الصراخ
أستغرب دائمًا من هذا الكائن العجيب الذي اسمه اللغة، هذا الكون اللانهائي في الكون اللانهائي، كيف وجدت هذه اللغة؟ وكيف تطورت حتى أصبحت ما هي عليه الآن؟!
يسبح بي خيالي بعيدًا وراء السحب الكثيفة لما وراء التاريخ، إلى هؤلاء الأسلاف الذين انحدرنا منهم، كيف كانوا يتواصلون ويتكلمون مع بعضهم البعض؟ بدون شك إنهم كانوا يصرخون ويضربون صدورهم كما تفعل القردة، يا للمأساة لو كان علينا أن نفعل مثلهم اليوم، يا للألم والحسرة إذا كان عليَّ أن ألطم رأسي مرارًا وتكرارًا، كما يفعل الطفل الصغير الذي لم يتعلم الكلام بعد، حتى أعبر عن رغبة ما أو عن فكرة باطنية.
كيف يمكننني مثلًا أن أعبر عن الحب أو الإعجاب؟ هل سأعلق نفسي في شجرة وأظل هناك متدليًا منها كغصن منكسر الليل كله؟! أم أسبح في اليم بعيدًا إلى أن أختفي وأعانق الأفق؟
والقرف والملل، كيف يمكنني أن أقوله هو أيضًا بدون لغة، هل أشق الشريان السباتي، أم أقف عاريًا كما ولدتني أمي وسط عيد غفير بالناس. ما السبيل للتفكير في الحرية والتعبير عنها في غياب اللغة؟ قد لا تكون لي طريقة أخرى سوى أن أصنع لنفسي كوخًا في البرية، وأكتفي بمطاردة الوحيش، حاملًا هراوة غليظة أو حجارة مسنونة.
يبدو كما لو أن اللغة نعمة، أو نور نزل من السماء، ولماذا الاستغراب؟ كل الأنوار تنزل من السماء. ليس للغة بداية أو نهاية وكذلك السماء. يجب على الإنسان أن يتكلم ويتكلم باستمرار؛ حتى لا ينطفئ هذا النور داخله، كمثل ذلك الذي يريد أن يحافظ على جذوة نار مشتعلة، عليه أن يذكيها دائمًا بالمزيد من الحطب.
هذه هي اللغة، لهب يشتعل في صدورنا. هكذا هي المسألة في مجملها، خلقت اللغة من النور، والأفكار من الهواء — رءُوسنا دائمًا معلقة هناك في السحب — أما المشاعر والعواطف فهي الماء الذي يجري بينهما.
نحن نتكلم حتى لا نصرخ، ولا نلطم صدورنا ورءُوسنا، ولكن في العمق اللغة هي كذلك صرخة، الصرخة ذاتها التي كان يطلقها أسلافنا في الليل البهيم للبشرية، نحن ما زلنا بدورنا نصرخ، وإن كان بطريقة أخرى، نصرخ بواسطة اللغة، نستغيث وننادي الأعماق بالكلمات.
يا إلهي، الآن عرفت ما هذا الشيء الذي ندعوه باللغة، الكلمات صرخات والجُمل أنين، الكلام جذوة مشتعلة بين الأضلع الاثنى عشر. اللغة صرخة مديدة عبر الزمان المديد.