السرد الكبير
أنا من هذه الناحية فاشل على المستوى الكانطي، ما دمت غير قادر على وضع أي حدود بين الخطابات والكيانات. كيف يمكنني أن أرى النجوم دون أن أرى السماء والليل والبحر والأبدية جنبًا إلى جنب؟ كيف يمكنني أن أدرك نفسي دون أن أدرك الناس الآخرين الذين أعرفهم، والذين لا أعرفهم إلى أن أصل إلى حدود البشرية وما وراء حدود البشرية؟
كل مكونات العالم موضوعة في سلسلة لا نهائية من الترابطات، الحياة عبارة عن سرد كبير، وإذا كان هناك من قلق فلسفي؛ فلن يكون سوى إدراك طبيعة هذه الكلية السردية، تقديم وصفة شاملة لهذا الحساء في مجملِه.
الآن وأنا في منتصف العمر أو يزيد، أعتبر أن مجمل الحكمة التي تعلمتها طوال هذه السنين، هي أن الحياة يمكن التعبير عنها على شكل اختلاط معمم للأشياء، تجاور كلي للمعارف. كنت دائمًا أحلم بكتابة متون يصعب على الآخرين تصنيفها؛ لأن في داخلها يتحرك هذا الحساء المكون من العلم والفلسفة والدين وباقي الفنون والمعارف الأخرى. في هذه الحدود التي تلتقي فيها الحكمة مع الدين، والجمال مع العلم، والموسيقى مع الصمت، والفنون التشكيلية مع كينونة الضوء.
لدي شعور بأن الانحطاط الحضاري بدأ مع ميلاد التخصصات، لدينا اليوم متخصصون في كل شيء بدءًا من النجوم النيوترونية وإلى غاية الكلاب السَّلوقية، وإذا كان لديك مأتم هناك متخصصون حتى في البكاء والعويل، وآخرون يقفون على أبواب المحاكم متخصصون في شهادات الزور، جاهزون للعمل متى طلبهم أحدهم.
هكذا لدينا اليوم مِزَق من المعرفة، أما المعرفة ذاتها فقد ضاعت، مزق من الحياة، أما كلية الحياة فقد تبخَّرت، لدينا السنوات التي تمضي وليس الزمان، لدينا فيض هائل في المعلومات وليس الحقيقة، تراكم كبير في خطابات الحب، وليس الحب ذاته.
لطالما حلمت بهذا الطرس المعرفي، طرس الحياة أريد أن أضرب ابن عربي كمعامل أسِي في معادلة شروندنغر، وأن أستخرج الدوران المغزلي للمادة من رقائق مولانا جلال الدين الرومي، أن أسرد المطلق الهيجيلي على طريقة ألف ليلة وليلة، أن أحلم مستيقظًا وأمشي جالسًا، أن أكون عالمًا ومتصوفًا، فيلسوفًا وشاعرًا، نبيًّا ومجنونًا.