ذكر الدولة الآشوريَّة الأولى
أما تاريخ الدولة الآشورية فلم تزل أوائله غائبة تحت ظلمات الإبهام لا يكاد يُوقَف منها على حقيقة يوثق بها، ولا سيما ما كان منها بعيد العهد في أزمان نشأتها، وقد تباينت أقوال المؤرخين في مؤسس هذه الدولة ومشيد أركانها الأول، فمنهم من قال إن نمرود هو أول من أسس مدينة بابل، ثم خرج إلى نينوى فبناها، وقد سبق لنا كلام في هذا المبحث عند ذكر مدينة نينوى يغني عن التكرار هنا.
وذهب غيرهم إلى أن باني نينوى هو نينوس، بدليل تسميتها وظاهره غير بعيد من الصحة لولا معارضة النصوص له كما ورد في سفر الخليقة من أن بانيها آشور بن سام على ما أسلفناه هناك، وأكثر أرباب البحث في هذا العصر على أن بانيها مجهول أو أنه لا يتعيَّن لها بانٍ بعينه، وإنما هم جماعة من أهل تلك الأرض ضربوا فيها مساكنهم، ثم أخذوا يشيدون فيها المباني شيئًا بعد شيء وتوطنوها، وجعلت العمارة تتزايد فيها كلما تكاثر أهلها واتسعت أرزاقها شأن غيرها من سائر الأمصار.
قلت: والأظهر أن أولئك القوم كانوا شرذمة من الكلدان نَبَتْ بهم أوطانهم فخرجوا إلى تلك الأرض، ولما استقروا في موضع منها ولوا أمرهم رجلًا منهم لقَّبُوه بآشور، وهي كلمة بمنزلة القيل عند العرب، ثم أخذوا في بناء هذه المدينة وآووا إليها وتداولوا ملكها، وكان من أمرها ما نحن فيه. يشهد لذلك أنا نرى أكثر الأشياء التي تواطأ عليها الآشوريون من نحو العقائد والعوائد واللغة وأشكال الأبنية وغير ذلك هي نفس ما عند الكلدان، ولا نرى كذلك بقية الأمم المتجاورة فإنها إن لم تكن ذات أصل واحد لم تكد تتوافق إلا في الشيء القليل مما لا يقضي بينها بهذا الحكم، وفي هذا الرأي موافقة لمقال مؤرِّخي الكنيسة من أن آشور وقومه لبثوا زمانًا مخالطين للبابليين في أرض الكلدان، ثم فارقوهم لظلم أحسوا به أو استقلال سموا إليه، فصحَّ أن أصل الآشوريين كلدانيٌّ استدلالًا ونقلًا، والله أعلم بالصواب.
ثم إن نص الكتاب لا يورد من هذا القبيل إلا لُمعة خفيفة، وبقي تاريخ أعقاب آشور وما آل إليه أمرهم في تقلُّب ملكهم كل ذلك مجهولًا إلى هذا العهد، وقُصارَى ما يُعلَم من شأنهم أنهم أفضى بهم حِوَل الدهر إلى الوقوع في قبضة ملوك الكلدان، إلا أن هذا النبأ عارٍ عن التفاصيل غُفلٌ من بيان علل سقوطهم وتاريخ انحلال ملكهم وتوقيت الزمان الذي لبثوا فيه تحت إمرة الكلدان إلى حين خروجهم من ربقتهم، وقد يُستخلَص مما ذكره الكتاب من أن الله جل وعلا لما أراد عقاب بني إسرائيل على معصيتهم أسلمهم إلى كوشان رشعتائيم ملك أرام النهرين، أن الآشوريين كانوا في ذلك العهد تحت ربقة الكلدان؛ لأنهم لو كانوا مستقلين في ملكهم لأسلم بني إسرائيل إليهم لينفذوا فيه نقمته، كما كان من شأنه تعالى أن يسلطهم عليهم كلما أراد نكالهم على ما سنبينه في الكلام على أسرحدُّون وشلمنأَسَر وبختنصَّر وغيرهم، ومهما يكن من ذلك فالذي يُفهَم من روايات المؤرخين أن الآشوريين مضى عليهم القرن الثامن عشر والسابع عشر والسادس عشر قبل المسيح، وهم في قبضة الكلدان يذوقون من أنواع الذل وأصناف الجَوْر ما لا طاقة لهم به، حتى ضاقت صدورهم وعيل اصطبارهم، فأخذوا يجهدون في التملص من أيديهم، حتى إذا كادوا يظفرون بالنجاة انقضَّت عليهم جيوش مصر فأذاقتهم البلاء وسامتهم الخسف والرق، وما زالوا في مثل تلك الحال من ضغط المصريين عليهم وغزوات البابليين لهم ممن كانوا يلون تحت إمرة الفراعنة على ما سبق الإيماء إليه حتى انتهى القرن الخامس عشر، ثم تلاه القرن الرابع عشر فنهض في أوائله رجل منهم من أهل الشدة والنجدة يقال له نينيب فلأَسَر، وهو تغلث سمدان المقدم ذكره قبيل هذا، فصاح في قومه الآشوريين وجرَّد منهم خلقًا لا يحصى وزحف بهم على بابل، فنازلها وحاصرها حصارًا شديدًا إلى أن افتتحها عَنْوَةً سنة ١٣١٤ وأباد أهلها قتلًا وأسرًا.
ونينيب فلأَسر هذا هو الذي يسميه الفرس بنينوس، ويجعلون سميراميس زوجته في حديث طويل نلخصه هنا عما رواه أكتزياس طبيب أرتكزرسيس ملك فارس عن السجلات التي كانت في بلاط الفرس بفرسبوليس على ما سلف بيانه في أوائل الكتاب، وعن أكتزياس هذا أخذ أكثر المؤرخين، ومن تاريخه فيما نحن فيه ما رواه ديودوروس الصقلي من كلامٍ يقول فيه ما معناه: ولما انحطَّت أحوال البابليين إثر المواثبات التي وقعت ببابل أيام دخلتها العرب نهض نينوس الآشوري لإنقاذ قومه من ربقة الذل، فشرع في حشد الجنود وجمع الأقوات واتخاذ العُدَد وزحف بجيشه إلى بابل، فامتلكها بعد حصار عنيف وأثخن في أهلها وقتل ملكها وحبس امرأته وبنيه وبناته وسائر من ينتمي إليه. ثم انصرف عنها فعطف على أرمينية وفي عزمه أن يُنزِل بها ما أنزله ببابل، فازدلف إليه ملكها بما عنده من أصناف الكنوز والذخائر الكريمة، فتقبَّلها نينوس من يده وانصرف عنه راضيًا. ثم مضى بجنوده إلى مادي، وكان عليها يومئذٍ ملك جبار من أرباب الصولة والبأس فأَنِفَ من التسليم إلى نينوس والانقياد لطاعته، فواقعه نينوس وقهره ثم قبض عليه وصلبه، وبقي نينوس على مثل تلك الحال نحوًا من سبع عشرة سنة يغزو في البلاد ويفتح الحصون والمعاقل ويدمر الأسوار والمدن، حتى استولى على جميع البلاد الواقعة ما بين البحر المتوسط وبحر الخزر ونهر الهند وخليج فارس. قال ولما قفل نينوس إلى بلاده بالغنائم والسبايا همَّ بابتناء مدينة يجعلها مباءة له ولأعقابه لا يقع في الإمكان أن يكون لها مثيل على تراخي العصور وتوالي الأحقاب، فأقام فيها الأبنية ورفع عليها سورًا منيعًا شيَّد عليها بروجًا باسقة الارتفاع، ونادى بالناس إلى سكنى المدينة فاجتمع إليها ألوف من الرجال والنساء من أشراف الناس وصعاليكهم، وتواردت إليها أسباب الثروة والعمران، فما لبثت إلا زمنًا يسيرًا حتى صارت لا تدانيها مدينة في الأرض.
قال وبعد أن تم بناء السور هبَّ نينوس للمسير فجنَّد جنوده وارتحل بهم إلى بقتريا عاصمة بقتريانا، وكان قد قصد هذه المدينة من قبل وأضرم عليها لظى الحرب زمنًا، ثم تراجع عنها عن عجز وخسران، فلما عاد إليها في الكرة الثانية لبث تحت أسوارها أمدًا طويلًا حتى ضعف رجاؤه في النصر وتخوَّف أن يفرغ مِن عنده الزاد، فتكون في ذلك هلكته وفناء جيشه. فحدث في تلك الأيام أن الإله الكبير أنفذ إلى نينوس امرأة قائد من قواده اسمها سميراميس فأشارت عليه بحيلة يتمكن بها من الاستيلاء على المدينة، ففعل فانفتحت له أبواب البلد ودخلها ووضع السيف في أهلها فتعزَّز سلطانه وقويت شوكته في سائر الأقطار، ومذ ذلك الحين هام نينوس في حب سميراميس وكلف لها كلفًا لا مزيد عليه، وعلم بذلك بعلها القائد ورأى أنه لا يقوى على مقاومة الملك ولا يصبر عن امرأته، فخنق نفسه ومات شر ميتة، فوقع موته عند نينوس أشهى موقع، ولم يلبث أن أمر فَعُقِدَ له على سميراميس وتزوَّجها. انتهى بتصرف.
وممن اشتهر من ملوك آشور تغلث فلأَسَر المقدم ذكره قُبَيل هذا، وَلِيَ الملك في أواخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وهو السابع من أعقاب نينيب فلأَسر، وله على الآثار ما يشهد بأنه كان من جِلَّة ملوك آشور الموصوفين بالإقدام وكثرة الغارات ووفرة العمارات، ومن عهد غير بعيد وُجِد له أثر في أخربة كالح شرعات قد سُطِّر عليه تاريخ فتوحه فيما ينيف على سبعمائة سطر، ذُكِر في جملتها أنه بلغ في غاراته بحر الخزر الذي يسميه البحر الأعلى، ودوَّخ ما هنالك من البلاد وأنه اخترق جبل لبنان، ولم يكن اخترقه ملك آشوري قبله وركب البحر المتوسط إلى جزيرة رواد وزحف بجيشه على ممالك كثيرة، فقهرها ورجع عنها ظافرًا وطأْطأَت له ملوك طانيس كنف الطاعة والخضوع، فأطرفه فرعون مصر بتمساح من تماسيح النيل تودُّدًا إليه وتزلُّفًا من رضاه، وفي عهده نهض مرودخ دنياكي الكلداني على هيكالي وأخذها عَنْوَةً على ما قدمناه، فثار تغلث فلأَسر بجيش كثيف وأَمَّ بابل، فخرج إليه مرودخ واقتتل الفريقان في قاع من الأرض بظاهر بابل، وكانت العاقبة للآشوريين فأثخنوا في البابليين ومزَّقوا شملهم كل ممزَّق ودخلت المدينة في حوزتهم.
وبعد وفاة تغلث فلأَسر انتشبت الفتن بين الآشوريين وتفرقت كلمتهم فلانت شوكتهم وضعفت صولتهم، وفي تضاعيف ذلك زحف عليهم قوم من الكيتاسيين فناصبوهم حربًا شديدة فلم يستطيعوا الثبات أمامهم، واستولى الكيتاسيون على كثير من البلاد وضربوا عليهم الذلة، وبعدما شاء الله من الزمن نهض رجل من أعيان الدولة الآشورية يقال له بعل كيتراسو واليونان يسمونه ببعليتراس، وقد رأى ما حل بالدولة من انحلال عُراها واختلال أمرها، فعمل على خلع الملك وهو يومئذ آشور بمار وغلبه على المُلك، ونقل السرير من آشور إلى مدينة نمرود، وكان بعليتراس هذا من الأمراء آل المُلك كما يُستفاد من كتابة لبعلوخوس الثالث الآشوري خلافًا لما يزعمه اليونان من أنه كان أجنبيًّا عن المُلك، ولما انقضت أيامه قام بأعباء الدولة بعده شلمنأَسر الثاني ثم إِربِين، وتعاقب بعده ملوك آخرون حتى أفضى الأمر إلى بعلوخوس الثاني، وكانت مدة ملكه من سنة ٩٥٦ إلى ٩٣٦، وهو الذي كانت الواقعة بينه وبين ملك مادي، فأخضعه لدولته وأقام الماديون يؤدُّون الجزية، ولنا من عهد هذا الملك إلى انقضاء الدولة الآشورية سلسلة متواصلة لجميع الملوك الذين ركبوا سرير آشور من غير نقص ولا خلل.
وتولى الملك بعده ابنه تغلث سمدان الثاني وكان رجلًا جبارًا مولعًا بالفتوح والغزوات دون تشييد الأبنية؛ لأنه لم يُعثَر له على بناء باسمه إلا أن تكون قد ذهبت به الأيام ومحاه توالي الخراب فلم يبقَ إلى كشفه سبيل، وقد وجد أرباب التنقيب آجُرَّة من آثاره قد نُقِش عليها ما معناه: أنا تغلث فلأَسر الملك القدير المستولي على الأمم كافة، أنا السيد العظيم الذي ليس سيد في المعمورة إلا وأنا سيده. لقد ملكت بسيفي الأقطار الأربعة وغزوت بجيشي صغير الممالك وكبيرها، وكل عدو لربِّي قمعته وأرغمت أنفه، وذكر بعد ذلك إخضاعه لمملكة كوماغنيا ثم المملكة الواقعة عند منفجر دجلة — ولا شك أنه يريد أرمينية — ثم استيلاءه على القسم الأعلى مما بين النهرين وإجلاءه لطوائف تلك الآفاق، ثم وصف خروجه إلى مصر وظهوره عليها وتملكه لها، وقهره من انتصر لها من ملوك الأقاليم المجاورة، إلى أن قال: فبلغ جملة ما ملكته اثنتين وأربعين مملكة وولاية تمتد من أقاصي المشرق إلى أطراف المغرب، وحملت من حيوانها ونباتها وغرائب موجوداتها فضلًا عمن أجليته من كل مملكة أخضعتها، وجئت بذلك كله فجعلته في مملكتي الزاهرة. انتهى، وكانت مدته من سنة ٩٣٥ إلى سنة ٩٣٠.
وبعد تغلث فلأَسر تولى زمام الدولة ابنه آشور نزربال الثالث واستقر على سرير الملك من سنة ٩٣٠ إلى سنة ٩٠٥، وكان تملكه في اليوم الثاني عشر من شهر تموز على ما حققه أهل الهيئة في هذا الزمان؛ لأنهم وجدوا على الآثار ما مفاده أن هذا الملك ولي السلطان في اليوم الذي كسفت فيه الشمس كسوفًا تامًّا، وكان ذلك بموجب حسابهم في اليوم المذكور، وكان مولعًا بتشييد المباني وإقامة الهياكل والقصور، وقد وُجِد له ما لا يُحصى من الآثار الموسومة باسمه من أبنية وتماثيل آلهة وأوانٍ مختلفة من الذهب والفضة والعاج وغير ذلك، ومن أبنيته القصر العظيم بنمرود الذي كشفه السير لايرد الإنكليزي، وقد بقيت منه بقايا تدل على أنه كان من الفخامة والإحكام بمكان، وله بنمرود أيضًا الهَرَم الباذخ الذي شيده لرصد الكواكب، وعلى مسافة منها هرم آخر كان هيكلًا لآدار بناه، وأقام فيه تمثالًا له قد نقش عليه ما ترجمته: أنا آشور نزربال الظافر الميَّمم ربُّ القصر الآشوري ابن تغلث سمدان ليث القراع ومخراق الحروب المالك على الأربعة الأقطار ابن بعلوخوس الملك المظفر المتسلط على الطوائف الآشورية. لقد ملكت بسيفي جميع الأقاليم الممتدة من لَدُن مُنفَجر دجلة إلى أطراف جبل لبنان. ا.ﻫ.
وكان آشور نزربال ظلومًا جافيًا سفَّاكًا للدماء لا تأخذه في أحد رحمة ولا تعطفه عاطفة، وكان إذا أسر قومًا نكَّل بهم تنكيلًا فظيعًا فيصلم آذانهم ويجدع أنوفهم ويقطع أيديهم وأرجلهم إلى ما شاكل ذلك، فضلًا عما يركبه من الفواحش في السبايا والأطفال، ثم يجمع تلك الأعضاء فينضد بعضها فوق بعض حتى تصير بناءً قائمًا في السماء ويتلذذ بالنظر إليها. قلت: وهذا أشبه بما يُروَى عن نيرون الروماني وقت إيقاعه بأهل الدعوة النصرانية من أنه كان يصلب الجماعة منهم في رَبَض المدينة ثم يطلي أبدانهم بالقار والنفط، فإذا خيَّم الليل أمر بإحراقهم ثم خرج على عجلته ومعه وزراء دولته وكبراء بلاطه يتفرجون على ذلك المشهد الكريه، ومع ما في هذا الصنيع من شدة القسوة التي تدل على نهاية الخشونة والبربرية، فلا يُنكَر على الآشوريين أنهم كانوا في ذلك العهد قد بلغوا قمة التمدن والحضارة في فنونهم وصنائعهم، ولهم في أواخر أزمانهم ما هو أشنع وأفظع مما ذُكِر، فقد روى عنهم هيرودوطس اليوناني وكان قد قدم بابل في أواسط القرن الخامس قبل الميلاد، أنه لما حدثت الفتنة في بابل قُبَيل ذلك العهد بقليل ووفد عليها داريوس هستاسب وحاصرها سئم أهلها من طول الحصار وفرغت أهبتهم، فذبحوا عددًا كثيرًا من نسائهم بحيث لم يتركوا إلا امرأة لكل واحد منهم. ثم لم يلبثوا إلا قليلًا حتى استفتح داريوس المدينة، فلما دخلها وعلم بما صنعوا حنق عليهم حنقًا شديدًا فأطلق يده فيهم بالعذاب والتمثيل وصلب منهم ثلاثة آلاف رجل. انتهى.
ولما توفي آشور نزربال خلفه على الملك ابنه شلمنأَسَر الثالث، وكان ملكه من سنة ٩٠٥ إلى سنة ٨٧٠، وعلى عهده عظم شأن آشور واتسع نطاقها وأُطلِق عليها في الكتاب اسم مملكة، ومن شهير أعماله التي ذُكِرَت في التاريخ وأقرَّتها الآثار ما ورد له منقوشًا على أحدها؛ حيث يقول ما ترجمته: في السنة التاسعة لملكي عبرت نهر الفرات، وهي ثامن مرة عبرته فيها ودمَّرت مدينتي سنجار وكركميش وصيَّرتهما مأكلًا للنار. ثم خرجت لمواقعة ابن حِدْري الشامي وصَخُّلينا الحموي واثني عشر ملكًا من ملوك الساحل — يعني فينيقية — فقهرتهم واستحوذت على كنوزهم وعجلاتهم وعُدَدهم وخيولهم، وفي السنة العاشرة خرجت بمائة وعشرين ألفًا من الجند إلى حماة، فأخذتها واستوليت معها على تسع وثمانين مدينة، وفي السنة التاسعة عشرة خرجت على حزائيل خليفة ابن حِدْري، فغنمت منه ألفًا ومائة وإحدى وعشرين عجلة وأسرت أربعمائة وسبعين فارسًا بعُدَدهم، وفي السنة الموفية للعشرين سرت إلى جبال أمانوس وقطعت من أرز لبنان جسورًا حملتها إلى آشور، وفي السنة الثانية والعشرين سِيقَت إِلَيَّ الجزية من صور وصيداء وجُبَيل، وبعدها وفدت عليَّ الهدايا من ياهو ملك إسرائيل، وله أعمال غير هذه سطَّرها على السارية التي نصبها بنمرود أضربنا عنها لضيق المقام.
وبعد شلمنأَسَر أفضى المُلك إلى ابنه شمسيهو الثالث المعروف بصامَس بِين، وكان له أخ قد استحوذ على بعض الممالك التي افتتحها أبوه فتشاحَّا عليها، واستطارت بينهما الفتنة نحوًا من خمس سنين، ونشأت عن ذلك مشاغب شتى في بابل ونينوى وكثر الهرج حتى أصبحت عترة المُلك في خطر أن تسقط رأسًا، وفي آخر الأمر استقر الفوز لشمسيهو فاستخلص تلك الممالك من أخيه وخلا بأمر الملك، وقد عُثِر له على أثر يقول فيه: إنه خرج على بابل لقتال مرودخ بَلَتاريب، وكان مرودخ تحت إمرة الآشوريين، فلما ثارت الفتنة بين شمسيهو وأخيه اغتنم تلك النُّهزة لشق عصا الطاعة وجاهر بالعصيان، فواقعه وظفر به وقتل زعماء الأحزاب وغنم منه مائتي عجلة وأجلى من رعيته سبعة آلاف نفس. ا.ﻫ.
وتولى الملك بعده ابنه بعلوخوس الثالث، وعلى عهده استؤنفت الفتنة في بابل وتمادى القوم في المنابذة والخلاف، حتى عجز عن ردهم إلى طاعته فارتأى أنه إذا تزوج واحدة من بنات ملوك بابل كان في ذلك وسيلة إلى بلوغ مأربه وأَمِنَ سورة الشقاق. فوقع اختياره على سميراميس التي يروي عنها بعض متقدمي المؤرخين أفعالًا يضيق عنها نطاق التصديق، ومما وُجِد من آثاره آجُرَّةٌ قد نُقِش عليها: أنا بعلوخوس قد ضربت الإتاوة على جميع المدن والأقاليم والممالك الواقعة ما بين سورية وفينيقية وحدود صور وصيدون والسامرة وأيذومة وفَلِسْط. ا.ﻫ. وهي أول مرة ذُكِرَت فيها فلسط؛ أي فلسطين على آثار آشور، وفي لندرة اليوم تمثال ضخم للإله نبوكان نصبه وزير بعلوخوس، وكتب عليه: أيها الإله نبو المعظم عصمةُ مولاي وعَضُدُه كن مؤازرًا له بحولك وقدرتك واحفظ سيدتي الملكة سميراميس زوجته. ا.ﻫ.
وسميراميس هذه هي التي ذكرها هيرودوطس، وقال إنها كانت مالكة قبل نيتوكريس بمائة وستين سنة، وجاء المؤرخون بعده فخطَّئُوه ورووا عنها أقاصيص وأخبارًا لا يحتمل غرضنا الإطناب بذكرها، غير أنا نورد بعضًا من تلك الحكايات تفكيهًا للمُطالع، فمن ذلك ما حكاه بعلوطرخوس في جملة كلام أورد فيه ذكر سميراميس قال: وتوسَّلت هذه الملكة إلى بعلها نينوس أن يفوِّض إليها أزمَّة الأحكام خمسة أيام تستبدُّ فيها دونه، ففعل وأنفذ بالأوامر المؤكَّدة إلى جميع العمَّال وأرباب المجالس والأحكام أن يولُّوها جانب الإذعان ولا يخالفوها في شيء مما تأمرهم به. فلما خلت بالملك كان أول ما أمرت به طرح نينوس في السجن وخلعته عن السرير رأسًا، فبقي في محبسه يعاني الذلَّ والقهر حتى أدركته الوفاة، وقال ديودوروس ومن أخذ أخذه من الكُتَّاب: كانت سميراميس من طائفة خاملة الذكر من رعاع عسقلان، فلما وصلت إلى المُلك أفرغت طوقها فيما يُذيَّل به ذكرها الدنيء من الأعمال العظيمة والفتوح الجسيمة، فحشدت إليها البنائين والصُّنَّاع من أنماط شتى وأمرت بإقامة السورين العظيمين اللذين يحيطان ببابل، فبلغا سبعين كيلومترًا طولًا، ورفعت فوقهما بروجًا منيعة، وخططت أزقة المدينة وقسمتها إلى ستمائة وخمسة وعشرين حواءً، وشيدت هيكل بعلوس والقصر الملكي والحدائق المعلقة مما سلف ذكره في القسم الأول من هذا الكتاب. قالوا: وإن سميراميس لم تقنع بالمُلك الذي تقلَّدته عن بعلها، فنادت في قومها وحشدت من الجيش ما بلغت عدته ألف ألف جندي، وزحفت بهم إلى أرمينية وهي في طليعتهم، وكان على أرمينيا ملك يقال له قارا فظهرت عليه وقهرته وولَّت مكانه رجلًا من أصحابها. ثم سارت إلى فلسطين فأخضعتها واستولت عليها وتقدمت من هناك إلى مصر فامتلكتها، ثم عطفت على الحبشة ففعلت بها كذلك، ولم يمضِ عليها إلا زمن يسير حتى دانت لها جميع الأقطار التي بين الصين والحبشة. ثم وجهت الغارة إلى الجنوب فارتحلت بعسكرها إلى بلاد الهند، وتقدمت إلى رجالها أن يذبحوا ألوفًا من الثيران الدُّهس ويسلخوا جلودها ويقطعوها على هيئة الفيلة، حتى تكسو بها أبعرتها وخيولها وتقدِّمها أمام الجيش إيهامًا للعدو، وبلغ ملك الهند خبر مقدمها فتجهز لقتالها وألَّب جيشًا كثيفًا، ووجَّه شرذمة من الجيش أوعز إليهم أن يبروزا لها ثم ينهزموا أمامها حتى تدخل إلى أواسط البلاد.
فلما التقى الجمعان والتحمت الحرب ولَّت الهنود على أعقابها وتبعتهم سميراميس برجالها حتى أوغلت في أرضهم، وكانوا قد كمنوا لها في موضع من البلاد، حتى إذا بلغت موضع الكمين ثاروا في وجهها وأطبق جيشهم من كل جانب، فأهلكوا من قومها خلقًا لا يُحصى وانهزمت سميراميس شر هزيمة، وقد أصابها جرح بالغ كادوا يمسكونها به لولا خفة فرسها وسرعتها في المفر، وانثنت قافلة إلى بابل بالفشل والخسران. ا.ﻫ.
وخلف بعلوخوس الثالث وسيراميس آشور ليخوس المعروف بسردنابال أو سردنافول، وفي أيامه تفاقم أمر الفتنة في بابل ووهت سطوة الآشوريين، وتضعضعت دعائم دولتهم لما كان في سردنابال من الغفلة وضعف النفس ووهن العزيمة؛ لأنه أفنى زمانه في حشد الأموال ومعاقرة اللذات والإقبال على اللهو والخلاعة، وكان لا يفارق دار حرمه ولا يهمه إلا مغازلة نسائه، حتى قيل إنه كان يتزيَّا بملابسهنَّ ويعمل أعمالهنَّ من الغزل ونحوه إلى غير ذلك، ولما كان أهل بابل قد سئموا من تسلُّط الآشوريين عليهم وهم غير غافلين عن انتهاز فرصة للتخلُّص من أيديهم نهض بعليزيس الكلداني وحالف أرباش ملك مادي على آشور، كما قدَّمنا تفصيله في القسم الأول، وكان من عاقبة هذه الحرب خراب نينوى عن آخرها وإحراق الملك نفسه وآله في النار على ما مرَّ هناك، واضمحلَّت بذلك الدولة الآشورية الأولى.