مدخل
تأتي هذه النصوص باعتبارها ممارسة كتابية تجريبية، تطمح إلى الوقوف
على الحدود بين الفلسفة والأدب، كأجناس عُرف عنها أنها مستقلة عن بعضها
البعض، على الأقل ضمن النظرية النقدية الكلاسيكية. إنها كتابة تهدف إلى
عبور الحدود التي أقامتها هذه النظرية بين المفهوم والاستعارة، الحقيقة
والجمال، الوضوح والغموض، الدلالة الحاضرة والدلالة المؤجلة؛ لذلك فهي
تحاول الاشتغال بشكل تركيبي. إنها أدب مكتوب بطريقة فلسفية، وفلسفة
مكتوبة بطريقة أدبية، أو بطريقة أخرى تقدم نفسها هذه النصوص كممارسة
جديدة للفلسفة، وكإبداع جديد للممارسة الكتابية. لقد حاولت أن أعبر
جماليًّا عن المفهوم، وأن أرفع الجمال إلى درجة الفكرة.
من الناحية النظرية يمكن أن نقول بأن مفهوم الكتابة المركبة، يمتح من
المفهوم الذي بلوره إدغار موران في مجال الدراسات الفلسفية، حوْل ما
يُعرف بالفكر المركب
La pensées complexe. وهو الفكر الذي أراد له
صاحبُه — كما هو معروف — أن يتجاوز الفكر التبسيطي الذي يضع حدودًا،
وجدرانًا فاصلة بين المعارف، مدعيًا أن كل معرفة تتميز بهُويتها الخاصة
وبمقولاتها الثابتة. من هنا الإعلاء من قيمة الوضوح والنظام والأصل،
بينما الفكر المركَّب على العكس من ذلك، يؤكد على الدور الكبير الذي
تلعبه الصُّدفة والتحول واللااستقرار في تشكيل طبيعة المعرفة. فالفكر
المركب ما هو إلا هذا الحوار الدائم والتفاعل المستمر واللانهائي
للمعارف البشرية.
١
إذا كان هذا الأمر يحدث في الفلسفة، فلماذا لا نتحدث أيضًا عن
الكتابة المركبة
L’écriture complexe
في مجال الإبداع. إن المفاهيم ترحَلُ من خطابٍ إلى آخر، وهذا هو ما
يضمن انفتاح المعرفة وتطورها، وكما قال إدغار موران: «إن المفاهيم
تسافر، ومن الأفضل لها أن تسافر مع علمها أنها تسافر. من الأفضل لها
ألا تسافر بشكل سري.»
٢ لماذا إذن يظلُّ الأدب بعيدًا عن هذا الأمر، وهو الذي كان
سباقًا لتناول هذه الظاهرة من خلال مفاهيم أصبحت الآن شهيرة، كالتناص
وتكسير البنية، وما وراء النص، وغيرها من المفاهيم التي تهدف إلى فتحِ
النص، والدفع به نحو ضفاف كانت مستبعدة منه في الماضي.
الكتابة المركبة، أو ما يُمكن أن نسميه أيضًا بالسَّرد التعددي
المفتوح على التنوع والتعدد، نوع من الكتابة التي تحاول تجاوز التصنيف
الكلاسيكي للأجناس الأدبية؛ إذ ليس ثمة حدود بين الأدب والفن والفلسفة
والشعر والأسطورة والدين، بل وحتى العلم والإبيستمولوجيا، فالكتابة
المركبة تعكس التعقيد La complexité
والتداخل والتبادل الموجود بين هذه الأجناس.
مع ذلك علينا ألا نخلط بين السرد الكبير، والسرديات الكبرى Les Meta récits، فهذه
الأخيرة كما هو معروف انصبَّ عليها نقد جان فرونسوا ليوطار. إنها مجموع
الخطابات المغلقة التي تدعي امتلاكها للمعنى والحقيقة مثل الميتافيزيقا
والحداثة. أما السرد الكبير فهو نوع من الكتابة المفتوحة، المعانقة
لتعدد الحياة، إذ إن الحياة نفسها ما هي إلا سرد كبير، بدأ منذ فجر
التاريخ، وما زال مستمرًّا إلى يومِنا هذا، ونحن نعيشه على شكل مرويات
صغرى تبدأ بميلادنا وتنتهي بموتنا.
كان هذا هو المشروع الذي خاضَه أدب ما بعد الحداثة؛ من خلال العمل
على تكسير القوالب الجمالية الموروثة من الحداثة، القائمة على وحدة
العمل، وبنية السرد الثابتة، والهيمنة المطلقة للسارد، إلى غيرها من
الثوابت التي ميَّزت الأدب الحديث. لم يعد للسرد الما بعد حداثي أية
علاقة بالطابع الوصفي السعيد الذي ميز السرد الكلاسيكي. إنه سرد قلقٌ
متقطع يشكك باستمرار في القيم التي أنتجتها الحداثة. من هنا نفهم
الرغبة في تجاوز البلاغة الجاهزة، واستثمار الكتابة الشذرية، والعبارات
الومضية، والتناص والزبينغ The
ZAPPING، والتشتت واللعب، إلى غيرها من التقنيات التي
عرف بها الأدب الما بعد حداثي.
إن الأفكار الواردة في هذه المقدمة القصيرة، ما هي إلا بذور تتطلَّب
العناية بها أكثر. لم يكن الهدف الدخول في تنظيرات موسعة، بل فقط تقديم
مؤشرات ضرورية لموقعة التجربة، والتعبير عن القناعات الأساسية التي
تتحكم فيها. وتبقى للقارئ كامل الشرعية في التأويل والنقد، واكتشاف
طبيعة الدلالات والمعاني الثاوية خلف هذا «السرد الفلسفي». فالكتابة
كممارسة إبداعية، قد لا تنصاع لحدس الكاتب وإرادته. من هنا يفترض السرد
المتعدد بالضرورة قراءات متعددة، وكل الأمل هو أن تصادف هذه النصوص
قارئًا نبيهًا، لا يتوقف عند مجرد الانطباعات العابرة، أو يمارس عليها
هذه الموضة السائدة اليوم من النقد الأخلاقي الجاهز، وإنما قارئًا يغوص
بحلم ولذة جمالية فيها.
أنا مدين في إنجازِ هذا الكتاب لساعات النت الطويلة، لِلَّيل
والأرَق، والقهوة السوداء التي كانت تعدها زوجتي. كما أشكر كل الأصدقاء
الواقعيين والافتراضيين، الذين ظلوا يسعدونني بتعليقاتهم وتشجيعاتهم
بضرورة إخراج هذا العمل إلى الوجود. وأخص بالذكر في هذا السياق الأستاذ
الفاضل عبد الحميد الزفري الذي تفضَّل بالمراجعة والتدقيق اللغوي، فله
كل الشكر والامتنان.
القصر الكبير، المغرب
٣١ / ٥ / ٢٠١٤م