الكلام على سكان بابل الأولين
قد أشرنا فيما سلف إلى ما وقع من الوهم والشطط في تاريخ البابليين والآشوريين وما كان من مبادئ أمرهم، وأن معظم ما دب في تاريخهم من فساد الروايات وتعارض الأنباء إنما نشأ من قبل كتاب الفرس، وعنهم نقل اليونان ما نقلوه من الأخبار المدخولة والأقاصيص الموضوعة.
وكانت بابل فيما تقدم من تاريخها مجمعًا لأمم من الناس وأجيال شتى قد تباينت أصلًا وعادات، وكان الملك يخاطبهم بقوله: أيها الشعوب والأمم والألسنة، على ما هو وارد في سِفر دانيال عليه السلام (ص٣) وكان لكلٍّ من أولئك الأجيال سِيَر وأحاديث يروونها فيما بينهم ويتناقلونها خلف عن سلف بعضها له أصل كالنواة من الشجرة، وبعضها مختلق رأسًا، وشاعت هذه الحكايات بينهم حتى تأصلت في أذهانهم، ومرور الأيام يلقي عليها ظل الصدق ورونق الصحة، حتى اعتقدوها من الأمور الواقعة ودونها مؤرخو الفرس في مصنفاتهم على ما قدمناه، وأثبتوها فيما أثبتوه من وقائع تاريخهم، فالتبس صحيحه بفاسده وكثرت فيه الخرافات والأساطير وذهب فيه الخلل كل مذهب. ذلك مع شدة إمعان أولئك الأقوام في القدم وكثرة ما لهم من الدول والانقلابات والوقائع والأخبار المختلفة والأحوال المتشعبة، مما أفضى إلى اضطراب في تاريخهم وارتباك لا مزيد عليه، وألجأ أهل البحث إلى معالجة الحرف المسماري ومزاولة قراءته، حتى وُفِّقُوا إلى حله فوجدوا كثيرًا من تلك الحقائق مسطرًا على الآثار من الحجارة والآجُرِّ وغيره، وحينئذ انجلى لهم كثير من تلك الغوامض على ما أسلفنا ذكره، ومع ذلك فإن هذا الفوز العظيم والفتح الجليل لم يكن وافيًا بما كان يُتوقع وراءه من النتائج الكبيرة، فإنهم استوضحوا به أشياء، وبقي من دون ما استوضحوه مشاكل جمة ومعميات شتى لم يهتدوا إلى جلائها وكشفها، ولا وجدوا ثَمَّ ما يسفر عن أولية أولئك الأقوام وأصل نشأتهم، مما لا يزال مستورًا تحت ظل الإبهام مكتومًا في صدور الأيام.
وقد تقدم أن بيروسوس الكلداني في عهد الإسكندر كان قد دوَّن تاريخًا للكلدان، أبان فيه عن شئونهم وتاريخ ملوكهم وما لهم من الوقائع والآثار أخذه عن ألواح السجلات التي كانت في هيكل بعلوس، وقد ذهب هذا السفر الثمين في جملة ما ذهبت به الأيام فلم يبقَ له عين ولا أثر، بَيْدَ أنه يستفاد مما تناقله عنه المؤرخون أنه ابتدأه من ذكر الخليقة وما طرأ وراء ذلك من الأخبار، وأنه عدَّد عشرة من الملوك تداولوا زمام السلطنة من لدن الخلق إلى الطوفان وكانت مدة ملكهم جميعًا ٤٣٢٠٠ سنة، ولا يغرب أن يكون هؤلاء العشرة هم الآباء العشرة المذكورون غير مرة في الكتاب من آدم إلى نوح، كان بيروسوس وجُمَّاع الكلدان يعتبرونهم من ملوكهم وسموهم بأسمائهم المدونة في السجلات المذكورة، وسيرد مزيد تفصيل لذلك في الكلام على عقائد البابليين.
ثم إن عامة المحققين من أصحاب التاريخ على أنه لا يصح خبر من أخبار الأمم الأولى إلا بعد أن تمثَّلت تلك الأمم ممالك وتحيَّزت شعوبًا وقبائل، وما قبل ذلك من أحوالهم وشئُونهم فمما لم يبقَ إلى معرفته سبيل، وأول مملكة ظهرت في العالم وذُكرت في مصاحف التاريخ مملكة نمرود التي ورد الإيماء إليها في الفصل العاشر من سفر الخليقة، ولم تكن إذ ذاك إلا أربع مدن وهي بابل وأرك وأكد وكلنة، وقد سلف الكلام على هذه المدن في محله، ونمرود هذا هو ابن كوش بن حام بن نوح — عليه السلام — وكان رجلًا جبارًا مولعًا بالصيد كما يصفه في الموضع المشار إليه، وفي أحاديث اليهود أنه كان ملكًا عاتيًا على الله تعالى، وأنه هو الذي بنى برج اللغات المعروف ببرج بابل، والعرب تقول إنه ألقى إبراهيم الخليل في أتون النار في خبر ليس هذا موضعه، وهو عندهم مضرب مثل في الظلم يقولون أظلم من نمرود، وينسب إلى نمرود أشياء كثيرة تضاف إلى اسمه منها مدينة نمرود وبرج نمرود وأخربة نمرود، وقد مر ذكرها، ومنها أصنام هائلة نقلها الإفرنج إلى بلادهم تُعرَف بأصنام نمرود إلى غير ذلك.
وفي روايات المتقدمين أنه بعد وفاة نمرود خلفه على المملكة ابن له يقال له أويخوس، وكان أول من نصب صنمًا وعبده وسنَّ عبادته في رعيته، وكانت وفاته في أواخر القرن السابع والعشرين قبل الميلاد، وقام بعده ملك يُسمَّى خوماس فتأَلَّه في قومه وعبدوه واستمرت عبادته فيهم بعد موته، ولما هلك تولى بعده بوراو بونغ، واسمه فيما ذكروا محرف عن بعل بيور وهو أحد آلهة الكلدان. ثم عقبه في الملك نيخوبيس وعقب نيخوبيس أبيوس ثم أنيبال ثم خنزيروس وفي عهده دخلت العرب بابل. انتهى باختصار، وهي أخبار لا يُعتَمد عليها في راجح الرأي وفي الآثار ما يعارضها وينقضها؛ ولذلك قد أجمع أرباب البحث على أن كل خبر روي عن بابل قبل أورخامس غير حريٍّ بالوثوق ولا بارز عن ظل الشبهة؛ لأنهم بعد استغراق ما أوصلهم إليه البحث من كتابات الآثار وجدوا أن أقدم ما سُطِّر عليها لم يتخطَّ عهد أورخامس المذكور، ونحن نبدأ هنا بذكر تاريخه، ثم نتطرَّق إلى ذكر من اشتهر بعده على التوالي، وما بين ذلك من الحوادث الخطيرة والوقائع المشهورة، فنقول:
كان أورخامس من الملوك النمروديين من ولد نمرود المقدَّم ذكره، وأورخامس — أو أورشامش — لفظة كلدانية معناها نور الشمس، وقد ثبت بعد البحث والنظر في الآثار أنه السابع من هذه الدولة، وهو أول من نقش اسمه على حجر ابتغاء الفخر وبقاء الذكر على الأبد، ويُستفاد من بقايا مدينة أور أنه هو الذي بنى سورها وشيَّد فيها الهرم العظيم الذي ذهب بعض الناس إلى أنه برج البلبلة على ما أسلفنا الكلام عليه، وفيما قرَّره بعض الباحثين أن أورخامس هو أول من اتخذ أور دارًا للملك، وليس بثبت عند المحققين، ولكن لا خلاف في كونه هو أول من جعل لها شأنًا وفخامة وساق إليها من الثروة والعمارة ما فاقت به أشهر المدن في ذلك العهد، وحصَّنها بالسور على ما قدمناه وزينها بكثير من المباني الضخمة والهياكل الأنيقة، وفي جملتها قصر اختصَّه لسكناه لا تزال جدرانه ماثلة لهذا اليوم، وعلى أحدها صورة تشخِّصه ليس من ذلك العهد صورة أبدع منها صنعًا، وهناك كتابات تشهد بأنه هو باني القصر وفيها بيان كثير من شهير أعماله، ولأورخامس في غير أور أبنية أخرى تُعزَى إليه منها هيكل لمعبود النار في لارسان، وآخر مثله في صفيرة وهيكلان في نيبور أحدهما لإله الأفلاك، والآخر لتاءُوث أم الآلهة، وهي أشهر ما وجدوه من الأبنية موسومًا باسمه، وكل هذه المباني على ما كانت عليه من الضخامة والعظم لم يأتِ عليها إلا قرون قلائل حتى رثَّت قواعدها وتمزق قائمها خلافًا، لما كانت تتوهم عليه في بادئ الرأي من الصلابة والقوة بالقياس إلى ما يعهد من أبنية ذلك العصر ومصنوعاته؛ فإن هيكل لارسان منها كان في عهد بورنبورياس أحد أعقاب كدرلاعومر قد اندكَّت أركانه وتداعت جدرانه، فجدَّد هو بناءه على رسمه الأول وردَّ إليه قديم رونقه، كما يُستفاد من كتابة له عليه وبين برنبورياس وأورخامس مدة لا تزيد على ستة قرون.
ولما انقضى عهد أورخامس قام بالملك بعده ابنه أيلغي وله ذكر في بعض الآثار يفيد أنه أتمَّ بناء هيكلٍ بأور كان قد شرع في بنائه أبوه أورخامس، وبعد أيلغي ملك ساغركتياس وكان سريره بصفيرة، ومن أبنيته فيها الهيكل الذي تقدم الكلام عليه عند ذكر هذه المدينة، وقد قدمنا هناك أنهم وجدوا في جملة ما كان في هذا الهيكل آنية من المرمر عليها اسم نارام سين أحد أعقاب ساغركتياس المذكور، وأوردنا الدليل على أن ساغركتياس هذا كان من خلفاء أورخامس الوارثين الملك عنه إرث الولي، ونقول هنا إنه لا يُستبعَد أن تكون أكثر الآثار التي وجدت موسومة بالأسماء المقرونة بسين كأيرسوسين وريم سين وسين هابال، إنما كانت في هذا الموضع وما يجاوره، وأن أصحابها كانوا من ولد كوش من خلفاء أورخامس وساغركتياس، بدليل أن عبادة سين كانت في بني كوش أعرق وأقدم، وهم الذين بثوها في أمم ذلك العهد؛ لأنهم كانوا كلما افتتحوا إقليمًا وتغلَّبوا على شعب تركوا فيهم عصابة منهم تؤَيِّد أمرهم وتبثُّ ما لهم من عادات وعبادات، فيبقى فيهم أثر ذلك الفتح على الأبد، وهذا معلوم من شأن المتقدمين من الآشوريين والمصريين وغيرهم.
وأول مرة افْتُتِحت بابل في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد على يد أزدرخت المادي استفتحها عَنْوَةً بعد حصار عنيف، ولما دخلها فتك في أهلها فتكًا ذريعًا ومثَّل بهم تمثيلًا شنيعًا وركب فيهم من العسف والجور ما لم يسعهم معه الصبر، فلجئُوا إلى مهاجرة البلاد فرارًا بأنفسهم وخرجوا هائمين على وجوههم، وكان من حديثهم بعد ذلك أنهم تألبوا يدًا واحدة وجعلوا دأبهم العيث في الأرض، لا يدخلون قرية إلا وطئوها واستباحوا أهلها وأرزاقها، حتى بلغ معظم سوادهم إلى الديار الشامية، فأنزلوا بها البلاء وفشا فيها القتل والنهب والسبي زمانًا. ثم زحفوا إلى مصر وقد كَثُفَ لفيفهم بمن انضمَّ إليهم من نواحي الشام من أسارى وغيرهم، ونفروا في عرض البلاد وشأنهم ما ذُكِرَ حتى انبثَّ شرهم وتفاقم أمرهم. فأجفل لهم المصريون إجفالًا شديدًا وتأهبوا لقتالهم، فكانت بين الفريقين وقائع عديدة تواترت أزمانًا، وكثرت فيها الدماء من الجانبين حتى عجز المصريون عن كشفهم وأجلت عاقبة الأمر عن استيلائهم على معظم بلاد مصر قهرًا، ولما استقرت قدمهم هناك ثقلت وطأتهم على البلاد وتمادوا في الظلم والفساد، وبقي ذلك أمرهم مدة خمسمائة سنة أو تزيد إلى أن كان عهد توثمس المصري، فعمد فيهم إلى الحيلة وعمل على تفريق كلمتهم، فقسَّمهم أحزابًا ثم جعل يواقع كل فئة على حدتها حتى بدَّد شملهم وفرَّق سوادهم وأجلاهم عن أرض مصر. ا.ﻫ.
ولفتح أزدرخت المذكور شهرة عظيمة بين المؤرخين، وهو النكتة المعتبرة في تاريخ الكلدان؛ فإن كل حادثة ذُكِرَت في مصنَّفاتهم عقيب هذا الفتح وُجِدَت طباق ما هو مسطَّر في تواريخ غيرهم من أمم ذلك العهد خلاف دأبهم من قبل ذلك، فإنهم كانوا يجازفون في تقرير الوقائع ما شاءوا حتى كانوا يزيدون على سني ملوكهم قبل الطوفان زيادات فاحشة على ما مرت بك مُثُلُه، بحيث لو جُعِلَت كل سنة من تلك السنين يومًا لبقيت أعظم من أن يحتملها التصديق.
وفي القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد دخلت بابل في حوزة العيلاميين، واستقر على سريرها منهم اثنا عشر ملكًا، وكانت مدتهم جميعًا خمسين سنة أو دونها، ومن هنا يرجح في الظن أنهم كانوا بعد استيلائهم على تلك البلاد قد اقتسموها بينهم دفعًا للمشاحَّات، فكان يملك منهم أكثر من ملك في آنٍ واحد، ولعلَّ فيما ورد في الفصل الرابع عشر من سفر الخلائق ما يُستأنس منه بصحة هذا الرأي، فإنه يذكر هناك عدة ملوك كانوا في ذلك العهد متملكين على البلاد الكلدانية، وفي جملة أولئك الملوك كدرلاعومر وأريوك، وفي الآثار ما يُستبان منه أن كليهما كانا من الملوك العيلاميين الذين ملكوا في تلك البلاد.
ثم إنه يتخلَّص من آراء أهل البحث أن هذه الطائفة هي التي وضعت الحرف المعروف بالأناري الذي كان عليه مصطلح الكلدان قبل الحرف المسماري؛ لأن هذا لم يكن معروفًا قبل القرن العاشر قبل الميلاد على ما سنبينه بعدُ، وكان أشهر هؤلاء الملوك كدرلاعومر إلا أنه لم يُذكَر له على الآثار من عظائم الأعمال ما ذُكِر لغيره من الملوك ممن لا يضاهيه شوكة وإقدامًا، ولا يدانيه في كثرة الغزوات وتوسيع الفتوحات على ما هو مبين في الموضع المشار إليه من سفر الخلائق، وملخص ما جاء هناك أن خمسة من ملوك ذلك العهد، وهم ملك سدوم وعمورة وملك أدمة وملك صبوئيم وملك بالَع، كانوا تحت إمرة كدرلاعومر ملك عيلام، ودانوا له مدة اثنتي عشرة سنة ثم عصوه وامتنعوا من طاعته، فزحف كدرلاعومر لقتالهم ومعه ثلاثة ملوك آخرين وهم ملك شنعار وملك أَلاسار ملك الأمم، فواقعوهم في غور السديم فانهزم ملكا سدوم وعمورة وتشتت من يليهم من أوليائهم وعاد كدرلاعومر وأصحابه بالغنائم والسبايا، ولكدرلاعومر وقائع غير هذه مع الرفائيين والزوزيين والأيميين والحوريين والعمالقة والأموريين غزا أولئك كلهم في بلادهم، وظهر عليهم، وتتمة تفصيل ذلك في موضعه.
أما الزمن الذي ملك فيه كدرلاعومر فلا سبيل إلى معرفته على التعيين، ولكن لا شك أنه كان في القرن العشرين قبل الميلاد، وهو القرن الذي كان فيه إبراهيم الخليل — عليه السلام — لأن كدرلاعومر حين كسر ملكي سدوم وعمورة ومن معهما كان في جملة من أسره لوط ابن أخي إبراهيم وكان نازلًا بسدوم، فلما بلغ ذلك إبراهيم نهض في ثلاثمائة رجل من حشمه واستنقذ لوطًا ومن معه من يد كدرلاعومر، وأما كون ذلك القرن هو القرن العشرين، فمقرَّر بشهادة الآثار لأن أهل التوقيت في تلك العصور كانوا يؤرخون من إحدى غزوات كدرلاعومر، كما ورد على بعض الآثار لآشور بانيبال ما معناه: إني استفتحت سوزا ودمَّرتها في القرن الثالث عشر لغزوة كدرلاعومر. ا.ﻫ. وكان آشور بانيبال في القرن السابع قبل الميلاد؛ ولذلك شواهد أخرى لا نطيل باستيفائها.
وفي أواخر القرن العشرين أخذت دولة العيلاميين في الانحطاط إثر الوقائع المتواترة بينهم وبين الكلدان وتوالي الاجتياحات عليهم، حتى تقلص ظل سطوتهم ووهت أيديهم عن ضبط أزِمَّة المملكة، وحينئذ استتبَّ الملك للكلدان فنهضوا بأعباء الدولة أتمَّ نهوض وجدَّدوا ما طمس لهم من آثار العزة والصولة، واستقرت أيامهم أربعمائة وثماني وخمسين سنة وملك منهم تسعة وخمسون ملكًا. فانبسطوا أثناء ذلك في البلاد وامتدت شوكتهم في الآفاق وقهروا كل من ناوأهم من الأمم حتى دوَّخوا تلك الأقاليم بأسرها، ومن ثمَّ اشتهرت دولتهم وغلبت أشعتها على كل دولة كانت قبلها في تلك الأنحاء، فلم يُعرَف إلا الدولة الكلدانية.
وأوَّل مَنْ يُعرَف من هذه الدولة إسمي داجون ومعنى اسمه داجون يستجيب وهو اسم إله سيذكر. كان إسمي داجون من أشد ملوك الكلدان بأسًا وأمضاهم صريمة وأكثرهم غزوات ووقائع، وكانت في يده مقاليد السياسة والدين معًا، وانتشبت بينه وبين الآشوريين معارك شديدة كانت العاقبة فيها له، فأخضعهم لسطوته وفرَّق الأحزاب وقمع كل من عانده، حتى دانت له جميع الأمصار الآشورية والكلدانية كما دانت لبختنصَّر من بعده، وكان مقامه تارة بأُور عاصمة بابل وتارة بإيلأَسر عاصمة آشور، ومن أبنيته فيها هيكل لأُوَانَّس كشفته الفرنج من عهد غير بعيد، وفي أيامه بلغت رعيته أعظم مبلغ من الثروة والنعيم وتناهى حالها في المعارف والفنون، وكثرت عنده أسباب القوة والمنعة وامتدَّت شوكته إلى أبعد الأقطار، حتى إن مانيثون المصري المؤرخ يقول في جملة كلام له ما صورته: وتخوَّف نوبتي ملك مصر من بأس يفاجئه من نواحي الفرات فيدهم ثغره، فجدَّ في التحصين واتخذ لنفسه الأُهبة وشحن الحصون بالرجال. ا.ﻫ. ونوبتي أحد ملوك الرعاة وكان معاصرًا لإسمي داجون، وأما زمن تملكه فقد توصَّل الباحثون إلى معرفته من كتابة وجدوها لتغلث فلأَسَر الأول ذكر فيها عن نفسه أنه جدَّد بناء هيكل أوانَّس المذكور في السنة الأولى بعد السبعمائة من بنائه الأول، وكان تغلث فلأسر في خلال القرن الثاني عشر قبل الميلاد، فيكون عهد إسمي داجون في خلال القرن التاسع عشر.
وتُوُفِّيَ إسمي داجون عن ولدين ملكًا من بعده يُسمَّى الواحد كُنْعُون والآخر شمسي، غير أنه لا يُعلم أيهما كان الأسبق في الملك، وليس لهما من الآثار ما هو حقيق بالذكر، وممن اشتهر من أعقابهما همُّورابي، وهو أول من تُروَى أخباره عن يقين أخذًا عن كتاباته على الآثار، وكان معظم همه موجهًا إلى تشييد المباني واتخاذ الهياكل والقصور، وقد وجد الباحثون من أبنيته آجرًّا ضخمًا يقول على واحدة منه ما ترجمته أن ميليتا الزاريَّة ربة الماء والأرض والهواء والنار وإلاهة الفلك هي سيدتي. أنا همُّورابي صفيُّ آنو وبعل إيل ووليُّ الشمس الراعي الأمين الذي انشرح به صدر مَرُودَخ الجبار. أنا خليل الإلاهة ميليتا الملك القدير ملك بابل وملك السوميريين والآكديين المتسلَّط على الأمم كافة. ليُكتَب أن الآلهة قد ائتمروا وملَّكوني على هذه الأمم، وقد فعلتُ كل ما أحبَّت ميليتا التي خوَّلتني الملك، وسننتُ على الناس عبادتها كما شاءت، وشيدتُ لها هيكلًا في زاري المدينة المخصوصة بعبادة آكاني، وجعلتُ هذا الهيكل مقدسًا ومعبدًا لكل أقطار المعمورة وهو مِلاك مملكتي. ا.ﻫ.
وكان مقام همُّورابي بأُور عاصمة المملكة ثم تحوَّل منها إلى بابل، وفيها كان معظم أبنيته، وله في غيرها مبانٍ أُخَر اشتهرت بفخامتها وحسن رونقها، وهو الذي حفر ببابل الترعة العظيمة التي كان له بها جليل الفخر وحميد الذكر، وقد وُفِّق أهل البحث إلى وجدان آجرَّة من جدران الترعة قد نُقِش فيها: أنا همورابي القدير ملك البابليين الضابط لأزِمَّة الأقطار الأربعة — يعني بابل وأرك وآكَّد وكلنة — القاهر كل مناوئ لمرودخ إلهي ونصيري. إن الإلهين بينًا وبعل إيل قد قلَّداني الملك على أُمَّتَي سومير وآكَّد وأفعما يدي بجِزَى هذه الطوائف، وقد كريت نهر همُّورابي الذي هو سعادة البابليين وبلغتُ به إلى أرض السوميريين والآكديين، فأمرعت به الفلوات القحلة وكل بقعة لا ماء بها أفضت عليها معينًا عدًّا، وأجريتُ للسوميريين والآكديين مناهل لا تنقطع، فجعلت لهم في المدائن والدساكر قرارًا خصيبًا، وأنشأت لهم من البلقع الغامر مروجًا رائعة وخمائل يانعة وناديتهم أقيموا في الرغد والخصب، فهذه أرضكم أرض ريع وهناء. أنا همورابي الملك الهمام خليل الإله الأكبر، إني وفاقًا لما أوعزَ به إليَّ مرودخ الإله القدير قد شيَّدتُ عند مُنفَجر نهر همورابي أُطُمًا شامخ الرأس وشحنته بالبروج العظيمة التي هي أمثال الجبال الشواهق، وسمَّيتُ هذه الأُطُم دور أمُّوبانير — أي أُطُم أمُّوبانير — باسم الأب الذي نزلتُ من صلبه، وجعلت هذه الأمصار مباءة لي تخليدًا لذكر أموبانيرابي. ا.ﻫ.
ولما انقضى عهد همورابي تداول سريره ملوك كثيرون قد اشتبهت أسماؤهم وتداخلت أنباؤهم، فتعذر تخليص بعضها من بعض، ولذلك أضربنا عن تتبُّع أخبارهم لقلة جدواها وعدم مصيرها إلى حقيقة قاطعة، وفي عهد أولئك الملوك أخذت دولة الكلدان في الانحطاط والانحلال وزحفت عليهم الجيوش المصرية، فكانت بين الفريقين وقائع متواترة نحو قرن من الدهر، وذلك من سنة ١٦٦٥ قبل الميلاد إلى سنة ١٥٥٩، وكان المصريون في هذه البرهة كلها منبثِّين في مملكة الكلدان لا تخلو من شراذم منهم يسطون في البلاد ويعيثون في أهلها، إلى أن وفد توثمس الأول أحد مشاهير ملوك مصر إلى كركميش في السنة المذكورة وعبر الفرات برجاله وزحف على بابل، فنازلها وألقى الحصار على بروجها، فاستفتحها عَنْوَةً ودخلت البلاد في طاعته ولبثت تؤدي الجزية، ولما توفي توثمس تمرَّد الكلدان على ملوك مصر ونبذوا طاعتهم حتى كان عهد توثمس الثالث، فجدَّد عليهم الغارة وزحف بجنوده حتى أتى بابل فحاصرها وأخذها وأثخن في أهلها وانصرف عنها ظافرًا، وعند انصرافه ولَّى عليها من يثق به من أهلها بعد أن أخذ عليه العهود والمواثيق، فما زال الأمر فيها للفراعنة من بعده يولُّون عليها من شاءوا إلى سنة ١٣١٤ قبل الميلاد، فكانت مدة ولايتهم على بابل وما يليها مائتين وخمسًا وأربعين سنة، وكانوا في هذه الأحقاب كلها يأتون بأولاد الولاة الذين يولُّونهم بابل إلى مصر فيلقِّنونهم عقائدهم من الدين ويؤدبونهم بآدابهم وعاداتهم، حتى إذا توفي أحد آبائهم أنفذوا من أعجبهم منهم فعقدوا له مكان سالفه كما هو مقرر في الآثار المصرية، وكان إذا تمرد أحد هؤلاء الولاة وأبى حمل الجزية إلى مصر خلعه الفراعنة عن خطته وقلَّدوا الأمر من هو أهل له. فأصبح ملوك بابل من خلفاء همورابي وإسمي داجون لا يملكون إلا على أعمال بابل فقط، وصاروا في منزلة ملوك نينوى وسنجار وأيلأَسر، وكان عدد من ملك من البابليين تحت إمرة الفراعنة تسعة ملوك ذكر بيروسوس أنهم من أصل عربيٍّ، غير أنه لا يُعلَم هل كانوا من نفس العرب سكان الجزيرة أم من أهل سورية والكنعانيين؛ لأن اسم العرب كان يُطلَق قديمًا على كل من كان عربيَّ المنطق، وكانت العربية إذ ذاك شائعة في أقطار آسيا الغربية كلها، والذي في رأي أكثر المحققين أنهم كانوا من العرب السوريين بدليل عبادتهم لسُوتَخ، وهو من الآلهة التي لم تُعرَف إلا عند السوريين.
ويُذكَر في جملة من وَلِيَ بابل من ملوك العرب ثلاثة ملوك: أحدهم يقال له بورنبورياس، والثاني كراهرداس، والثالث نزيبوكاس، وهم الذين أضرموا نيران الحرب بين بابل وآشور، فلم ينطفئ سعيرها حتى أخضعهم تغلث سمدان سنة ١٣١٤، واستخلص المملكة من أيدي الفراعنة على ما سبق الإلماع إليه، فانثلَّت عروشهم وتبددوا في الأرض، واستعمل سمدان على بابل رجلًا من أصحابه واستمرَّت بابل تحت إمرة الآشوريين يتعاقب عليها الواحد بعد الآخر إلى منتصف القرن الثاني عشر، فنهض واحد من الكلدان يقال له بين بلأدان، وحشد جموعًا كثيرة وزحف على آشور، فواقعها وظهر عليها ورجع عنها ظافرًا غانمًا، فاعتزَّ شأنه وارتفعت كلمته ونفذ سلطانه في الأقاليم الكلدانية كلها، ولما تمهَّد له أمر الملك أقبل على تحصين بابل وعززَّهَا بالأسلحة والرجال وبنى على مدينة نيبور سورًا سماه نيويت مرودخ، وفي تلك الغضون توفي ملك آشور الذي كانت الواقعة بين بلأَدان وبينه، فقام بالأمر بعده آدار بلأَسَر، فجيَّش جيوشه وخرج لقتال بلأَدان فاستعرت بينهما الحرب، واتفق في تضاعيف ذلك أن توفي بلأَدان وتوفي آدار بلأَسر أيضًا دون أن يتوجه الفوز لأحدهما، فخلف بلأَدان نبوخذرصَّر وقام مكان آدار بلأَسَر آشور زيسي وقامت معهما الشرور والفتن، وما زال دأبهما ذلك حتى هلكا كلاهما في حديث قد ذهبت عنا تفاصيله فاقتصرنا منه على ما أوردناه.
ولما كانت سنة المائة والألف قبل الميلاد وفد مرودخ دنياكي الكلداني على آشور بجموعه وأقام الحصار على هيكالي فدمَّرها عن آخرها، وكان على آشور إذ ذاك تغلث فلأَسَر وكان ملكًا عالي الهمة شجاعًا فاتكًا، فألَّب جيشه وبرز لقتال دنياكي فالتحمت الحرب بين الفريقين زمانًا حتى كانت الغلبة لآشور، فولى جيش الكلدان أدبارهم بعد أن قُتِل منهم خلق كثير وكانت آخر نوبة زحفوا فيها على آشور إلى أن نهض بعليزيس الكلداني وتحالف مع أرباش الماديِّ وجيَّش على نينوى، فأخذها عَنْوَةً وتركها قاعًا صفصفًا وذلك سنة ٧٨٨ قبل الميلاد، وقد أسلفنا طرفًا من هذه الواقعة في القسم الأول من الكتاب، وسنعود إلى تفصيلها إن شاء الله تعالى.