مقدمة
قد اختلف المؤرخون في بيان أصل البابليين والآشوريين وأشياء كثيرة مما يتعلق ببداءة أمرهم، فذهبوا في ذلك مذاهب شتى لا تتلاءم ولا تتقارب حتى توصَّل الإفرنج في هذا الزمان إلى حلِّ الكتابة المعروفة بالمسمارية، وهي الحروف الآشورية، فتبين لهم كثير مما كان المؤرخون يختلفون فيه من تلك الحقائق وجزموا بكثير منها عن يقين؛ لأنهم رأوا حقيقتها مسطرة على جدران الأبنية التي كشفوها في تلك النواحي، فكانت أصدق شاهد بما كان من أمر تلك الأبنية وواضعيها وتواريخها، إلى غير ذلك مما يقررها بأجلى وضوح، وكان كثير من متقدمي المؤرخين الذين يوصفون بالثقة والشهرة يجعلون مملكة البابليين أو الكلدان نفس مملكة الآشوريين، وذلك كما فعل هيرودوطس المؤرخ اليوناني المشهور؛ حيث يقول في تاريخه ما ترجمته: إن آشور تشتمل على كثير من المدائن الكبيرة، إلا أن أسمى تلك المدائن مجدًا وأمنعها عزة مدينة بابل، وقد اتخذها ملوك تلك البلاد عاصمة لهم منذ خراب مدينة نينوى. ا.ﻫ.
والصحيح غير ما ذكره فإنه علم بعد البحث أن كلًّا من بابل ونينوى كانت عاصمة للملك في زمن واحد، وقد كانت بين المدينتين حروب متواترة، ويمكن أن يُستدَلَّ من ذلك أن ما رواه عن فنون الآشوريين وتاريخهم أصله الكلدانيين، أو ما رواه عن عوائد البابليين وعقائدهم هو للآشوريين، إلى غير ذلك مما يتجاذبه طرفا الوهم والصحة على ما ستراه في مواضعه إن شاء الله تعالى.
وإنما كان منشأ هذه الاختلافات على الأكثر كُتَّاب الفرس الذين شحنوا التاريخ بحكايات فارغة خرافية لا يوثق بها وجعلوا كتاباتهم هذه في بلاط ملوكهم، فكان كل من أراد الاطلاع على شيء من أخبار هاتين المملكتين يستعين بها، فينقل عنها ما أراده حقيقيًّا كان أو غير حقيقي، وتداولت هذه الحكايات الطويلة ألسنة العامة، فزادوا عليها وحرفوا منها حتى أصابها مع تمادي الأزمنة وتكرار الأيام نفس ما أصاب تلك القرون والآثار من الانقلاب والاضمحلال، وحسبك من ذلك أنهم رجعوا بمُلك نينيب فلأصر الذي سموه نينوس سبعة قرون، وبملك سمُّوراميت امرأة بعلوخوس الثالث التي سموها سميراميس اثني عشر قرنًا، وقالوا إنها امرأة نينوس المذكور، ونسبوا إليها بناء سور بابل وهيكل بعلوس والقصرين الملكيين والحدائق المعلقة إحدى العجائب، ورصيفي النهر وغيرها من الأعمال الكبيرة والحروب العجيبة التي تُذكر في الكلام عن بابل وسميراميس وبختنصر وغيرهما.
ولما قصد أكتزياس الكنيدي طبيب أرتكزرسيس منيمون الفارسي جمع تاريخ لآشور باليونانية، نقل عن الكتب الفارسية التي في بلاط الملك الخرافات المذكورة، وهي المتداولة بين العامة، فاقتبسها كُتَّاب اليونان من بعده، وما زالوا يتداولون ذكرها ويتناقلونها وغيرهم من أمم شتى إلى عصرنا الحالي. لا جرم أن مملكتَيْ بابل وآشور من أقدم الممالك فخرًا ونسبة ومن أشهرها تاريخًا وأعلاها عزة ومجدًا، وقد بلغتا من العظمة والرفعة في المشرق على عهد بختنصر ما بلغت مملكة الرومان في المغرب على عهد كبراء القياصرة، ونرى أيضًا أن لهما تاريخًا متوغلًا في القِدَم مع قطع النظر عما يقوله مؤرخو الكلدان الذين يزعمون أن ملكهم بقي ما يزيد على ٤٧٣٠٠٠ سنة، وذلك منذ تملك ألوروس قبل الطوفان إلى سقوط داريوس واضمحلال دولتهم، وقد اشتغل كثيرون من المؤرخين بتدوين تاريخ البابليين والآشوريين، ولكن اختلفت فيه مذاهبهم وتفرقت آراؤهم على أنحاء متباينة، ولم يكن جهد من عُنِيَ في كل عصر بتصحيح خطئهم إلا عبثًا وضياعًا، وربما كان تصحيح بعضهم مؤديًا إلى خطأ آخر وإحداث وهم جديد، وما زالت الناس على ذلك إلى أن كُشِفَت أخربة مدائن بابل وآشور الكبيرة وتُوصِّلَ إلى قراءة الكتابة الآشورية على ما أسلفنا ذكره، فتسنى لنا من ثَمَّ الوقوف على كثير مما غمض من أخبار هاتين المملكتين وإيضاحها عن يقين جازم.
ومعظم ما ورد في وصف بابل وآشور وتاريخهما ما هو مدون في مصنفات هيرودوطس اليوناني وديودوروس الصقلي نقلًا عن أكتزياس الكنيدي المقدم ذكره وبيروسوس الكلداني، والأولان قدما بابل في أواخر القرون الوثنية وكانت قد انحطت عن مجدها فوصفا ما عايناه من أبنيتها، ولكن ليس في كلامهما ما يُعرَف به أصل سكانها الأولين. على أن الأول منهما أحق بالثقة من الثاني لما ستعرفه، وهو الذي لقبها عاصمة آشور، إلا أنه لم يرد في كلامه شيء عن نينوى ولا عن بانيها، ولكنه اكتفى من تاريخها بقوله إنها مبنية على عدوة دجلة، ويفهم من كلامه أنه كتب تاريخًا لآشور وبابل؛ لأنه يقول: ولبابل ملوك كثيرون أذكرهم في الكلام على آشور. إلا أنه لم يقع إلينا شيء من ذلك ولا عثرنا على نقل منه في كتب المؤرخين، فلا يُدرَى هل كتب هذا التاريخ فعلًا أم كان ذلك في نفسه ثم لم يتأتَّ له إتمامه. لا جرم أنه لو كان موجودًا في أيدينا لاتسع لنا النطاق في معرفة أخبار ملوكهم وعظمائهم وفنونهم وعلومهم وعقائدهم وأبنيتهم ومدنهم، إلى غير ذلك مما نتشوق إلى معرفته ونرتاح للوقوف عليه.
وأما الثاني فجميع كتاباته أو معظمها منقول عن مصنفات أكتزياس الكنيدي طبيب ملك فارس التي فُقدت في جملة مصنفات قديمة ثمينة، وكان مقام أكتزياس هذا في فرسبوليس في بلاط الملك المذكور آنفًا، فجمع ما جمعه عن أشهر مؤرخي الفرس، ولذلك يرجحه قوم على غيره من المؤرخين في معرفة حقيقة تاريخ آشور، ومن تاريخه ما رواه ديودورس نقلًا عنه أن أول ملوك آشور نينوس، وكان جبارًا ابتنى مدينة على عدوة دجلة سماها نينوى باسمه تخليدًا لذكره، ثم نهض للفتح فجهز جيشه وزحف به على أقاليم كثيرة فاستفتحها وضرب عليها الخراج، وبعده استبدَّت بالملك سميراميس زوجته وكانت أول امرأة ملكت في العالم، وهي التي شادت سور بابل وندبت لبنائه ما ينيف عن ألفي ألف رجل. ا.ﻫ.
وأما بيروسوس فهو كلداني بابلي الأصل، وكان كاهن بعلوس، وقيل إنه كان معاصرًا للإسكندر، وهو من أشهر مؤرخي الكلدان دوَّن تاريخًا يتضمن أخبار ملوك بابل كافة، ولم يقع إلينا من تاريخه سوى بعض روايات منثورة تداولتها ألسنة العامة، وذكرها جماعة من المؤرخين في جملتهم يوسيفوس اليهودي وأوسابيوس وأكليمنضوس الإسكندري وشنسيلوس وغيرهم، وجميع ما أثبته أخذه عن ألواح قديمة كانت في عهدته في جملة متعلقات الهيكل قد سُطِّرت فيها أخبار الكون وملوك الأرض قبل الطوفان وبعده على ما ستراه في موضعه، وخلاصة ما قاله في هذا الصدد أن سكان بابل الأولين كانوا قبائل متوحشة لا نظام لعيشتها ولا معارف عندها حتى ظهر أوانس، وهو إله على شكل إنسان وسمكة معًا خرج إليهم من بحر إريثرة فمدَّنهم وعلمهم الأدب والفنون وبناء المدن والهياكل، وأول ملك ولي أمرهم ألوروس وكان كرسيه في بابل وبقيت مدته ٣٦٠٠٠ سنة، ثم تعاقب على الملك بعده تسعة ملوك من نسله، فساروا سيرته في سن الشرائع والآداب المحدثة وآخرهم يسمى أكسيسوثروس، وعلى عهده انفجرت ينابيع المياه وغمرت الأرض، فأبادت كل ذي نسمة في الأرض من البهائم والطيور والناس كافة، خلا الملك ومن معه ضمن الفلك الذي أوحى إليه كرونوس أن يبنيه، ولعل هذا هو عين الطوفان المذكور في كتب قدماء الهنود وقصته أشبه بقصة الطوفان الذي ورد الخبر عنه في الكتاب المقدس؛ حيث أهلك الماء كل حيٍّ في الأرض ولم يَنْجُ إلا نوح وعشيرته في الفلك، وذكر بيروسوس أنه قام عقب هذه الحادثة ستة وثمانون ملكًا من الكلدان، ثم قدم أزدرخت المادي بجيوشه إلى بابل، فأخذها واستباحها بالنهب سنة ٢٢٨٩ قبل الميلاد، وكثير من هذه الأقوال وما أشبهها وإن وثق بصحته بعض من تقدم من المؤرخين مدفوع عند أهل التحقيق على ما أسلفنا ذكره، والمعتمد من ذلك كله إلى هذا الأوان ما سنذكره في هذه الرسالة إن شاء الله تعالى، وهو سبحانه أعلم.