ذكر الدولة البابلية الثانية
قد أسلفنا ما كان من أمر بعليزيس واستيلائه على البلاد الآشورية بعد تدميره لنينوى، ولبثت آشور في طاعته إلى أن تُوفِّي سنة ٨٤٧ على ما مرَّ في موضعه بعدما ملك إحدى وأربعين سنة، فتولى الأمر بعده رجل من سلالة الملك يقال له نبونصَّر، وكان من أمره أنه أول ما تولى الملك أمر بإحراق السجلات والكتابات المحفوظة ليمحو ذكر كل من ملك قبله من الأجانب على بابل، وتقدم إلى رؤساء الأمة أن يبدءُوا بتأريخ جديد يفتتحونه من ٢٦ شباط من السنة المذكورة وهو اليوم الذي رقى فيه سرير الملك، وكان ذلك في اليوم السادس من تأسيس رومية أم المدائن، وفي السنة الأولى من ملكه نهض تغلث فلأسر الرابع وحرر آشور من قبضة الكلدان بعد قتال دام بين الفريقين إلى سنة ٧٤٣ على ما تقدم الكلام عليه، وبعد وفاة نبونصَّر هذا خلفه على الملك ابنه نادبوس ثم عقبه ثلاثة ملوك أفنوا أيامهم بالمعارك والفتن وراح كلهم شهيدًا، وكانت مدة ملكهم جميعًا كما قيَّده بطليمس اليوناني اثنتي عشرة سنة.
وكانت آشور في هذه المدة كلها تتربص نهزة للتخلُّص من عسف الكلدان إلى أن قام صاريوكين على سرير آشور، فجيَّش على دورياقين وأخذها واستتبع أكثر بلاد الكلدان، فلبثت مذ ذاك تحت طاعة الآشوريين، وملك بعد صاريوكين سنحاريب، وبعده أسرحدُّون، ثم آشور بانيبال، ثم آشور ديليلي، وبابل في هذه البرهة كلها لا تزداد إلا ذلًّا ومهانة، وفي أيام آشور ديليلي انتشر أقوام من البربر في البلاد الكلدانية وأكثروا فيها من العيث والفساد، فأرسل آشور ديليلي رجلًا من قِبَلِه يقال له نبوبولصَّر وجهَّزه بالجند والأسلحة وأمره بقتالهم ودفعهم وقلَّده الأمر على بابل فما زال حكمها في يده، إلى أن توفي آشور ديليلي سنة ٦٢٥، فاستبد بنوبولصر بأمر بابل وامتنع من طاعة الآشوريين، ثم تزلف إلى كياقصر ملك مادي فشدَّ أزره وحالفه، ثم عقد لبختنصَّر بن نبوبولصَّر على ابنته فتوثَّقت بينهما عقدة الولاء، وفي أثناء ذلك جهز الفريقان على نينوى كما تقدم خبره إلى أن اشتغل كياقصر بأمر التتر، وتراجع عن نينوى، فسار نبوبولصَّر بمن بقي من الجيش حول أسوارها وقصد الفتوح الآشورية من ممالك الكلدان وغيرها، فجعل يتملك منها حتى أدخلها في حوزته ولم يَبْقَ في يد أساراقس إلا نينوى وأعمالها.
وفي أواخر ملك نبوبولصَّر وفد من مصر جيوش جرَّارة انقضَّت على اليهود، فأذاقتهم البلاء ثم انتشرت من هناك لا تلوي على موضع إلا تركت فيه آثارًا من العيث والدمار حتى وصلت إلى كركميش عند الفرات، فاستحوذت عليها وحصَّنتها استعدادًا للوثوب على بابل على حين غفلة. فتخوَّف نبوبولصَّر عاقبة أمرهم، وإذ رأى نفسه شيخًا سلَّم قيادة الجيش إلى ابنه بختنصَّر ووجَّهه بالأُهبة والرجال، فزحف إلى كركميش حتى التقى بهم واصطلت بين الفريقين مواقع شديدة كان الفوز فيها لبختنصَّر، فأهلك منهم خلقًا لا يُحصَى وفرَّ الباقون بأنفسهم وتشتتوا في البلاد، وفي غضون ذلك نُمي إليه خبر وفاة أبيه فبادر الأوبة إلى بابل، وكان كبراؤها يتوقعون مقدمه، فتسلم أزمة الملك بعد أبيه وتوجَّه لعقد الأمور وكان ذلك سنة ٦٠٧ قبل الميلاد، وفي تلك السنة جهز جيوشه وسار بها إلى البلاد الشامية فأدخلها في طاعته، ثم توجه إلى أورشليم وعليها يومئذ الياقيم أو يهوياقيم فقبض عليه وأوثقه بسلاسل من نحاس في نية إرساله إلى بابل، فافتدى نفسه بمال يرفعه إليه كل سنة، فمنَّ عليه ورده إلى ملكه، وبعد ثلاث سنين امتنع الياقيم من حمل المال إليه فاستأنف بختنصَّر الحملة عليه وسيَّر إليه جيشًا كثيفًا، فنزل على أورشليم وحاصرها حصارًا شديدًا، وفي تلك الأثناء توفي الياقيم فتولى موضعه ابنه يهوياكين، ولبثت المدينة تحت الحصار أشهرًا إلى أن رأى بختنصَّر أن الأمر قد تطاول جدًّا فنهض بنفسه وجند جندًا غير الذي مع قواده، وسار إلى أورشليم وضايقها أشد المضايقة حتى بلغ من أهلها الضنك وأعياهم الثبات على مقاومته، فخرج إليه يهوياكين بنسائه وعبيده وقواده وخصيانه فقبض عليهم بختنصَّر وأرسلهم جملة إلى بابل وأجلى معهم عشرة آلاف نفس من أهل أورشليم من رؤساء وجبابرة وصناع وغيرهم ما خلا أقوامًا من الصعاليك خلفهم في المدينة، وملَّك عليهم مَتَّنْيا عمَّ يهوياكين بعد أن أخذ عليه المواثيق والأيمان المؤكدة وسماه صدقيَّا، واستولى على جميع ما وجده من ذخائر بيت المقدس وكنوز الملك وانقلب راجعًا إلى بابل وكان ذلك سنة ٥٩٩.
فلبث صدقيا مالكًا على أورشليم تسع سنين خاضعًا لبختنصَّر، ثم سوَّلت له نفسه الخروج عن طاعته، فجاهر بالعصيان وأرسل إلى حُفرَع فرعون مصر يستصرخه، فاشتدَّ ذلك على بختنصَّر وعزم على نسف أورشليم من أساسها وأن لا يُيقِي لها باقية تُذكَر، ولم يمضِ على ذلك إلا اليسير حتى أحاطت جيوشه بأورشليم وبنوا عليها البروج ونصبوا الدبابات والمجانيق، فأقامت تحت الحصار ثمانية عشر شهرًا حتى اشتد الجوع في المدينة وذاقوا من الويل ما لم يبقَ معه للصبر طاقة، فعمدوا إلى ثغر السور وفرَّ جميع المقاتلة ليلًا وفيهم الملك، وكان جيش الكلدان محدقًا بالمدينة فتتبعوهم وأدركوا الملك في برية أريحا وقد تفرَّقت عنه جميع جيوشه، فقبضوا عليه وقادوه إلى ربلة من أرض حماة، وكان بها بختنصَّر فقتل بنيه على مرأى منه ثم فقأ عينيه قائلًا: ليكن هذا آخر ما تراه من الدنيا، وبعد ذلك قيده بسلسلتين من نحاس وسيَّره إلى بابل. ثم وجه بختنصَّر واحدًا من قواده يقال له نَبوزَرادان إلى أورشليم، فأحرق بيت المقدس وبلاط الملك وكل بناء بأورشليم، ودكَّ أسوارها إلى الأرض وأجلى من بقي من يهوذا إلى بابل، ولم يُبْقِ إلا شرذمة من مساكينهم ليكونوا أكَرَةً في الأرض، واستعمل عليهم جَدَلْيا بن أحيقام، وحمل كل ما كان في الهيكل من أعمدة وآنية وبعث به إلى بابل، وقاد من وجده من أكابر اليهود إلى ربلة فقتلهم بختنصَّر عن آخرهم.
ولما ذاق بختنصَّر حلاوة النصر وآنس طالع الفوز وجَّه بأسه ناحية فلسطين يريد التهامها لما رأى بها من الثروة والنعيم، وأنزل جيشه على مدينة صور، وساق إليه القوات من العجلات والأسلحة، وأمدَّه بالعديد والنفقات، وأقام يحاصرها نحوًا من ثلاث عشرة سنة حتى دخلها عَنْوَةً، فأسرف فيها بالنكال والهدم والحريق، وسبى منها وغنم الغنائم الطائلة، وكان هذا الفتح سنة ٥٧٤، وبعد ذلك زحف على الأقاليم الموآبية والعمُّونية، وكانوا قد أعدَوا اليهود على قتاله أيام حصاره لأورشليم، فقاتلهم وأكثر فيهم من النكاية والقهر ثم سار إلى البلاد العربية، فدخل الحجاز واليمن ونجدًا وعاد عنها مظفرًا غانمًا، ولم يدع موضعًا في آسيا الغربية إلا تغلَّب عليه وقهر أهله.
ولما فرغ من هذه المعارك وقد اطمأنت البلاد بين يديه ودانت الملوك لشوكته، قفل إلى بابل ومعه الأسرى من كل إقليم وأمة وصرف همه إلى عمارة البلاد فتوفر دخل الدولة خراجًا وغلة، وأكثر من المباني المزخرفة والمصانع المشيدة حتى أصبحت بابل منقطعة القرين والثروة والعزة، وقد ذكرها هيرودوطس إثر سياحته في القرن الخامس قبل الميلاد فقال: وبابل مدينة متناهية في الفخامة والجلال لا يُتصوَّر أن تحاكيها مدينة في رونقٍ وسعة حضارة، وكان الأسرى والغرباء في عهده يتولَّون الإمارات والمناصب العالية كما هو جارٍ بين الأتراك لهذا العهد، وحسبنا ثَبَتًا في ذلك أن دانيال اليهودي — عليه السلام — كان وزيرًا في بلاط الملك تنفذ كلمته في أمم الكلدان بلا معارض.
وكان بختنصَّر من أجلِّ الملوك قدرًا وأعلاهم همة وأسعدهم طالعًا، إلا أنه في آخر مدته غلبت عليه الخيلاء والزهو، وفيما رواه دانيال — عليه السلام — أنه بينا كان في بعض الأيام يختال في قصره تيهًا وبين يديه بابل يرى عظمتها وفخامتها أخذت من نفسه نشوة الكبر ونزت في رأسه سورة العُجب، وقال في نفسه: هذه بابل مقر سلطاني ومباءة مجدي قد شيدتها بقدرتي وعزَّزتها بجلالي، فأي ملك يضاهيني في قوة السلطان وعزة الحول، ولحينه وقع عليه صوت من السماء يقول له: اعلم يا بختنصَّر أن ملكك هذا سيُبْتَزُّ من يدك، وعن قليل ستكون منفيًّا من بين أظهُر البشر، ويكون أليفك وحش الصحراء، وتأكل العشب كالثيران، وتمضي عليك سبعة أزمنة — كذا — وأنت في هذه الحال حتى تعلم أن المُلك لله يُؤْتيه من يشاء. فلما سمع بختنصَّر هذه المقالة دهش، واختل عقله، وخرج فهام في الأرض لا يأوي منزلًا ولا يألف إنسًا حتى انقضى الأجل المضروب له، فثاب إليه رشده وعاد إلى بابل وتسلَّم أزمَّة الملك من يد بعل بسروق الذي كان قد ناب عنه في تلك المدة، وملك بعد ذلك سنة ثم أدركته الوفاة لثلاث وأربعين سنة من وفاة أبيه. انتهى ببعض زيادة.
وبعد وفاة بختنصَّر أفضت نوبة المُلك إلى ابنه البكر أَوِيل مرودخ وكان في مدة مرض أبيه قد سُجن في محبس يهوياكين ملك يهوذا، فلما استقلَّ بالأمر رفع شأن يهوياكين وأعلى منزلته على سائر من عنده من الملوك الذين أسرهم أبوه وجعل له وظيفة دائمة في بلاطه، وكان أويل مرودخ متفرِّغًا للملاهي قليل الاكتراث بشرائع الأمة حتى روى بيروسوس أنه وطئ بنعله كتاب السنة التي جرى عليها سلفاؤه، فكان ذلك داعية إلى حنق الأمة عليه، فثاروا بأجمعهم يطلبون قتله فظفروا به وقضوا عليه بعد سنتين من وفاة بختنصَّر، وكان في مقدمة الثائرين عليه نريكليصر بن بعل بسروق المقدم ذكره، وكان صهرًا لأويل مرودخ متزوجًا بأخته فتسلَّم الملك من بعده واستقرَّ على سرير بابل، وكان الماديون في ذلك العهد قد اشتدت شوكتهم وتعاظم شأنهم، فحدثته نفسه أن يزحف لقتالهم اقتداء بما فعل الذين سلفوه من ملوك بابل، وأنفذ رجالًا من قومه يتجسسون ما عند الماديين ويستبطنون دِخلتهم، وأرسل إلى حلفائه من الملوك يسألهم النجدة فأجابوه، ووجه إليه كرسيوس ملك ليدية جيشًا كثيفًا فنهض يجر جحافله حتى وفد على أرض مادي، وكان الماديون على بيِّنة من قصده، فأرسل كياقصر ملكهم إلى كمبيز ملك فارس، وكانت بينهما مصاهرة أن يوافيه بالعدَّة والمدد، فوجه إليه ثلاثين ألفًا من الجند يقودهم قورش ابنه وانضموا جميعًا يتوقعون مقدم نريكليصر، فلما التقى الجمعان اقتتلوا قتالًا شديدًا، وكان نريكليصر في مقدمة حاميته فأصابه رجل من أتباع قورش بنصل خرق صدره فخرَّ لساعته صريعًا وانفضَّ جيشه وتتبعهم جيش مادي، فمزَّقوهم كل ممزَّقٍ وعادوا عنهم بالأسرى والغنائم وكان ذلك سنة ٥٥٥.
وملك بعد نريكليصر ولد له اسمه لَبُورَسَرْخَد وكان صبيًّا دون البلوغ، فعبث بالمُلك وقتل جمًّا غفيرًا من كبراء دولته ونبلاء عصره لغير جريرة أو لبَدَوَات صبيانية، حتى قيل إنه قتل ابن قائد جيشه لأنه أصاب في الصيد طيرًا لم يصبه هو، ولمَّا سئم الكلدان أمره تمالئُوا عليه وخلعوه لتسعة أشهر من ملكه وبايعوا مكانه ملكًا آخر اسمه نبونيدس من أعقال بختنصَّر، وكان قورش الفارسي في تلك الأثناء قد أغزى إلى أكثر الممالك بآسيا، فألحقها بسلطنته، ولم يبقَ إلا بابل فتقدم إليها بجيشه المنتصر سنة ٥٣٨ وأقام الحصار على سورها الداخلي المحدق ببورسيبا، ففوض نبونيدس إمرة الجيش إلى ابنه بلطشصر، وأقامت المدينة تحت الحصار ما شاء الله إلى أن رأى قورش أن لا سبيل إلى أخذها عَنْوَةً، فعاد إلى استنباط الحيلة، حتى إذا كان في ليلة عيد للكلدان وقد اشتغلوا بالملاهي والشراب، دخل المدينة من ماء الفرات، فلم يشعر الناس إلا وأسلحة قورش تتخطفهم من كل جانب فقُتِل بلطشصر ونجا أبوه إلى بلاد الكرمان، فقضى غابر حياته هناك، ومذ ذاك اضمحلت كلمة الكلدان فلم يُعقَد لهم ملك ولم تثبت لهم جماعة.