لغة البدء
بدأ الكون بالصمت وسينتهي بالصمت. ما جدوى الكلام إذن؟
هل هو كابوس وسط حلم، أم حلم وسط كابوس؟ كيف يمكن للإنسان أن يحلم نفس الحلم على مر الزمان؟ منذ طفولتي وإلى الآن، أرى نفسي وقد انقلب بي السرير؛ كي أغوص في عمق لا قرار له، حيث لا شيء يمكن أن أتشبث به أو أمسكه، مجرد سقوط على شكل تحليق، أو تحليق على شكل سقوط. شكل من أشكال السفر خارج الزمان والمكان. لقد نمت في الحياة، واستيقظت في الحلم.
كلا، الأمر لا يتعلق لا بكرامات ولا بمعجزات، لم أسِرْ فوق ماء، ولم تكلمني أية حوريات، بل بحقيقة أكثر حقيقة من الواقع ومن المحسوس. نعم هذا هو ما حدث بالفعل، أردت أن أتكلم، لكنني وجدت نفسي فقدت تحكمي في اللغة، الكلمات تخرج بشكلٍ حر، وكأنها تعلن عن وجودها وميلادها الخاص. كلما أردت النطق بكلمة تخرج كلمة أخرى. ما هذا الذي يحدث، أي ورطة جديدة أوقعت نفسي فيها؟
ولكن ما حاجتي لهذه اللغة؟ فأنا على أي حال لن أموت بدونها. الكلمة تحجب حقيقة الشيء، الكلمة هي جدار بيننا وبين حقيقة العالم. الطيور فوق الأشجار موجودة منذ الأزَل، وهي تنشد دون كلمات، وكذلك غناء الحيتان، ومواء القطط. ولكن هل هذه الحيوانات واعية بذاتها؟ هل تعبر عن ذاتها من خلال ما تصدره من أصوات؟ ومن أدراني أنا ربما تملك وعيًا خاصًّا بها، وعيًا غيرَ بَشَري.
ثم بدأت أدرك أنني أتحدَّث عن أشياء غير موجودة، فحدود اللغة تتجاوز حدود الكون، هذا هو مكر اللغة، ما أقوله أقوله دائمًا بلساني، ولكن في لغة أخرى. كل كلام هو هروب نحو الأمام، نحو لغة مفقودة ومعنى غائب. أُصبت بسيلان لغوي، لا أتحكم في أي شيء، بالكاد أراقب شهيقي وزفيري.
هل يمكن للغة أن تقول كل شيء؟ الجواب على ما أعتقد هو لا، ولكن مع ذلك هذه هي المهمة المستحيلة للشاعر، إنه يصارع طيلة حياته من أجل تطويع الكلمات؛ كي يتمكن من قول كل شيء. البعض يقضي في منتصف الطريق وله شرف المحاولة، البعض الآخر يذهب بعيدًا في الأمر ويستمر بعناد، ولكن دون جدوى. أما القلة الباقية وهي معدودة على رءُوس الأصابع، فهي تلامس هذا الكل، أو على الأقل تقترب وتشير إليه، ولكنها تفعل ذلك بعد أن تكون كل الكلمات قد نفدت منها، ولم يتبقَّ لها إلا الصمت.