ماذا لو
التفكير محنة كبيرة.
عندما أنظر في قدر الإنسان وفيما بعد الإنسان.
أصير مثل ذئب يعوي تحت القمر.
ماذا تطلب مني أن أبوح به أكثر من هذا؟ أنت تعرف أيضًا أن كل ما هو جميل سيصبح يومًا ما بشعًا ومخيفًا. كل ما هو جميل سيبتلعه يومًا ما جوف العدم.
ولكنها مسألة معروفة يا صديقي، وقد تعلمنا عبر مر الزمان كيف نتحايل عليها. الحضارة برُمَّتها ما هي إلا التفاف على الحقيقة التي ترميها السماء أمام وجوهنا وهي الموت. الكتابة أيضًا تحايُل على الزمان، نحن نفكر ونكتب حتى ننسى أننا كائنات فانية، نفعل ذلك كي نصنع الخلود لأنفسنا ولو كان عابرًا. نبني الحضارة، نخترع ونفكر، ونقول الشعر لأننا نريد أن نختبئ من حقيقة الموت، إذ أي لُجٍّ آخر يمكن أن نغمد فيه أرواحنا؟
ولكن، يا أشعث الرأس أيها المسكين الذي يعتقد أنه من خلال إدراك حقيقة الموت، يمكن أن يدرك حقيقة الحياة. استقم الآن في جلستك؛ لأن ما سأقوله لك قد لا تقوى على حمله العظام اللينة لجمجمتك. المشكلة برمتها تتلخص في كلمتين: ماذا لو، ماذا لو تمكن الإنسان في يوم من الأيام من إدراك الخلود، سواء بمساعدة العلم، أو في حياة أخرى بتدخل المشيئة الإلهية؟ هل سنعتبر أن كل معاناة الجنس البشري ستنتهي، بالخلود الأرضي الذي يعدنا به العلم، أو بالخلود السماوي الذي يبشرنا به الله؟
عليك أن تعرف أن النِّعَم لا تعطانا إلا في المر، سواء في هذه الحياة أو في حياة أخرى. لن نكون حكماء دون معرفة هذا الأمر، كل من عبر هذا الدرب يعرف هذا، فلماذا البكاء على اللانهاية؟ العصور معادن يا أختاه! هناك العصر البرونزي، والعصر الحديدي، والعصر الذهبي … أما عصرنا هذا فهو الوحيد الذي لا يوجد معدن خاص به يميِّزه؛ لذلك ندعوه عصر الفراغ، وإذا أمكنني أن أختار له مادة أخرى يُعرَف بها؛ فسأقول عصر القار والإسمنت. البشرية تستحم وسط قفار الروح، بينما غيوم الله تسافر كدمامل في السماء، والأرض المثقلة بالأحزان، تواصل عرجاء دورانها الواسع حول اللانهاية. أنا مع ما يقال ومع ما لا يُقال، فوق الماء وتحت السماء. مع ما يُرى ومع ما لا يُرى، لعين البشرية الواهنة. مع ما يُدرَك، ومع ما لا يُدرَك لعقل الإنسان الذي يشبه عقلَ قرد فوق القمر.
كيف يمكن أن يكون ما يستبعدك هو ما ينقدك؟ اسمع صوت هذا العواء القادم من وراء الجبال، اسمع للسماء وهي تتجهَّم بحدقتها الواسعة، للبحر الغاضب وهو يضرب قبضته على الشاطئ. يا أختاه! نحن غرقى الليل، إخوة القدر، سكارى النور، وُلِدنا في سرير الظلام، أطفال النجمة السابعة. انظر، انظر عميقًا في الأفق سترى ملائكة سُودًا يرتدون ثيابًا من سخام، ويحملون اللوح الأخير لقِباب السماء.
ماذا يوجد فوق رءُوس البشر غير الأسرار؟ الدودة الفضية داخل الهياتم تعرف أنه ليس عليها أن تطير حتى تسقط في الهاوية. هل ستتبعني وراء استعاراتي؟ أنت الذي عشت طوال حياتك تخاف من الواقع ومن الحلم معًا، ستجد نفسك في هذا اللج المظلم للملح الأسود. فعندما يحكم الأموات الأحياء، كل ما يتبقى لهؤلاء فعله هو تسريع موتهم؛ كي يلتحقوا بملكوت أسيادهم. ولكنني لن أستسلم أو أطأطئ الرأس سوى لليراع في يدي. ماذا تفضلون؟ أن تكونوا ظلالًا للجبال السامقة، أم صخرة في المنحدر؟
أنت تعتقد إذن أنك ستتخلص من شرطك الإنساني، وستقبض الثمن الإلهي على آلامك ومعاناتك هناك في العليين، وأننا سنتعرف على أنفسنا بطريقة أفضل ولربما يكون سر الوجود برمَّته قد انجلى أمام ناظرينا. اسمح لي أن أذكرك بذلك السؤال المرعب: ماذا لو؟ ماذا لو قام الإنسان مثلًا بخطيئة أخرى أفظع من الأولى؟ الجنة هي الوجود بلا خطيئة، ولكن هل هذا ممكن، ماذا يوجد فيما وراء هذه الحقيقة؟ هذه هي المهمة التي لا تنتهي، هذا هو شَرَك الوجود وفخه، لقد سبق أن جرَّبنا هذا الأمر؛ إذ إن قلب الإنسان مليءٌ بالضلال، إنه شيء نعرفه جميعًا. انظر حتى الحيوانات لا تعرف هذا الضلال، الذئاب مثلًا طيبة مع بعضها البعض، وحده الإنسان الذي يمكن أن يكون ذئبًا حتى للذئب، وليس فقط لأخيه الإنسان كما قيل.
الحياة شبيهة ببيت عنكبوت، مشدود إلى خيطَيْن رفيعين، هما الرعب والرجاء.
أختاه!
هذا هو منتهى ما يمكن أن يقال أو يدرك. باطل هذا الليل، وباطلة هذه المدينة تحت صفرة الحديد، طبول قادمة من بعيد، طبول تدق لحنًا منفردًا، بدأت البشرية بالبراءة وستنتهي بالبراءة. بكائيات فوق المنحدر وفي الزوايا الخفيَّة حيث يتقاطع الرمل مع الماء. هنالك نموت، وفي اليد تذبل الزهرة نموت، كما لو كنا أجنة بلا أرحام نموت. هكذا إذن يا ألمي الإنجازات العظيمة ستظل بدون إنجاز.