الجنة
ما أكتبه ليس إلا مجرد طيفٍ لما أفكر فيه.
ما أفكر فيه انعكاسٌ بعيد لحلم عميق يستحيل تذكُّره.
التفكير الحقيقي لا بدَّ أن يكون نوعًا من البوح، شيء ما تقوله بخجل وإذلال ميتافيزيقي في الشفق الداخلي للروح، كأنه اعتراف من الذات تجاهَ نفسها قبل أن يكون تجاهَ الآخرين. أفكر بطريقة لا منطقية، لكنها مع ذلك ليست مضادة للمنطق، أفكر فيما يوجد قبل الفكر. أحب كذلك بإحساس سابق على العاطفة في النقطة التي يختلط فيها الشجَن مع الحزن. دائمًا أدفع فيالق الكلمات كي تعبر فوق الجسور الخشبية المعلقة عاليًا، على امتداد جزيرتين غير منظورتين. وأنا في كل هذا، مثل من يعيش بين صرختين، مشدود لما يوجد قبل البداية، منجذب لما تُخفيه النهاية.
اليوم تحت الشجرة المباركة التي لم تطرح هذه السنة إلا بضع زيتونات معدودات، نزل علي ذلك الإلهام المفاجئ، كوحي بدون كلام فقط برغبة مأزومة في تجاوز حدود الذكاء الذي يفرضه علينا العقل. ذلك أن العقل على ما يبدو لي، يمكن أن يصبح أحيانًا حاجزًا أمام الحقيقة.
كان هناك بعض الحمام يطير ويحط فوق الأشجار، حمام وديع كوداعة هذه اللحظة الباردة. الحمام هو روح الأرض ورغبتها في البوح، كل الهديل الذي تصدره ما هو إلا تعبير عن أحاسيس تختفي وراءها أفكار ما. ثمة حمامة تقترب من قدمي غير عابئة بي باعتباري إنسانًا، ربما نظرت إليَّ كما لو أنني حمامة من نوع آخر، أو شجرة. تعمدت أن أبقى هادئًا حتى لا أزعجها، هذه الحمامة المسكينة التي بعد أن تمضي أيامها المعدودة على الأرض ستذهب إلى الجنة؛ إذ لا يوجد مكان آخر يليق بهذه الكائنات الوديعة غير الفردوس. ثم كيف يمكن أن تكون الجنة جنة بدون حمام؟ قد أتفهم وضع الفئران والأفاعي، بل وحتى التماسيح والذئاب، فما الذي يمكن أن يفعله الفأر في الجنة سوى أن يفسد علي سعادتي؟
فصاحتي اللغوية تخونني في مثل هذه الأمور الدقيقة، ولكن على ما يظهر لي: مصير كل الكائنات واضح؛ الحَمَام في الجنة، والفئران في جهنم.
أم أنكم تعتقدون العكس، هل يمكن أن تكون هناك فئران طيبة، سيغفر الله لها، وحمام خبيث يرسله إلى النار؟
لو كان الأمر يعود لي لرغبت في عدَم معاناة كل الكائنات، حتى العناكب الذئبية التي أرتعب من مجرد رؤيتها. لم لا أفكر في جنة خاصة بالغوريلات؟ ربما يكون هنالك حل، العوالم كثيرة كما تقول نظرية تعدد العوالم. ومرة بين الفينة والأخرى، بعد أن يصيبنا السأم من جنتنا نذهب لزيارة جنة القطط من باب الترويح عن النفس؛ إذ لا يمكن أن نكون سعداء في الجنة إلا إذا كنا أحرارًا، والحرية الأولى تكمن في البحث عما يوجد وراء الجنة.
ليست هناك نهاية للصيرورة حتى في العالم الآخر، هذا شيءٌ جربه آدم جيدًا. الآن يفكر بنو الإنسان في الفردوس باعتباره لغزَ الوجود، لكن غدًا عندما سنبعث هناك — إذا شاءت الأقدار ذلك — سنكتشف أن اللغز الأكبر كان هو هذه الحياة التي عشناها.
لن أفتقد مطلقًا الذباب والصراصير، ولن أطالب بزيارة جنتها؛ فهذه الكائنات تزعجني بشكل شخصي، ولكنني سأصاب بأسًى كبير إن لم تضم الجنة قطبًا ثلجيًّا تتزحلق فوقه طيور البطريق، وتسبح على ضفافه الدلافين. الأكثرية في هذه الحياة تعيش كما لو أنها تقوم بإنجاز واجب مدرسي، القليل من الناس من يعرف حقًّا أن الحياة تنزع منا الحياة، إنها حاجز بيننا وبين أنفسنا. لي الحق في الهذيان وفي الحلم. المشكلة الكبرى بالنسبة لي هي بماذا يمكن أن يحلم الإنسان عندما سيكون في الجنة؟