ذكر الدولة الآشوريَّة الثانية
ولما تم هذا الفتح لبعليزيس واطمأنت له البلاد جعل مقامه بآشور وبقيت في حوزته إلى أن توفي سنة ٧٤٧، وبعليزيس هذا هو المعروف بفول وهو على ما في الآثار الآشورية من سلالة ملوك آشور الأولين، وليس لنا من أخباره إلا ما ورد عنه في رابع أسفار الملوك؛ حيث ذُكِر أن منحيم ملك إسرائيل لما قتل شلُّوم بن يابيش الذي كان مالكًا قبله وتسلَّق عرش المُلك أرسل إلى فول ملك آشور يستصرخه ويستعين به على إقرار الملك في يده، وجهَّز له ألف قنطار من الفضة ضربها على قومه فلبَّاه فول وأسعفه بما أراد، وبعد أن استنضَّ منه المال قفل راجعًا إلى أرضه وكان ذلك سنة ٧٧١، وفي سِفْر يونان أن الله جلَّ جلاله أرسل نبيه يونان — عليه السلام — إلى نينوى ينذرهم خراب المدينة إن لم يتوبوا إليه تعالى، فلما اتصل خبره بالملك نزل عن أريكته وجلس على الرماد، وهو قد تردَّى بالمسح وأمر مناديه أن ينادي في المدينة بصوم عامٍ على الناس والبهائم جميعًا لا تذوق نفس منها مطعمًا ولا مشربًا، وأن يلبسوا المسوح كذلك ويبتهلوا بالدعاء إلى الله ويأخذوا بأسباب الصلاح والتوبة، فلما فعلوا ذلك عفا الله عنهم وكفَّ عن المدينة.
وبعد وفاة فول انتقض الآشوريون على أهل بابل ونبذوا الطاعة لهم ووقعت بين الفريقين مجاولات شتَّى، وكان في طليعة الآشوريين واحد من أبناء ملوكهم يُعرَف بتغلث فلأَسر الرابع، ودامت الحرب بينهم نحوًا من أربع سنين حتى كان الظفر للآشوريين وذلك سنة ٧٤٣، وكان تغلث فلأَسر هذا رجلًا جبَّارًا فاتكًا مقدامًا، وقد أُوتي من النصرة والتوفيق شيئًا عزيزًا حتى طار ذكره في الأقطار، وظلَّلت مهابته على الأمصار، وكان يلقِّب نفسه بنينوس الثاني، وكان لما استقرَّ في يده أمر آشور واستوثق له الملك أنه صرف اهتمامه إلى النظر في أحوال الدولة وجمع ما تفرَّق من أمرها، ونظر إلى الممالك التي استفتحها الآشوريون من قبله، فإذا بالكثير منها في قبضة البابليين فعقد عزمه على استرجاعها، ولم يلبث أن زحف من تلك السنة إلى أسروينا وشمالي الأقطار الشامية فأخضعها لسطوته، وفي السنة التالية سار إلى أرمينية فنكبها واستولى عليها وأجلى عدَّة كثيرة من أهلها إلى آشور، واتفق في تضاعيف ذلك أن هاجت حرب بين فاقح ملك إسرائيل ورصين ملك دمشق وبين آحاز ملك يهوذا، حتى تضايق آحاز جدًّا فبعث إلى فلأَسَر المذكور يستعديه، وأنفذ إليه بما كان في الهيكل الكبير وقصر الملك من الذهب والفضة وكان شيئًا كثيرًا، فجرَّد فلأَسر جيوشه ونزل على دمشق فافتتحها وقتل رصين ملكها، ثم عطف على فلسطين فقهر فاقح ملك إسرائيل واستولى من مدائنه على عيُّون وآبل بيت معكة ويانوح وقادش وحاصور وجلعاد وكل أرض نفتالي وساق سكانها إلى آشور، وبعد ذلك ارتد على آحاز ملك يهوذا، فقاتله ثم تاركه الحرب على مال يحمله إليه وذلك سنة ٧٣٤، ولما فرغ من أمر أولئك الملوك وجَّه الغارة إلى المشرق، فلم يمرَّ بأرض إلا أذاقها البلاء وظفر بملك أريانا واستحوذ على كثير من مدنه وضياعه، وما زال ذلك دأبه إلى أن توفي سنة ٧٢٧.
وخلفه على سرير الملك شلمنأَسَر الرابع وقيل الخامس وقيل السادس، ومن أخباره ما جاء في أسفار الملوك أيضًا من أنه زحف على هُوشَع ملك إسرائيل بالسامرة وقهره وضرب عليه الجزية، فلبث يؤديها مدة، ثم انقطع عن تأديتها وبعث إلى سوء ملك مصر يستنجده فعاد إليه شلمنأَسَر وظفر به وأرسله إلى السجن مكتوفًا، وحاصر مدينته السامرة فمكثت ثلاث سنين تحت الحصار ثم افتتحها عَنْوَةً وأجلى من بها من الإسرائيليين إلى آشور، فأنزلهم بحلاح وعلى عدوة خابور نهر جوزان وبثَّ منهم أناسًا في مدائن مادي، ثم بعث عصبة كبيرة من الآشوريين، فبوَّأهم السامرة وانقرضت مذ ذاك مملكة إسرائيل آخر الدهر بعد أن دامت مائتين وأربعًا وخمسين سنة، وكان ذلك سنة ٧٢١ قبل الميلاد، وفي بعض الآثار أن الذي كان فتح السامرة على يده هو صاريوكين خليفة شلمنأَسَر المشار إليه، والصحيح في ذلك كما ذهب إليه أكثر المحققين أن شلمنأَسر توفي أثناء الحصار، فتمَّ الفتح على يد صاريوكين، وكان القائد الأكبر في الجيش فَنُسِب الفتح إليه.
ولما هلك شلمنأَسَر لم يكن في ولده من يضطلع بأعباء الملك، فتسلق السرير صاريوكين قائده المشار إليه وهو المسمى في الكتاب بسرجون، وعلى يده تمَّ فتح السامرة على ما قررناه، وكان جملة من أجلاهم من اليهود نحوًا من سبعة وعشرين ألف نفس، وكان هذا الملك كثير الغزوات والحروب نهض لاسترجاع ما بقي من فتوح آشور وممالكهم في أيدي الكلدان منذ حين سقط سردنابال آخر ملوك الدولة الأولى على ما سلف إيراده. فدوَّخ جميع ما بين النهرين وأخضع أرمينية ومصر وقبرس، ونصب في قبرس حجرًا كبيرًا نقش عليه صورته مع تاريخ استيلائه عليها والحجر المذكور اليوم في برلين، وكان في جميع هذه المغازي والغارات مظفرًا منصورًا، ولم يدركه الفشل إلا في حصار مدينة صور، فإنه قصدها ونازلها بجيشه زمنًا طويلًا وتفانى من جنوده تحت أسوارها خلق لا يُحصى، وفي عاقبة الأمر نفد ما عنده من القوت والعلف فتراجع عنها خاسرًا.
وله غير ما ذُكر وقائع كثيرة أثبتها على جدران الأبنية التي شيدها بخرساباد يقول في موضع منها: هذه سياقة ما فعلته من لدن استيلائي على زمام المُلك إلى منتهى الغزوة الخامسة عشرة من غزواتي. كان استيلائي على المُلك في يوم الخسوف التام — يعني خسوف القمر وكان فيما عيَّنه بطليموس في ١٩ آذار سنة ٧٢١ — وقد قهرت كمبانيغاز ملك عيلام، ثم حاصرت مدينة السامرة وأخذتها وأجليت ٢٧٢٨٠ نسمة من سكانها، وتحالف هانون ملك غزة وفرعون ملك مصر على قتالي، فنازلتهما وأوقعت بهما في أرض رافيا، فانهزما شر هزيمة وسكتت نأْمتهما آخر الدهر. ثم إني ضربت على فرعون ملك مصر وعلى شمس ملك العرب ويطعمير ملك الصابئة إتاوة من الذهب والعقاقير العطرية والخيل والإبل والبقر، وبعد ذلك حاول عُبَيد المالك في حماة أن يحرِّش عليَّ أهل دمشق والسامرة، فزحفت بجنودي المظفرة إلى كركار وانتشبت بيني وبينه وقائع هائلة كانت العاقبة فيها عليه، فدككتُ سور المدينة وأعملت الهدم في سائر أبنيتها حتى رددتها ركامًا، ثم قتلت زعماء الأحزاب وقبضت على الملك وسلخت جلده عن بدنه، ولما ملك إرَنْزو في وإن كانت في حوزة يدي، فلما مات بايع الأهالي ابنه آسا وعقدوا بينهم وبين أورساما الأرمني حلفًا سريًّا على أن يمالئهم في رد استقلالهم، فسرت إليهم بالجيوش الآشورية وضربتهم ونسفت قلاعهم عن آخرها، وقبضت على الملك الخائن — يعني ملك أرمينية — وسلخته وقطعته خراذل وأخضعت الجميع لسلطاني.
وفي تضاعيف ذلك انتهز آزوري ملك أسوط فرصة اشتغالي بأولئك الأقوام وامتنع عن حمل الجزية إليَّ، فدمَّرت مدائنه واستحوذت على آلهته وعلى امرأته وبنيه وكل من ينتمي إليه. ثم أخذتني الرحمة فأعدت عمارة المدائن التي خربتها وأسكنت فيها الأقوام الذين أجليتهم من مشارق الشمس وولَّيت أمرهم واحدًا من قوَّادي وأدخلتهم في عداد الآشوريين، وبعد ذلك ذكر عدة مواقع بينه وبين مرودخ بلأَدان سنة ٧٠٩ كان النصر فيها له، واستولى على الفسطاط الذي كان لمرودخ من الذهب وغنم كنوزه وذخائره، وأسر عددًا كبيرًا من جنوده، ودمَّر مدينة دورياقين بثأر سردنابال، وإن ملوك يَطَنان السبعة — أي ملوك قبرس — الذين لم يسمع أسلافه بذكرهم بسطوا له يد الإذعان، ووفدوا عليه بالهدايا والطُرَف من الذهب والفضة والآنية الثمينة وخشب الأبنوس، وعدَّد كثيرًا من الحروب التي عملها بعد ذلك مما يطول شرحه ولا فائدة في استيفائه.
وفي سنة ٧١١ بعدما عَنَت له تلك الأقاليم ونفذت كلمته وارتفع سلطانه شرع في بناء مدينة تضاهي نينوى في مجدها الأول، فاتخذ لها أسباب العمارة وحشد أهل الصناعة من كل أوب وجعل مركزها إلى الشمال الغربي من نينوى على مسافة ستة عشر كيلومترًا منها، وزينها بالقصور الشاهقة والهياكل الباسقة والأبنية الفسيحة، وشرع في تشييد قصر له ولمن يخلفه على سرير آشور وسماه دورصاريوكين؛ أي قصر صاريوكين وأتمَّ بناءه في الثاني والعشرين من شهر تشرين الأول سنة ٧٠٦، وقسمه ثلاثة أقسام زينها كلها بالنقوش والتماثيل وأصناف الآنية والتحف النفيسة، ونقش على جدرانها صور كثير من وقائعه مع تاريخ انتصاراته، وقد استوفينا الكلام على هذا القصر في القسم الأول، ولا يزال معظمه ماثلًا إلى هذا العهد لم يفقد من رونقه إلا القليل.
وبعد وفاة صاريوكين استقلَّ بالملك ابنه سنحاريب واسمه فيما حققه بعضهم محرف عن سين اح ريب، وسين اسم للقمر كان ملوكهم يزيدونه في أوائل أسمائهم تبركًا على ما سلف الإلماع إليه، ومعنى اح ريب أخٌ آخر، وكان سنحاربب ملكًا عظيم الشأن شديد الوطأة بعيد الهمة كثير المغازي والفتوح أتى في أيامه من عظائم الأمور ما لم يأته ملك قبله، حتى طار ذكره في الآفاق وامتدت شوكته إلى أبعد الأقطار وتحامت حوزته كبراء الملوك ودان لدولته كثير من الأقاليم، وكان يلقب نفسه بملك الأرض وخليل الآلهة على ما كان من دأب ملوك آشور وبابل في ذلك العهد، وأخباره كثيرة طويلة نقتصر منها على ما سنورده في هذا الموضع ميلًا إلى الاختصار الذي هو أليق بحال هذه الرسالة، وأكثره ملخَّص عما وُجِد له من الكتابات التي كتبها بنفسه مما خلت عنه أسفار المؤرخين. قال في بعض تلك الكتابات ما محصله: أول غزوة لي كانت على مرودخ بلأَدان ملك بابل وجيوش عيلام، وكانت الواقعة بيننا في بقعة كيش، فما تطاول أمد القتال حتى أجفل الملك من أمامي وفرَّ معتصمًا بأحد معاقله، فلحقت بأصحابه وأطلقت يدي فيهم بالسبي والأسر والقتل وغنمت أمواله وخيوله وأسلحته وسائر كنوزه وذخائره، وكان فيها من الذهب والفضة والآنية الثمينة والملابس الملكية شيء كثير. ثم وجَّهتُ نفرًا من رجالي فقبضوا على امرأته وأعوانه وسائر من ينتمي إليه من آله وحشمه ذُكرانًا وإناثًا مع الخصيان وخُدَّام البلاط، وأسرت بقية الجند كلهم وأخذت الجميع وبعتهم عبيدًا. ثم إني بإمداد ربي آشور وحوله أقمت الحصار على تسع وسبعين مدينة من مدائن الكلدان الكبيرة وثمانمائة وعشرين قرية، فأخذتها جميعًا وغنمت منها الغنائم الطائلة وسبيت نساءها وبعت الرجال عبيدًا.
ثم إنه بعد وصفه لغزوته الثانية ونصرته في بلاد مادي وأرمينية وألبانية وأرض البرثيين وكوماجينة، أقبل على وصف غزوته الثالثة قال: وفي غزوتي الثالثة وجهت بأْسي نحو الديار الشامية وعليها يوم ذاك ملك سخيف العزم ضعيف البطش يُسمَّى إيلولي، كان قد بلغ خوفي من قلبه كل مبلغ، حتى إنه لما اتصل به خبر مقدمي عليه لم يتمالك أن احتمل بنفسه وابتدر المفر إلى إحدى جزائر البحر تاركًا لي جميع حوزته وما ملكت يداه مغنمًا باردًا. فأخذت مدائن صيداء الكبرى وصيداء الصغرى وما يتبعها من المصانع والمعاقل والهياكل، ثم عدت عنها واستعملت عليها إيتوبعل على خراج يرفعه إليَّ.
وفي أعقاب ذلك كان إيتوبعل الصيداوي وعبدليت الأروادي وميطنتي الأسوطي وبادول العمُّوني وشمس ناداب الموآبي ومُولَكَ رام الأدومي وسائر ملوك فينيقية، يتزلَّفون إليَّ بالهدايا والطُّرَف ويعتملون في اجتلاب مرضاتي إلا صدقا العسقلاني، فإنه ذهب بنفسه مذهب الكِبر والعتيِّ وزيَّن له الغرور شق عصا الطاعة، فزحفت عليه بجندي ومنحني ربي عنقه فقبضت عليه وحطمت آلهته وآلهة آبائه وأسرت امرأته وبنيه وبناته وإخوته وجميع أعقابه معه وقفلت بهم راجعًا إلى آشور.
وفي تلك الغضون ائتمر زعماء ميغرون وفئة من أشرافها بملكهم بادي ليقتلوه؛ لأنهم نقموا عليه ميله إلى آشور واحترامه لسطوتها فحملوه إلى حزقيا ملك يهوذا وسلموه يده، وكان لسكان ميغرون طمع في مظاهرة ملوك مصر والحبشة لهم إذا شبَّت الحرب بيني وبينهم، فتأهبُّوا جميعًا لمنازلتي وحشدوا جيوشهم من كل أوب وخرجوا إليَّ بخيلهم ورَجْلهم، فالتقينا في بقعة إيلسيكا والتحم بيننا القتال، فكانت العاقبة لي عليهم فبدَّدت جموعهم وأثخنت فيهم قتلًا وجرحًا وأسرت منهم وغنمت ما لا يدخل في نطاق حصر، وبعد أن تمزقوا من أمامي كل ممزَّق وانهزم بنبالي ميروي المصري وولده أقبح هزيمة، وقد قُتِلَت حاميتهما وأوشكا أن يقعا في يدي انثنيت إلى ميغرون، فقتلت من بها من الأكابر وزعماء الأحزاب وقبضت على أهل الفتنة فبعتهم عبيدًا. ثم أرسلت إلى أورشليم في طلب بادي ملكهم فأعدته إلى ملكه، فأقام في ظلِّ بأْسي وزاد يقينًا أن رأيه فيَّ لم يكن إلا صوابًا.
هذا ما كان من أمر أولئك الملوك وأما حزقيا اليهودي، فبقي شامخًا بأنفه ممتنعًا من الاستسلام لدولتي استعظامًا منه لأمر نفسه واستخفافًا ببأسي ومقدرتي، وكانت له أربع وأربعون مدينة محصَّنة وعلى أسوارها من الأبراج المنيعة ما يفوت العدَّ. فدهمته بجيش كالجراد المنتشر وخيمت حول تلك المدن وبنيت عليها المتارس وسدَّدت إليها آلات الحصار، وما زلت أضربها بما أُوتيت من البطش وثبات العزيمة حتى أذقتها من البلاء أمرَّهُ ومن الضنك أشدَّهُ، ولم أُولها فترة حتى فتحتها عَنْوَةً ودخلتها بسيفي وأعملت فيها النار والسلاح، وانبثَّ رجالي في كل وجه يسبون وينهبون حتى لم يُبْقُوا ولم يَذَرُوا. فكان فتحًا كبيرًا لم يُسمَع بمثله فيما مرَّ من الدهر، وكان جملة ما سبيته وغنمته مائتي ألف نفس ومائة وخمسين نفسًا من كبار وصغار رجالًا ونساءً، ومن الخيل والحمير والبغال والإبل والبقر والشاء وسائر الغنائم والأموال ما لا يُحصَى عدده ولا تقدَّر جملته، وسُقْتُ هذا العديد كله إلى آشور وهو المصداق لما كان من ذلك الفتح العزيز والفوز الجليل.
وبعد ذلك وجهت الحملة إلى مدينة أورشليم دار الملك حزقيا، فحبسته في داخل المدينة كما يُحبس العصفور في القفص، وابتنيت في أرباض المدينة أبراجًا كثيرة وبثثت رجالي حول السور، فإذا خرج واحد من المدينة تخطَّفوه، وفي تلك الأثناء استعملت على المدن التي افتتحتها بفلسطين ولاة من أشياعي وهم ميطنتي ملك أسوط وبادي ملك ميغرون وأسما بعل ملك غزة. فأما ما كان من أمر حزقيا فإنه لما رأَى بأْسي وما أحاق به من الخطر الشديد ضاقت عليه مذاهب النجاة ولم يجد للثبات سبيلًا، فأوفد عليَّ رسله يعرضون عليَّ المهادنة والصلح وأن أضرب عليهم ما شئت من الأموال، ففعلت وجاءوا نينوى دار سلطنتي ومقرَّ محكمتي، ووضعوا بين يديَّ ثلاثين وزنة من الذهب وأربعمائة وزنة من الفضة وكثيرًا من المعادن الثمينة والحجارة الكريمة واللؤلؤ والياقوت الكبير والعروش الملكية والكهرباء الخالصة وسروج الجلد وجلود البقر البحرية والأخشاب المتنوعة، ومنها خشب الأبنوس والجواري الحسان والعبيد الكثيرين ذكرانًا وإناثًا. ا.ﻫ.
وفي أخبار ملوك يهوذا ما يؤيد صدق هذا الخبر، إلا أن سنحاريب طوى كشحه عن ذكر الفشل الذي لقيه عند قصده لأورشليم في المرة الثانية، فإنه بعد أن عاهد حزقيا على السلم عاد فنكث عهده ووجَّه عسكره على فلسطين وأمَّ أورشليم وفيها حزقيا فحاصرها حصارًا شديدًا، وملخَّص ما جاء في الكتاب أنه لما اشتد الأمر على حزقيا وسكان المدينة وبلغ منهم الضنك والضيق، وتمادى قوَّاد آشور في الوعيد والتهويل على مسمع من الشعب وشتموا إله إسرائيل، فزع الملك وبطانته إلى أشعياء بن آموص النبيِّ فدعا الله سبحانه وتعالى، فأرسل ملاكه فقتل من جيش آشور مائة وخمسة وثمانين ألفًا، فلما أصبح سنحاريب إذا جيشه جثث أموات فنهض ليومه وقفل راجعًا إلى نينوى. ا.ﻫ. وكان ذلك نحو سنة ٦٩٨ قبل الميلاد.
وعاد سنحاريب بعد ذلك فلمَّ شعث دولته وجدد رونق ملكه، ولما استجمعت له أسباب العزة والصولة جرَّد جحافله وسار بها إلى بابل مدينة الفتن فواقعها مرة أخرى، وكان السبب في ذلك أن سنحاريب لما قهر بابل في النازلة الأولى ولَّى عليها رجلًا من أوليائه يقال له بعليبوس، فاستمرَّ أمرها في يده إلى أن كانت نكبة سنحاريب عند أورشليم، وعاد بالفشل والخسران فاغتنم مرودخ بلأَدان تلك الفترة وحدثته نفسه باسترجاع الملك، فأخذ في أسباب ذلك وحشد أولياءه وأتباعه وزحف على بابل بجمع كثير، فاستبشر البابليون بعودته وتغيروا عن طاعة بعليبوس وجاهروا بالفتنة والهرج، واتصل الأمر بسنحاريب فبادر بعَدَدهِ وعُددَهِ ودهم بابل بجيش لا يُحصَى، فبرز إليه مرودخ في طليعة أصحابه والتحمت الحرب بين الفريقين أيامًا وآخر الأمر كانت الغلبة لسنحاريب، فانهزمت جيوش الكلدان وتمزَّق سوادهم بعد أن هلك منهم خلق كثير، وفرَّ مرودخ بلأدان وغمض خبره آخر الدهر. ثم دخل سنحاريب بابل فاستأصل منها أعراق الفتنة ومهد السكينة والطاعة، واستخلف عليها ولده آشور ناردين وهو بكر أبنائه.
ولما فرغ سنحاريب من أمر بابل وجَّه غارته ناحية المشرق، فأمعن في البلاد ووطئ من الأقاليم ما لم يبلغ إليه أحد ممن سلفه، حتى انتهى إلى داي فدوَّخ تلك الأرض جملة وأكثر من إراقة الدماء وإتيان الفظائع وشنَّع وسبى ونهب وهدم كثيرًا من المدائن والمعاقل وضرَّم عامَّتها بالنار، وله على بعض الآثار في ذكر هذه الغزاة ما تعريبه: إني ملكت الرجال والدواب والغنم والبقر وافتتحت المدائن والقُرَى، ولم أفارقها حتى غادرتها حطامًا.
واستقرَّت البلاد بعد ذلك برهة طويلة صماء من زعازع الحروب وفديد الجيوش وصلصلة الحديد، واستولت فيها الدعة والسكينة وعلا طالع سنحاريب إلى أوج سعده وعظم قدره في العيون والمسامع وتمكنت هيبته في القلوب، ووقع إجماع المؤرخين على أنه لم يقم في ملوك آشور من ضاهاه سطوة وإقدامًا ولا داناه عزة وسلطانًا، وفي تلك الأثناء فتق له عقله أن يجدد بناء نينوى ويجعلها بحيث لا تقارنها مدينة في العالم، فشرع في حشد أرباب الصناعة من البنائين والنجارين والنقاشين وغيرهم، وشيَّد فيها من المباني العظيمة والهياكل الرفيعة والقصور الأنيقة والبروج الحصينة ما لا يتأتى لأحد وصفه، وزينها جميعها بالزخارف البديعة والنقوش الجميلة حتى فاقت ما كانت عليه من قديم حالها، وقد تقدم لنا عند وصف هذه المدينة زيادة بيان، فاقتصرنا ها هنا عن المزيد.
ولما كانت سنة ٦٩٣ توفي آشور ناردين بن سنحاريب، فخلفه على سرير بابل أرجيبعل، وكانت مدة استيلائه عليها حولًا واحدًا، ثم دهمته المنية فأفضى الأمر بعده إلى مزيزي مرودخ، وكان بابلي الأصل فتفاقمت على عهده البلابل والمشاغب، وجعلت أسباب الفساد تتزايد على الأيام، حتى اشتدَّ الخطب وتخوَّف سنحاريب سوء العاقبة فلم يبقَ في رأيه إلا أن يستأنف الكرَّة عليهم ويبطش بهم مبادرة لامتداد الفتنة قبل اتساع الخرق والعجز عن تلافيه، وكان الفريق الأقوى ممن خرجوا عن طاعته طوائف من الكلدان على أطراف البلاد مما يلي خليج فارس، فبدأهم بالحملة وفرَّق عصائبهم ونكب زعماءهم ومثَّل بهم تمثيلًا فظيعًا، وجال في تلك الأنحاء فأكثر فيها الدمار وإراقة الدماء وهدم المدائن والصياصي حتى ترك البلاد بسيطًا غامرًا، وبينا هو مشتغل بأمر هؤلاء زادت الفتنة احتدامًا في بابل وانتهزوا منه تلك الفرصة، فاجتمع لفيفهم وبايعوا بالملك عليهم رجلًا منهم يقال له سوزوب وأنفذوا إلى كدرناكنتا ملك عيلام يستنجدونه على سنحاريب، فما كذَّب أن أجابهم بالجيش والسلاح وانضمُّوا كلهم يدًا واحدة وزحفوا لمنازلة سنحاريب، فكانت حربًا هائلة تطاير شررها في الآفاق وكثرت فيها المصارع والدماء، وما زال السيف يعمل في الجيشين حتى أجلت العاقبة عن فشل الكلدان، فانهزموا شرَّ هزيمة وتتبَّعهم سنحاريب بجنوده فأفنى منهم خلقًا لا يُحصَى وقبض على سوزوب وساقه أسيرًا إلى نينوى.
وبعد هذه الواقعة ركب سنحاريب وسار إلى عيلام لينتقم من كدرناكنتا، فأوغل في البلاد وأثخن فيها ودمَّر حتى رجفت منه الفرائص وطأْطأَت له المناكب، وجعل لا يمر بمدينة إلا استسلم أهلها في وجهه وغدا أعزتهم أذلة بين يديه حتى بلغ جملة ما افتتحه أربعًا وأربعين مدينة من المدائن الكبيرة، ولسنحاريب على بعض الآثار يصف غارته هذه من جملة كلام ما تعريبه: وسطع من تلك الآفاق دخان متواصل ملأ السماء والأرض وطبَّق سحابه البسيطة وكان للنيران أجيج وزفير أشبه بزمازم الرعد، ولما بلغ كدرناكنتا مقدم بأْسي عليه طارت نفسه شعاعًا، حتى إذا ازدلفت من عاصمته وعصفت به ريحي من كل أوب اعتصم بالفرار من وجهي، وتوارى في قاصية أرضه فشدَّدت الحصار على مدينته وصممت على أخذها. ا.ﻫ. ولم يأتِ على هذا الأثر زيادة على ذلك، لكن ورد على غيره من الآثار أنه بعد ذلك عدل عن أخذ المدينة ورفع عنها الحصار وانقلب راجعًا إلى نينوى؛ وذلك لأنه وجد في أدلة التنجيم ما ينذره خوف العاقبة فرضي من الغنيمة بالإياب.
وبعد نحو ثلاثة أشهر من مفرِّ كدرناكنتا أدركته المنية فبايع العيلاميون أخاه أومان مينان، وكان أومان مينان هذا خليلًا لسوزوب فلما أتاه خبر تملكه جعل يردِّد إليه رسله وأكثر من صلته، حتى احتال له في النجاة من قبضة سنحاريب، وكان لم يزل مسجونًا في نينوى، فلما أفلت من محبسه انطلق إلى عيلام فرحب به أومان وأحسن مثواه وحقق آماله وعقد له على جيش كثيف من العيلاميين، فزحف بهم سوزوب على بابل والتفَّ عليه أقوام من البابليين فأصبحوا عصبة منيعة. فلما رأى سنحاريب ذلك جنَّد جنوده وخرج عليهم وقاتلهم قتالًا شديدًا كان هو الظافر فيه أيضًا، فكسر شوكتهم وفضَّ جموعهم وفتك فيهم فتكًا ذريعًا، وله على بعض الآثار في تفصيل هذه الموقعة ما ملخصه: لما فوَّض البابليون أمرهم إلى سوزوب ألقى يده على كنوز الهرم وابتزَّ ما في هيكل بعل وزربانيت من الفضة والذهب، وبعث بذلك هدية إلى أومان مينان ملك عيلام في سبيل الاستمالة له والتقرب منه ووجه إليه يسأله المظاهرة عليَّ ويتظلم إليه من استيلاء بطشي ووطأة عزتي، وضرع إليه في ذلك أشد الضراعة حتى مال العيلامي إلى شكواه وأمده بالرجال والعُدَد، فجعل دأبه العيث في البلاد وركوب الفظائع من القتل والسبي والنهب واستطال على الناس بالبغي والجور، فاستوقد بذلك غضبي وأثار من حميتي، فنهضت إليهم بحنق شديد واتخذت مركبتي الكبرى والقوس التي وهبنيها ربي وأهطلت عليهم من النبل ما أوشك أن يسدَّ الأفق كثرة حتى سالت بدمائهم البطاح، وما لبثوا إلا قليلًا حتى استسلموا للفرار، فملأت يدي من غنائهم وأسرت منهم عددًا لا يُحصَى وقطعت أيديهم حتى لا يستطيعوا أن يعودوا إلى حمل السلاح. انتهى ببعض تصرف. وكان في جملة من أسرهم نبوبلارسكون بن مرودخ بلأدان، فأما سوزوب وأومان مينان ففرَّا بأنفسهما إلى عيلام.
وفي سنة ٦٨٣ عاد سوزوب إلى بابل مرة ثالثة لتهييج الفتنة، فنهض إليه سنحاريب وقد أخذه من الحنق ما لم يبقَ معه موضع للصبر ولا محل للرفق، وانصبَّ عليه بجنوده فانكسر سوزوب كسرة لم يقم بعدها، وتسلَّم سنحاريب بابل فضربها ضربًا شديدًا ولم تأخذه فيها رحمة ولا شفقة مع ما كان لها عنده من الحرمة؛ لأنها مدينة الآلهة، وولَّى عليها ولده آشور ناردين المعروف بأَسَرحدُّون وهو رابع أبنائه، وبعدما مهَّد الأمر في بابل انقلب راجعًا إلى نينوى، فأقام بها زهاء سنتين يحكم بالعسف والجور إلى أن كان يومًا ساجدًا في هيكل نسروخ فوثب عليه ابناه أدرَمَّلِك وشَرْأَسَر فقتلاه بالسيف طمعًا في تولي الملك من بعده، وكان مقتله سنة ٦٨١.
وكان من أعقاب ذلك أنه لما بلغ الأمر أسرحدُّون في بابل حشد كتائبه، وانقضَّ بها على نينوى يريد النقمة من أخويه وتسلم المدينة بعد أبيه، فأجفل أخواه من وجهه وفرَّا بأنفسهما إلى أرمينية فقبض أسرحدُّون على زمام نينوى واجتمع له الأمر على آشور والكدان جميعًا، ولما استتبَّ في يده الملك شرع في تقيُّل أبيه في الأحكام والغارات وتشييد المعاقل والقصور، ولم يلبث طويلًا حتى بلغ من العزة والسطوة وبُعد الصيت وفخامة الشأن ما لم يبلغه كثير من عظماء الملوك، وكان أسرحدُّون من أشد الملوك عزيمة وأعلاهم همة وأقواهم جأشًا، وكان على ذلك موفَّق المُقدَم مسعود الجَدِّ لم يُخفِق في غزوة ولا توجهَّت عليه هزيمة مع كثرة غاراته وحروبه وبُعد منزعه في الغزوات والفتوح، وأخباره لا يزال الكثير منها إلى هذا العهد مسطرًا على الآثار، غير أنها غُفلٌ من بيان التاريخ ناقصة الشرح في أكثر المواضع إلا ما كان منها في أوائل ملكه، فإنه أوسع بسطًا مما يليه.
فمما نطقت به تلك الآثار مما حكاه أسرحدُّون عن نفسه قوله في بعضها: أول ما أخلدت إلى الغارات وجَّهت طلائع بأْسي جهة فينيقية، فحاصرت مدينة صيداء التي على فم البحر، فدككت أسوارها ونسفت مصانعها وهياكلها وطرحت أنقاضها في البحر وقتلت من بها من الكبراء والزعماء، وفرَّ مَلِكُها عبد الملكوت فأوغل في البحر فتعقَّبْتُ مسيره وشققتُ الأمواج وراءه شق الأسماك حتى أدركته فقبضت عليه وجدعت أنفه، ثم عدت فاستحوذت على ما في خزائنه من الذهب والفضة والحجارة الكريمة والكهرباء والجلود المطيَّبة بالأفاويه العَطِرة وخشب الأبنوس والأنسجة المصبوغة بالنيل والأرجوان، واستقتُ من مملكته الرجال والنساء والبقر والشاء والدواب وسائر ما تهيَّأ لي نقله وحمله إلى مملكتي، وبعد ذلك شيَّدت حصنًا منيعًا سميته دور أسرحدُّون وشحنته بالرجال الذين أجلبتهم من البحر الأعلى من ناحية مشرق الشمس.
وبعد أن أتم كلامه في هذه الغَزاة ذكر أنه سار من هناك إلى مملكة يهوذا يريد التهامها، فنازلها وقهر ملكها منسى وقاده أسيرًا إلى بابل، ثم رقَّ له فأعاده إلى ملكه على إتاوة يرفعها إليه كل سنة. قال: ثم خرجت من هناك قاصدًا إقليم وان ونواحي بحر الخزر، فدوَّختها جملة، وبينا أنا في تلك الأطراف، وقد ترامت المسافة بيني وبين مملكتي اغتنم نبوزرسمتات بن مرودخ بلأَدان هذه النهزة وأغرى من تحت يده من الطوائف القاطنة عند خليج فارس بالنشوز عن طاعتي، فانصرفت إليهم وأوقعت بهم وولَّيت عليهم مكان نبوزرسمتات أخاه نهيد مرودخ بعد أن ضربت عليه خراجًا، وعدت من بعد ذلك إلى بابل، فلما بلغتها وجدت سجلات هيكل بورسيبا قد استولى عليها رجل كلداني اسمه سماسبني، وفرَّ بها إلى مدينة يقال لها بيت دكُّوري، فتوجهت إليه فيها وانتزعت من يده السجلات المغصوبة وأعدتها إلى موضعها في بورسيبا، ووكلت الاحتفاظ بها إلى نبو سَلِّيم بن بعلز وهو من الثقات القائمين بحرمة الشرائع وصيانة القوانين.
ثم قال: وكان أبي قد غزا إلى بلاد العرب وافتتح مدينة دومة الجندل وهي عاصمة البلاد، فجدَّدت الغارة على تلك البلاد وقهرتها وغنمت منها وأجليت جمًّا غفيرًا من أهلها، وبعد ذلك وفد عليَّ الرسل من عند ملكتهم يحملون إليَّ الهدايا السنية والبضائع التي يعزُّ وجودها في غير البلاد العربية، ويسألونني أن أمنَّ عليهم بالأصنام التي غنمتها من أرضهم، فاستجبت مسئُولهم وأمرت النحاتين، فأصلحوا ما تعطل منها ثم أمرت فنُقِشَت عليها تسابيح آشور وعظائم اسمي المبجَّل، وبعد أن مضت على ذلك مدة من الدهر تغير رأيي فيهم، فوجهت إليهم طابويا إحدى نسائي تتولى الحكم عليهم وقلت لها: اذهبي فقد جعلتك سيدة على العرب كلهم، وعهدت إليها أن تأخذ لي منهم في كل سنة خمسة وستين وِقْرَ جملٍ علاوة على ما كانوا يؤدونه إلى أبي سنحاريب.
ثم ذكر أنه بعد ذلك توجَّه لتدبير إقليم الحجاز وعاصمته إذ ذاك مدينة يثرب وعليها ملك اسمه حسن، فلما قضى نحبه قلد مكانه ابنه يعْلَى وضرب عليه إتاوة جزيلة. ثم أوغل من هناك في بلاد العرب حتى أتى اليمن ودخل حضرموت وغنم منها الغنائم الطائلة وعطف منها على بلاد فارس، فدوَّخها وأسر بعضًا من ملوكها وقفل عنها ظافرًا مؤيدًا، ولما استقرَّ به المقام في نينوى أقام بها صرحًا كبيرًا جعله مدَّخرًا لكنوزه، وفي سنة ٦٨٢ غزا إلى قبرس وأخضع ملوكها العشرة، ثم ارتحل منها إلى مصر فأدخلها في طاعته وترك فيها قومًا من الآشوريين يكونون سياطرة عليها ورقباء خوف الفتنة.
وكان أكثر مقام أسرحدُّون ببابل كما يدل على ذلك كثرة ما له فيها من المباني، وهو آخر من اشتهر من ملوك آشور بالفتوح الكبيرة والغزوات البعيدة والأبنية الحافلة والزخارف الثمينة، حتى يُروَى أن القصور التي من بنائه كانت كلها مكسوَّة بالفضة والذهب تأخذ بالبصر من شدة لمعانها، وفي هذه السنين المتأخرة كشف له اللورد لايرد الإنكليزي المذكور غير مرة في هذا الكتاب قصرًا بناه ببابل لعله من أعظم القصور البابلية، يقول أهل التنقيب: إنه من صنع الفينيقيين الذين أجلاهم معه إلى بابل.
وفي سنة ٦٦٨ مرض أسرحدُّون وأعضلت علته، فجمع إليه أكابر دولته وعقد بحضرتهم بيعة الملك لولده آشوربانيبال، وكان ذلك في اليوم الثاني عشر من شهر أيار ولم يُبْقِ لنفسه سوى مدينة بابل وأعمالها، وكان آشور بانيبال إذا كتب إلى أبيه يفتتح كتابه بقوله: من آشور بانيبال ملك آشور إلى أبي ملك بابل، وعاش أسرحدُّون بعد ذلك سنة ثم أدركته الوفاة.
ولما مات أسرحدُّون خلفه على سرير بابل ولده صَمُلصامغين وهو الذي يسميه المؤرخون بصاوصدوخين، فلم يستقرَّ في الملك حتى هاجت الفتنة في بابل وهو في مقدمة الأحزاب، وقد انضمَّ إليه تعومان ملك عيلام ومن شايعه من الثائرين، وهبَّت أمم مصر والعرب في طلب الاستقلال وانتشر الشغب في جميع الأقاليم الخاضعة لآشور بانيبال، فجرَّد آشور بانيبال جحافله وزحف بها لمقاتلتهم، فكانت بينه وبينهم مواقع شتى دارت فيها الدائرة على الأحزاب، ففرَّق جموعهم وأكثر فيهم من النكال، وفرَّ صاوصدوخين فلجأ إلى أخت له كانت لها شفاعة عند أخيه آشور بانيبال، فتوسل بها إليه أن تسأل له الصفح عن صنيعه، فمنَّ عليه ورده إلى ملكه. ثم سار إلى شوشانة وعيلام ليُحِلَّ بهما نقمته على ممالأتهما لأخيه، فقهرهما جميعًا وقتل تعومان ملك عيلام وحرَّق كثيرًا من المدائن وعاد إلى نينوى وقد انتشرت مهابته في تلك الأقطار.
وكان بعد وفاة تعومان قد استولى على سرير عيلام ملك يقال له أمَّانلدس، فآلى على نفسه أن يقهر آشور بانيبال وجرَّد جيشًا كثيفًا، وسار به يعيث في الممالك الآشورية، واتخذ له معقلًا في الجبال التي بجبال سوزا شحنه بالذخائر والعُدَد، فثار إليه آشور بانيبال يجر وراءه جيشًا من نُخَب قومه، وسار في البلاد لا يمر بمدينة من مدائن عيلام إلا أذاقها البلاء وأعمل فيها السيف والنار، حتى دخل مدينة شوشن وزحف منها إلى سوزا، فدخلها ووضع السيف في أهلها، وغادر فيها جماعة من قومه، ثم مضى بطلب أمَّانلدس حتى انتهى إلى بانون فلم يظفر به فخرَّب المدينة، ثم انقلب من هناك فانثنى على سوزا واستحوذ على ما فيها من الكنوز والذخائر، وهدم الهيكل الذي بها وكان كعبة للعيلاميين يحجُّون إليه كل سنة، ونقل ما فيه من الأصنام إلى نينوى وهو أول خبر وقع فيه ذكر لمعبودات العيلاميين في تواريخ الأمم.
ولما فرغ آشور بانيبال من أمر العيلاميين صوَّب عزيمته نحو عرب الحجاز؛ لما رأى من امتداد ملكهم وتبسُّطهم في أقطار العربية، وكانوا قد استولوا على نجد وجبل شمر والجوف وبادية الشام والعراق، فكانت بينه وبينهم حرب عوان أضرمها عليهم مدة ثلاث سنين متوالية فاستولى على الحيرة والعراق بأسره، وانقضَّ على مدائن الشام فاستفتحها واستحوذ على ما يليها من شمالي العربية، وزحف من هناك إلى نجد فأدخلها في طاعته، ثم سار في طلب هُوَيتع ملك الحجاز وكان في مدينة يثرب، فحاصره فيها زمانًا إلى أن ضايقه أشدَّ المضايقة وسدَّ عليه منافذ النجاة فاستأمن إليه فأمَّنه ودخل المدينة بالسلم، ثم طلب منه اثنين من قواده فلما حضرا بين يديه أمر بهما فَسُلِخَت جلودهما وهما حيان، ثم أمر فصلبوهما وانصرف قافلًا إلى نينوى.
واستقرَّ آشوربانيبال بعد ذلك في نينوى وقد كلَّ من كثرة الغارات والمعارك وانصرف إلى النظر في توثيق أمر الملك وتوفير أسباب الدعة والثروة في رعيته، وأخرج الذهب الذي غنمه في مغازيه فابتنى به مباني من جملتها قصر جعله مستودعًا للصحف والسجلات وشحنه بالآجرِّ المسطرة عليها تواريخ الآشوريين، وأتم القصر الذي شرع فيه سنحاريب جدُّه. ثم توفي سنة ٦٤٧ وكانت مدة ملكه إحدى وعشرين سنة، فتولى مكانه آشور ديليلي الثالث ابنه المعروف عند اليونان بخنيلادان.
ولما اتصل خبر وفاته بفراورتس ملك مادي اغتنم تلك الفرصة فجهز جنوده وسار إلى فارس وكانت في حوزة الآشوريين فأجلاهم عنها وأخرج من كان منهم في المصانع والقلاع، واستولى على البلاد فاشتدَّ ساعده وقويت شوكته، ومذ ذلك شرع في تعزيز نجدته وتكثير عديده وتوفير الأسلحة والذخائر إلى أن كانت سنة ٦٣٥، فحدَّثته نفسه أن يزحف على نينوى اقتداء بما فعل إرباش أحد أسلافه، فألَّب جموعه ونزل عليها فبرز إليه آشور ديليلي والتقى الجيشان في مضيق جبل، فاقتتلا قتالًا شديدًا كانت العاقبة فيه لآشور، فانهزم جيش الماديين وتتبعهم الآشوريون فمزَّقوهم كل ممزق وقُتل فراورتس ملكهم، ومات آشور ديليلي سنة ٦٢٥ بعد أن ملك اثنتين وعشرين سنة ولم يقع إلينا من أخباره غير ما ذُكِر.
وبعد وفاة آشور ديليلي أفضت نوبة الملك إلى أساراقس وهو آخر ملوكهم، فما كاد يستقرُّ على سرير المملكة حتى عادت جيوش مادي في نجدتها كتائب الكلدان، فانقضَّت على نينوى في عدد لا يُحْصَى وفي مقدمتهم كياقصر ملك مادي على ما قدمناه في الكلام على نينوى، فلبثوا حول أسوارها أشهرًا حتى بلغ الجهد من الآشوريين وأعياهم الدفاع عن المدينة، فدخلها كياقصر عَنْوَةً وكان من أمره فيها ما ذُكِر هناك، وفي رواية أنه بينما همَّ بدخول المدينة؛ إذ وفدت عليه الرسل من قومه بأن التتر والأكراد قد أغاروا على بلاده وانبثوا فيها من كل أوب يقتلون وينهبون، فأعجله ذلك عن أخذها وأسرع الأوبة إلى أرضه فأقام فيها يقاتل نحوًا من تسع عشرة سنة حتى دفع الثائرين واطمأنت البلاد، وكانت نينوى في تضاعيف ذلك لا تزداد إلا وهنًا وهرمًا، فلما فرغ كياقصر من نوبة التتر عاود الكرَّة إلى نينوى وقد عقد عزمه على أن ينسفها من أُسُسها ويدكَّها دكة لا تقوم بعدها ليكفي البلاد عسف الآشوريين واستطالتهم، فما تمادى أمر حصاره لها حتى خرَّت بين يديه، فدخلها بجيوشه وأطلق يده فيها بالقتل والسبي والحريق والهدم حتى أعادها قاعًا صفصفًا.