المُرْجِئة١
لقد بدأ القول بالإرجاء بسيطًا ساذجًا كما تبين لنا في العصر الأموي، فلما تفلسفت المذاهب الأخرى في العصر العباسي تفلسف «الإرجاء».
ما هو الإيمان؟ لدينا عناصر ثلاثة: تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وإتيان بأنواع الأعمال من صلاة وصوم وزكاة وحج؛ فأي هذه هو الإيمان، أو هل هو كلها جميعًا؟ على هذا البحث دار الإرجاء.
فكثير من المرجئة كانوا يرون أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، أو بعبارة أخرى هو معرفة الله بقلبه، ولا عبرة بالمظهر؛ فإن آمن بقلبه، فهو مؤمن مسلم، وإن أظهر اليهودية والنصرانية، وإن لم ينطق لسانه بالشهادتين، وليس الإقرار باللسان ولا الأعمال من صلاة وصوم ونحوهما جزءًا من الإيمان.
وحجتهم أن القرآن نزل بلغة العرب، والإيمان في اللغة هو التصديق فقط، وأما العمل بالجوارح فليس يسمى في اللغة تصديقًا، فليس إيمانًا؛ وقد جاء في القرآن حكاية عن إخوة يوسف: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا أي بمصدق ما حدثناك به؛ وفي الحديث: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله» أي تُصَدّق.
ومن «المرجئة» من كان يرى أن الإيمان ركنان: تصديق بالقلب، وإقرار باللسان؛ فالتصديق بالقلب وحده لا يكفي، والإقرار باللسان وحده لا يكفي، بل لابد منهما معًا ليكون مؤمنًا، لأن من صدق بقلبه وأعلن التكذيب بلسانه لا يسمى مؤمنًا.
وعلى كل حال فيكاد المرجئة يجمعون على أن العمل ليس ركنًا من أركان الإيمان ولا داخلًا في مفهومه.
وكل خصومهم يرون أن للإيمان أركانًا ثلاثة: التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، وعمل الطاعات؛ لأن الإيمان في اللغة وإن كان هو التصديق بالقلب، إلا أن الشارع كثيرًا ما يغير المعاني اللغوية ويزيد فيها ويقيدها، كالصلاة كانت في اللغة الدعاء، فاستعملها الشارع في معناها الخاص المعروف؛ وقد قال الله في القرآن: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ، وسياق الآية يدل على أن المراد بالإيمان هو الصلاة إلى بيت المقدس قبل أن ينسخ بالصلاة إلى الكعبة، وقال الله: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلَامُ، وقال في موضع آخر: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ، فنص على أن عبادة الله دين، وفي الآية الأولى نص على أن الدين الإسلام، فعبادة الله الإسلام، والإسلام هو الإيمان لقوله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.
ودليل آخر وهو أن الله قال: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، فجعل التحكيم من الإيمان وهو غير التصديق بالقلب.
وأيضًا لو كان الإيمان وهو التصديق بالقلب لكان كثير من اليهود مؤمنين، فقد قال الله إنهم يعرفون النبي كما يعرفون أبناءهم، وإنهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، وقال: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ، مع أنه لا خلاف بين المسلمين في عد هؤلاء اليهود كفارًا.
وكان المرجئة الذين يقولون إن الإيمان هو التصديق بالقلب يردون عليهم في هذا بأن اليهود والنصارى لم يعرفوا أن محمدًا رسول الله، ومعنى يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، أي يعرفون أنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؛ إلى آخر ما دار بينهم من حوار.
ولعل هذه المسألة — مسألة الإيمان وتحديده — هي محور الإرجاء، وقد تفرع عنها جملة مسائل، مثل: هل الإيمان يزيد وينقص، أو لا يزيد ولا ينقص؟ فلما قال المرجئة بأن الإيمان هو التصديق بالقلب، أو التصديق بالقلب والإقرار باللسان. قال أكثرهم إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأن التصديق غير مقول بالتشكيك، والإقرار باللسان إما أن يكون أو لا يكون، فلا محل للزيادة ولا النقصان؛ ومن قال إن الأعمال داخلة في مفهوم الإيمان، والأعمال تكثر وتقل، قالوا: إن الإيمان يزيد وينقص، وقد احتج الأخيرون بقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا، وقوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا؛ وقد تأوَّل المرجئة هذه الآية وأمثالها بأن هذه الآية لما نزلت زادتهم تصديقًا بشيء لم يكن عندهم من قبل؛ فالإيمان الذي زاد ليس هو الإيمان بمعنى التصديق بالله، بل الإ يمان فيها هو التصديق بمعنى الآية وما أخبرت به إلخ.
ومما فرعه المرجئة على تعريفهم للإيمان أن المؤمن مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار، لأنه — على كل حال — مؤمن، وخالفوا في ذلك المعتزلة والخوارج، إذ يقولون إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، ولا يخرج منها أبدًا، واستدلوا بقوله تعالى: وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وقوله: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا، وقد تأول المرجئة هذه الآيات، فقالوا في الآية الأولى: إن من يعص الله ورسوله ويكون مؤمنًا لم يتعد حدوده، بل تعدى بعض حدوده، إنما يتعدى الحدود كلها الكافر؛ وتأولوا الآية الثانية بأن من قتل مؤمنًا لأنه مؤمن، ولا يكون القاتل بهذا الوضع إلا كافرًا إلخ.
فالمرجئة يرون أنه لا يخلد في النار إلا الكافر.
وكان مما قالوه أيضًا: إن وعد الله لا يتخلف، ووعيده قد يتخلف، لأن يتصرف فيه كما يشاء، ولا يُعدُ الخلف في الوعيد نقصًا، فخالفوا في ذلك المعتزلة كما تقدم من قولهم.
•••
وقد كان من الجائز أن يقابل كلام المرجئة وشرحهم لرأيهم في الإيمان بشيء من التسامح، لولا أن كثيرًا من رءوس المتكلمين شعروا بالخطر الذي ينطوي عليه كلامهم في الإيمان، وهو التقليل من شأن الأعمال والإتيان بالطاعات، فرأوا أن جعل الإيمان هو التصديق بالقلب وحده أو مع الإقرار باللسان يجعل أعمال الطاعات في المنزلة الثانية، حتى إن بعضهم فسر تسميتهم المرجئة بأنهم أرجأوا العمل، أي أخروا منزلته بعد منزلة الإيمان؛ وفي هذا خطر، وخاصة على العامة، لأنهم إن فهموا أن الأعمال ليست ركنًا من أركان الإيمان، قل التزامهم لها وتمسكهم بالإتيان بها، وعلى العكس من ذلك إذا فهموا أنها جزء من الإيمان لا يكمل إلا بها، فحاربوا مذهبهم وعدوه من الفرق المنحرفة.
أما هي في نظر الخاصة فلا ضرر منها، لأنه إذا كان مفهوم الإيمان هو التصديق فقط، لم يمنع ذلك من وجوب الطاعات كالصلاة والصوم وجوبًا حتمًا مشددًا لا يصح التساهل فيه بحال، والخلاف ليس إلا في مدلول الألفاظ.
وهذه المسائل التي نقلناها عن «الفقه الأكبر» هي أصول الإرجاء، ولكن كثيرًا من الفقهاء والمتكلمين جدُّوا في تكذيب هذا، واستكبروا نسبة الإرجاء إلى أبي حنيفة، وقالوا إن اهتمام أبي حنيفة بالفروع وكونه إمامًا من أكبر الأئمة فيها يدل على أنه يُكبر الأعمال، وهذا عكس الإرجاء.
وأرى أن النقول كثيرة عن الإمام في تعريفه الإيمان بأنه التصديق والإقرار وأنه لا يزيد ولا ينقص، إلى غير ذلك من أصول الإرجاء؛ وأبو الحسن الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين نسبه إلى الإ رجاء، وهو معروف بالدقة والضبط في النقل؛ وليس يضير أبا حنيفة مطلقًا أن ينسب إلى الإرجاء، بالمعاني التي ذكرنا. والفهم بأن القول بقصر الإيمان على التصديق يضعف شأن العمل — فهم العامة. أما الخاصة فلا يرون في ذلك بأسًا، لأن اختلاف مفهوم الإيمان عن مفهوم الأعمال كالخلاف بين مفهوم الصلاة والصوم؛ وكل ما في الأمر أنهم غلَّبوا في مذهبهم جانب الرغبة على جانب الرهبة، وجانب الرجاء على جانب اليأس، والقرآن نفسه اتبع ذلك أحيانًا في مثل قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وليس أبو حنيفة هو الذي يقلل من شأن العمل ببحثه النظري في تعريف الإيمان، إنما هاجم بعض المتكلمين هذا المذهب لأن العامة لا يفهمون الأمور فهمًا فلسفيًا، فإذا قيل لهم إن العمل ليس ركنًا من الإيمان قلَّ شأن العمل في نظرهم — وهذا حق.
•••
وقد تسرّب كثير من عقائد المرجئة إلى أهل السنة كالقول بعدم تخليد عُصاة المؤمنين في النار، والقول بجواز تخلف الوعيد دون الوعد ونحو ذلك.
وإذا قال المتكلم بالأصول التي ذكرناها عدَّ مرجئًا.
وكثير من المرجئة كان يقول بهذه الأصول، وفي الوقت عينه يقول ببعض أصول المعتزلة، كأن يرى أن الإنسان يخلق أفعال نفسه، أو أن الله لا يُرى بالبصر يوم القيامة؛ فيسمونهم — إذ ذاك — معتزلة المرجئة، وفي هذا التعبير تسامح من كتب الفِرَق، لأن الإرجاء في جوهره يخالف أصلًا هامًا من أصول المعتزلة، وهو اعتبار العمل ركنًا من الإيمان، وخروج الفاسق عن الإيمان، وإيجاب تعذيب العاصي وتخليد الفاسق في النار؛ وقد قدمنا أنه لا يسمى معتزليًا إلا من قال بالأصول الخمسة السابقة؛ فالقول بأن بعض الناس مرجئ معتزلي خطأ إذا أردنا الدقة في التعبير، وصواب إن أردنا أنه يقول ببعض آراء الاعتزال.
وكذلك قال قوم من المرجئة ببعض آراء الخوارج كقولهم في الإمامة إنها ليست بواجبة، فإن كان ولابد، صلح لها من استوفى الأهلية ولو كان غير قرشي؛ فسموهم مرجئة الخوارج، وقولنا في هذا كقولنا في سابقه.
أما المرجئة فعدّوا كل الطوائف المخالفة لهم من شيعة ومعتزلة وخوارج وغيرهم مؤمنين، وعدوا كل من تأول واجتهد مؤمنًا وإن أخطأ، وليس كافرًا إلا من أجمعت الأمة على كفره، وليس أحد يخلد في النار من المؤمنين؛ بل إما أن يعفو الله عن ذنوبهم أو يعذبهم عليها حينًا ثم يدخلهم الجنة. وقد اقتبس أهل السنة آراءهم هذه، فعندهم أن المؤمنين العصاة لا يخلدون في النار، وأنه لا يكفر أحد من أهل المذاهب الأخرى إلا في حدود معينة.. إلخ.
وهذه الأنظار التي حكينا عن المرجئة تخدم السياسة ولو من طريق غير مباشر؛ وأقل ما فيها أنها تجعل أصحابها محايدين، لا ضد الدولة ولا معها. وبيان ذلك أنهم لما استعرضوا أعمال السياسة على مبادئهم رأوا أن المتقاتلين الأولين كالذين ناصروا عثمان، والذين خرجوا عليه، والذين قاتلوا مع عليّ، والذين قاتلوا مع معاوية، كلهم مصدق بالله ورسوله، وكلهم متأول، فكلهم مؤمن؛ وإذا أخطأ بعضهم فعفو الله قد يشملهم، إذًا فهم لا يكفّرون أحدًا من هؤلاء المتقاتلين، لا يكفرون عمرو بن العاص ولا معاوية ولا غيرها، كما يفعل الخوارج وبعض المعتزلة، ولا يكفرون قتلة عثمان، ولا يكفرون طائفة من طوائف المتحاربين، لأن غاية خطئهم إن أخطأوا أنهم ارتكبوا كبيرة، والكبيرة لا تخرج من الإيمان. على أنهم وقفوا في الحكم على أي الفريقين هو المخطئ، لأن كل فريق متأول، وكل فريق له حججه، والأمر يتعلق بالنيات أكثر مما يتعلق بالأعمال، والله هو الذي يطلع على نيات الناس وضمائرهم، فلنكل أمرهم جميعًا إلى الله، ولا نسبّ أحدًا، ولا نقطع بأنه سيدخل النار حتمًا.
ونتيجة هذا أنهم كانوا ينظرون إلى معاوية وصحبه نظرتهم إلى عليّ وصحبه، ويرون مهادنة بني أمية صحيحة، وأن خلفاءهم مؤمنون لا يصح الخروج عليهم، وتصح الصلاة وراءهم، وأن غاية ما يفعله أحدهم من الشر أن يرتكب كبيرة، ومرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان؛ ولذلك لم نر الأمويين اضطهدوا مرجئًا لإرجائه، كما كانوا يضطهدون المعتزلة لاعتزالهم، والخوارج لخارجيتهم، والشيعة لتشيعهم؛ بل نراهم كانوا يستعملون من عرف بالإرجاء في أعمالهم، كما فعل يزيد بن المهلب بن أبي صفرة بثابت قُطْنَة، وهو شاعر المرجئة. فقد ولاه أعمالًا من أعمال الثغور.
فإن كان الأمويين قد عذبوا أحدًا من المرجئة، فليس سبب العذاب إرجاءه ولكنه شيء آخر؛ فقتلوا الحارث بن سُريج وهو زعيم من زعماء المرجئة في عهد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، لا لأنه مرجئ، ولكن لخروجه وثورته لأسباب قبلية وعداوات شخصية.
وتعذيب أبي جعفر المنصور لأبي حنيفة لا لإرجائه، ولكن لأنه على ما يظهر أحسن منه ميلًا إلى تفضيل محمد بن عبد الله بن الحسن (النفس الزكية) على المنصور، وهكذا.
وهناك معنى آخر لهذه الجملة، وهو أن الإرجاء أنسب المذاهب لأن يعتنقه كل ملك، لأنه يحمله على أن ينظر لأهل المذاهب الأخرى من معتزلة وخوارج وشيعة وغيرهم نظرة معتدلة، فلا يكفر أحدًا، ولا يتدخل في عقيدة أحد، فكلهم مؤمنون، ومن عصى منهم فأمره إلى الله، وهذا يجعل الملك فوق المذاهب وفوق الأحزاب الدينية؛ فهو مَلكُ الجميع، وهذا أصلح للمُلك.
ولكنا نرى أن المأمون — قائل هذه الجملة — كان أبعد الناس عن الأخذ بهذا المعنى الثاني، فقد تورط في الاعتزال، وانحاز إلى المعتزلة، وأراد أن يحمل الناس كلهم على اعتناقه، ولم يشأ أن يقول أحد إن القرآن ليس بمخلوق، وعده إن قال ذلك غير مؤمن، وحمل الناس على القول بمذهبه بالجلد والحبس — فهل قال هذه الجملة أخيرًا بعد أن رأى اضطراب المملكة وفتنتها بالقول بخلق القرآن، وود لو سار على مذهب الإرجاء فترك الناس على مذاهبهم وترفع عن خلافهم؟ يُبعد هذا الاحتمال أنه وهو يجود بنفسه أوصى المعتصم بأن يسير سيرته في خلق القرآن — أو أن المأمون قالها إجابة لنزعة من النزعات الوقتية، ثم لم يلبث أن عدل عنها وسار على نقيضها، أو أراد المعنى الأول؛ وهذا لا ينافي اعتقاده لمذهب الاعتزال؟ كل ذلك صالح أن يكون.
ونحو هذا من الجمل والأبيات القصيرة القليلة.
ومع هذا يظهر لي أن هناك بابًا واسعًا من أبواب الأدب — وخصوصًا في العصر العباسي — تأثر تأثرًا كبيرًا بالإرجاء، وهو باب عفو الله عن ذنوب العاصين، فقد كان المعتزلة يرون أن الكبيرة تستحق العقوبة حتمًا ما لم يتب، وأن من مات عاصيًا مرتكبًا للكبيرة لابد في النار، وقد كتب الله على نفسه ذلك فلا يعفو؛ والمرجئة تجيز احتمال عفو الله حتى مع عدم التوبة، ومع الإكثار من المعاصي. فلما أفرط كثير من شعراء الدولة العباسية في اللهو، وأسرفوا في اللذة من خمر ونساء وغلمان وما إليها، ركنوا إلى عفو الله على مذهب الإرجاء يأملونه ويركنون إليه، وفتحوا في ذلك بابًا واسعًا من أبواب الأدب، ترى مثلًا منه وضحًا جليًا في شعر أبي نواس، وربما كان خير مثل لذلك قوله يستهزئ بالنظَّام ومذهبه في الاعتزال، ويحبذ الإرجاء ورأيه في العفو، ويقول:
ويقول:
ويقول:
فأي امرئ يقرأ هذه الأبيات ولا يرى فيها عنصر الإرجاء؟ وسار على هذا النمط كثير من الشعراء. ويطول بنا القول لو ذكرنا أقوالهم، فنكتفي بهذا القدر، ونقرر أن مذهب الإرجاء فتح بابًا جديدًا من أبواب الأدب، هو فلسفة العفو.