نفسه بقوانين العدل، فالعدل سيرته تعالى وسيرتنا، وقانونه وقانوننا، ثم يؤمن الناس أنهم متسلطون على إرادتهم، قادرون على الخير والشر، ما صدر من خير فمن خلقهم وبإرادتهم، وما صدر من شر فمن خلقهم وبإرادتهم، ومن أجل ذلك يُجزوْن الجزاء الحسن والجزاء السيئ، فلا يرتكن أحد إلى القدر، ولا يتوقع مسيء مثوبة، ولا محسن عقوبة، بل جزاء الإحسان الإحسان، والإساءة الإساءة، وبهذا تكثر أعمال الخير في العالم، وتقل أعمال الشر، لأن التشكك في النتيجة، واعتقاد الإنسان أنه قد يغفر له إذا أساء، وقد يعاقب إذا أحسن، يقلل إيمانه في الخير والشر. قالوا: فإذا سَرَت هذه المبادئ في الناس ونفّذتها الحكومة زمنا، أشربتها قلوبهم، وجرت عليهم عاداتها، ونشأ عليها ناشئهم، فأصبح العالم الإنساني خير العوالم؛ فلنحتمل شرور المحنة، ولتذهب بعض الضحايا، فالغاية تبرر الوسيلة، ولا نصل إلى الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل.
لعل هذه وأمثاله كان هو ما يتوقعه كبار المعتزلة عندما انغمسوا في المحنة، ولكن ماذا كان؟
كَرِه الناس الاعتزال لأن الحكومة احتضنته، ولأن المعتزلة أيام دولتهم عسفوا بالناس وبالمحدثين والعلماء، واستباحوا دماءهم، وملأوا منهم السجون؛ واستغل المشنعون هذا فأساءوا سمعتهم، وشوَّهوا دعوتهم، ودخلوا على أذهان العامة من الباب الذي يتفق وعقليتهم. قالوا: إن المعتزلة لا يرون أن الله يُرى يوم القيامة، فحرموا المؤمنين من أكبر لذة، والمعتزلة يقولون بخلق القرآن، فأنكروا قدسيته وعظمته وجلاله؛ وقالوا إن الإنسان يخلق أفعال الناس، فجعلوا مع الله آلهة يخلقون. ثم كان المعتزلة في دولتهم لا يضحّون، بل يغنمون المال والمناصب والجاه، والمحدّثون يضحون بالمال والمناصب والجاه والنفس، والناس مع من يضحي ولو لم يسألوا لِِمَ ضحَّى فتجمّع في اسم الاعتزال كل هذه المعاني الكريهة وأمثالها.
ومدحه البحتري بقصائد كثيرة، منها في هذا المعنى الذي نحن بصدده، قوله:
ومع أنه كان من أظلم الخلفاء، فقد مدحه أهل السنة، واغتفروا له سوء فعاله لرفعه المحنة. ورأى له كثير من المحدثين رؤى في المنام تذكر أن الله غفر له.
وتعالت سلطة المحدّثين وعلى رأسهم الحنابلة، وقوي نفوذهم حتى كانوا حكومة داخل الحكومة، وحتى ذكروا أن محمدًا بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ ألّف كتابًا في اختلاف الفقهاء لم يذكر فيه أحمد بن حنبل، فسئل عن ذلك فقال: لم يكن أحمد فقهيًا، إنما كان محدّثًا، وما رأيت له أصحابًا يعول عليهم، فأساء ذلك الحنابلة، وقالوا إنه رافضي؛ وسألوه عن حديث الجلوس على العرش فقال: إنه محال، وأنشد:
فمنعوا الناس من الجلوس إليه، ومن الدخول عليه، ورموه بمحابرهم، فلما لزم داره رموه بالحجارة حتى تكدست، وحتى ركب صاحب الشرطة ومعه ألوف من الجند لمنع العامة عنه ورفع الحجارة.
وبالغوا بعد في ذلك، حتى إنه في سنة ٣٢٣ «عظم أمر الحنابلة ببغداد وقويت شوكتهم، وصاروا يكبسون دور القواد والعوام، وإن وجدوا نبيذًا أراقوه، وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء، فأرهَجُوا بغداد».
فمن عهد المتوكل والسيادة للمحدثين ومنهجهم، ولم يسترد المعتزلة سلطتهم يوميًا بعد المحنة.
لقد كان عمرو بن عبيد أبعد نظرًا من ثمامة وابن أبي دؤاد، فقد عرض المنصور على عمرو بن عبيد أن يسمي له قومًا من أصحابه المعتزلة ليعهد إليهم ببعض أموره في الدولة فأبى، ولكن ثمامة وابن أبي دؤاد وأمثالهما اختطوا خطة الانتفاع بالحكومة فخسروا دولتهم. وكان المنصور أصدق نظرا من المأمون، فأدرك المنصور حق الإدراك مركز الخلافة، وأنها فوق الأحزاب وفوق المذاهب الدينية، يستعين بكل المذاهب، ولا يخضع سلطانه لواحد منها، يقرّب المعتزلة إذا شاء، ويقرب المحدثين والفقهاء ما لم تقض تعاليم أحدهم بشيء يمس سلطانه، فهناك التنكيل. أما في غير ذلك فواسع الصدر لجميعهم. ولكن المأمون خلط بين منصب الخليفة ومنصب المعلم، فأراد أن يكون خليفة ومعلمًا معًا، وفاته أن طبيعة الملك والخلافة إصدار الأوامر الحاسمة التي لا تحمل جدلًا ولا مناقشة. وطبيعة المعلم أن يعرض النظريات، ثم توضع نظرياته على بساط البحث، فتارة تقبل وتارة ترفض، والطبيعتان مختلفتان، فتعرَّض قوانين الدولة وأوامر الخليفة للعبث بها والشك فيها مفسد لها، ونظريات المعلم إذا اتخذت شكل «دكريتو» أفسدت العلم. وهذا ما حدث من المأمون يوم أن أصدر «ديكريتو» وعاقب مخالفها معاقبة من يخالف أمرًا رسميًا، فكانت النتيجة إخفاقًا تامًا له ولمن خلفه على مبدئه. وكانت إخفاقًا للمعتزلة لأنهم ربطوا أنفسهم به وبهم، ورضوا عنه وعنهم، وغامروا في الفتنة، وتولوا أمر المحنة.
والآن يحق لنا أن نتسائل: هل كان في مصلحة المسلمين موت الاعتزال وانتصار المحدثين؟
في رأيي أن ذلك لم يكن في مصلحتهم، وأنه كان خيرًا للمسلمين ألا يدخل المعتزلة في أحضان الدولة، وأن يعيشوا كما عاشوا في عهد المنصور، وأول عهد المأمون؛ فلو ساروا على هذا النهج، وسار المحدّثون على النهج الذي وضعوه لأنفسهم، لانتفع المسلمون من ذلك أكبر نفع، ولتغير تاريخ الإسلام؛ فحزب المعتزلة يمثل حزب الأحرار، وحزب المحدّثين يمثل حزب المحافظين؛ ومن مصلحة الأمة أن يكون الحزبان، يدفع المعتزلة الناس إلى إعمال العقل، وإطلاق الفكر ويتقدمون الناس بمشاعلهم وأضوائهم ينيرون السبيل أمامهم؛ ويحافظ المحدّثون على العادات والتقاليد الموروثة، ويتعلقون بأذيال المعتزلة يمنعونهم أن يندفعوا في السير حتى لا يَنبَتُّوا، فتسير الأمة سيرًا هينًا، ولكن إلى الأمام دائمًا. وإخلاء السبيل أمام طائفة من الطائفتين وفقدان الأخرى ضار ضررًا بليغًا.
نعم وجد في الإسلام فرقة الفلاسفة وقاموا على أنقاض المعتزلة، وكان من هؤلاء الفلاسفة أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد وأمثالهم، ولكنهم في الحقيقة لم يغنوا غناء المعتزلة. لقد كان الفلاسفة فلاسفة أولًا ودينيين آخرًا، لا ينظرون إلى الدين إلا عندما تتعارض نظرية فلسفية مع الدين فيجدّون للتوفيق بينهما، أما المعتزلة فكانوا دينيين أوّلًا وفلاسفة آخرًا، همهم الأول تعاليم الدين مفلسفًا، والقرآن معقولًا؛ وهمّ الفلاسفة آراء أرسطو وأفلاطون بحيث لا تصطدم مع الإسلام، وشتان بين النظرتين وبين الصبغتين. من أجل ذلك تعرض المعتزلة لمسائل الدين عن قرب، وتعرضوا للمحدّثين وصدموهم، وللفقهاء ونازلوهم، وكانوا يقررون الأصل الديني ويردون على مخالفيهم في وضوح وجلاء؛ أما الفلاسفة فأرادوا أن يكونوا في سمائهم الفلسفية، وودوا لو نَحَّوا الدين جانبًا، فإن كان ولابد فمحاولة للتوفيق حتى لا يثور عليهم رجال الدين. لذلك أرى أن الفلاسفة لم يمسوا الحياة الواقعية للمسلمين، وكانوا في فلسفتهم اليونانية كالمفوضية اليونانية في البلاد الإسلامية، لا تمس مصالح الأمة التي تقيم فيها إلا عند التعارض مع مصلحتها. أما المعتزلة فتريد احتلالًا وتريد إصلاحًا وتريد توجيهًا، ولا تطمئن لعيشة العزلة. وناحية أخرى، وهي: أن المعتزلة كانوا أئمة البيان في الأمة العربية، وعلى رأسهم النّظَّام والجاحظ وبشر بن المعتمر وثمامة، وأحمد بن أبي دؤاد. كل منهم إمام البيان في عصره، قد تثقفوا ثقافة عربية واسعة. يعرفون أشعار العرب وأخبارهم وآدابهم، ويعرفون المعاني العميقة التي هداهم إليها علم الكلام، فكانوا أدباء من نوع عميق لا يدانيهم فيه غيرهم؛ ومن ثم اخترعوا علم البلاغة كما أشرت من قبل — فكانوا من هذه الناحية أكثر اتصالا بالأمة الإسلامية وأبعد تأثيرًا، إن لم يقرأ الناس كلامهم لاعتزالهم قرأوه لأدبهم وبلاغتهم، فكان الاعتزال يندس في ثنايا قولهم العذب، ومنطقهم الفصيح، ومعانيهم السائغة؛ أما عبارة الفلاسفة فعبارة جافة غامضة، كأنها رموز وإشارات، قد ملئت بالمصطلحات الثقيلة والعبارات الركيكة، فكانت وقفًا عليهم وعلى من تتلمذ لهم لا تعدوهم، فكأنهم ألَّفُوها واشترطوا في فهمها أن يكونوا معها ليشرحوها، فكانوا بذلك أمة وحدهم في عقليتهم وعباراتهم، فضاقت دائرتهم، وضعف أثرهم.
ومن أجل هذا لا أرى أن فلاسفة المسلمين سدُّوا مسد المعتزلة، بل ظلت سلطة المحدِّثين كما هي لم تتأثر بالفلاسفة أبدًا؛ والفلاسفة كانوا يحمدون الله على السلامة منهم، ويرجونه أنه يديم عليهم السعادة التي يشعرون بها في تفكيرهم السماوي الميتافيزيقي.
لقد أدى المعتزلة للإسلام خدمة لا تقدر، فقد جاءت الدولة العباسية تحمي الفرس لأنها قامت على أكتافهم، وطارت من على عاتقهم، ولكن مذاهب الفرس ثنوية وتشبيه وتجسيم ونحو ذلك، وفي إعطاء الحرية للفرس خطر في دخول هذه المذاهب وتسربها إلى المسلمين؛ وقرّب العباسيون اليهود والنصارى واستخدموهم في الطب وغير الطب، وكلفوهم الترجمة إلى العربية، فكان ذلك داعيًا إلى تقريبهم واختلاط المسلمين بهم أكثر من اختلاطهم في العصر الأموي. فشعور الفرس واليهود والنصارى بهذه الحرية مكن طائفة منهم أن يتسللوا بأديانهم القديمة يريدون نشرها، ولذلك نجد في هذا العصر دعاة كثيرين يدعون إلى ثنوية الفرس ومانوية الفرس، وبعض تعاليم اليهودية والنصرانية، وبعض تعاليم الهنود الأقدمين؛ وبعض هؤلاء الدعاة تستروا بالإسلام، وبعضهم دعا دعوته في علانية، وأبيح الجدل والمناظرة في أدق المسائل وأعمقها، ولم يكن المحدثون والفقهاء يستطيعون أن يقفوا أمامهم، لأن المحدثين وأمثالهم مهرة في النصوص، والذي ينكر الإسلام لا يقتنع بمجرد ذكر آية أو رواية حديث، إنما يريدون دلائل عقلية على وجود الله وعلى نبوة محمد ﷺ؛ وعلى صحة أن القرآن من عند الله، كما يريدون دلائل عقلية على بطلان مذاهبهم؛ وكان هؤلاء جميعًا من ثنوية ويهود ونصارى قد تسلحوا بالفلسفة اليونانية، واستخدموا منطقها فكوّنوا منه براهين على مذاهبهم، واستخدموا اللاهوت اليوناني يدعمون به معتقداتهم؛ فكان لابد لمن يقنعهم ويرد عليهم أن يتسلح بسلاحهم، وأن يكون على معرفة تامة بأساليبهم وأسرار مذاهبهم، فيقرع حجة عقلية بحجة عقلية، ويحمي المسلمين من هجومهم، وبث دعواتهم، فلم يقم بهذه المهمة، ويحمل هذا العبء في ذلك العصر إلا المعتزلة، فقد نازلوا الثنوية والديصانية والدهرية، واضطهدوا بشارًا وجرير بن حازم السُّمَني في البصرة، وجعلوا قومًا من الثنوية يدخلون في الإسلام بناء على دعوتهم، وألفوا الكتب الكثيرة في الرد عليهم، ونازلوا اليهود والنصارى وردوا عليهم، وألفوا في إثبات النبوة عامة، وفي إثبات نبوة محمد خاصة، وأبلوا في ذلك بلاء حسنًا؛ ولعل هذا هو السبب في أنا لا نجد — فيما وصل إلينا — لتعاليم المعتزلة نظامًا عامًا في البحث شاملًا مرتبًا، ولكن مسألة من هنا ومسألة من هناك حسب الجدل والمناظرة، لا حسب العقل الهادئ الذي يرتب في حجرته الأبواب والفصول ترتيبًا منطقيًا، فالمسائل تثار حسبما اتفق، إما في الجو الوثني أو اليهودي أو النصراني، أو في جو مجالس الخلفاء، أو مجالس العلماء، ويرد عليها المعتزلة، وتدوَّن فيها آراؤهم من غير نظام إلا النظام الزمني في ظهور المسألة.
ولا يدري إلا الله ماذا كان يكون من الشر على المسلمين لو لم يقف المعتزلة هذا الموقف وقت هجوم خصوم الإسلام بهذه القوة التي هجموا بها، بل إن الأسلحة التي تسلح بها المسلمون بعد من علم الكلام على النمط الذي وضعه أبو الحسن الأشعري وخلفه، هي — من غير شك — وليدة الاعتزال، وترتيب لآراء المعتزلة، وتعديل لبعضها، وما كانت تكون لولاهم.
فلما ضعف شأن المعتزلة بعد المحنة ظل المسلمون تحت تأثير حزب المحافظين نحوًا من ألف سنة، حتى جاءت النهضة الحديثة. وفي الواقع أن فيها لونًا من ألوان الاعتزال، ففيها الشك والتجربة وهما منهجان من مناهج الاعتزال، كما رأيت في النَّظَّام والجاحظ؛ وفيها الإيمان بسلطة العقل، وحرية الإرادة؛ وبعبارة أخرى خلق الإنسان لأفعال نفسه، وما يتبع ذلك من مسئولية، وفيها حرية الجدل والبحث والمناظرة، وفيها شعور الإنسان بشخصيته، وعدم تحميل القدر كل تبعة ومسئولية، إلى كثير من أمثال ذلك، وكلها مبادئ — كما رأينا — قد قال بها المعتزلة وجروا عليها. وربما كان الفارق الوحيد بين تعاليم المعتزلة وتعاليم النهضة الحديثة، أن تعاليم المعتزلة لهذه المبادئ كانت مؤسسة على الدين، وتعاليم النهضة الحديثة مؤسسة على العقل الصرف؛ وبعبارة أخرى كان المعتزلة يرون هذه البادئ دينًا، والنهضة الحديثة تراها عقلًا، فاتصلت هذه المبادئ عند المعتزلة بالدين أتم الاتصال، ولم تتصل بالدين في النهضة الحديثة، بل كانت في كثير من المظاهر والأحوال خروجًا على الدين.
في رأيي من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة، وعلى أنفسهم جَنوا.