من ذكريات لبنان
سألتني مرة من بنات لبنان، صديقة صابحة الوجه أديبة: «ألم تلهمك هذه المناظر شيئًا؟»
ومالت بخصرها اللين وراء ذراعها البضة وهي تشير إلى الجبال والشجر والماء المنحدر وراء الصخور. فقلت: «كلا.»
قالت مستغربة: «كيف؟»
قلت: «ينقصني مقدار من فيض الحياة لا سبيل إلى الشعر إلا به، ولا سبيل إليه إلا بالحب الذي يفجِّر ينابيع النفس، ولهذا ترينني يا فتاتي جافًّا ذاويًا.»
قالت — وقد آثرت المجاملة: «كلا، إنك ما زلت شابًّا.»
قلت: «خسارة.»
قالت: «ماذا؟»
قلت: «عيناكِ.»
قالت — وقد أطلقت دهشة المفاجأة لسانها بالعامية: «شو؟»
قلت: «نعم جميلتان … ساحرتان … ولكنهما لا تبصران.»
فصاحت بي: «العمى.»
فضحكت، ولم يسؤني أنها انفجرت بما يشبه اللعن، وقلت لنفسي هذا كلام العادة، لا السخط والنقمة. ثم رأيتها تضحك مثلي، فتذكرت قولي — أيام كان لي بالشعر ولوع:
ولما قرت الضجة عادت تسأل: «ألم تعشق قط؟»
فقلت وأنا أعابثها وأجد في آنٍ معًا: «يا حسرة! من لا يكون له من بنات لبنان حبيب؟ ولو كنت أستطيع أن أعشق لعشقت هنا، ولو كان في نفسي دماء لعدت إلى قومي شاعرًا، ولكن قلبي يا فتاتي غليظ، وعيني دائرة لا تتلبث، ونفسي حائرة لا تسكن، وعقلي طائر لا يقر، وما يدريني يا صاحبتي، لعلي دفنت قلبي قدمًا يوم نفضت اليدين من بعض التراب، وكم قلت آه من الحرمان، وغيري يقولها من الوجدان، وليست الحسرة أني لا أجد، ولكنما الحسرة أني لا أصبو. ورحم الله صنوي الجامد المتنبي، فقد عرف هذا وبلا مرارته، فدهش ونظر في أنحاء نفسه وصرخ «أصخرة أنا؟» ولولا عادة الكبت لأطلقت أقوى من صرخته. فما أعرفني رف قلبي سرورًا، أو عصره الألم، أو ألعجه الحنين، أو أطاره فزع أو جزع، أو أضناه قلق. نعم تضحك السن وتلمع العين، أو يتقلص الوجه وترتسم على معارفه الكآبة، ويبهت اللون ويمتقع ويجول اللحظ باحثًا مترقبًا، ولكن الذي في ضمير الفؤاد هواء.»
ونظرت إليها فرأيت الدمع متحيرًا في جفنيها، فلعنت نفسي واستدركت فقلت — وراحتي على كتفها: «لا تصدقي مقالتي يا فتاتي.»
فابتسمت وقالت: «لقد كدتَ تُبكيني، وقد كان قلبي يحدثني أنك تكذب، ولكن كلامك مع ذلك خدعني. إنك تحسن التمثيل …»
قلت: «إلا في الحب. فما أعرفه يجدي معه التمثيل والتكلف، لأنه يطل من العينين وتارة تسمع زغردة ناره، ويرى لهبها حتى من تحت الثياب.»
فصفَّقتْ فرحة — لا أدري لماذا — وقالت: «إذن عشقتَ؟»
قلت: «كثير … عدد شعر رأسي … ولكني أفيق وأصحو في كل مرة بعد أربع وعشرين ساعة ليس إلا.»
فزوت ما بين عينيها وهزت رأسها مستفسرة. فقلت: «نعم، أربع وعشرون ساعة فقط لكل معشوقة، وأسقطي من هذه الساعات الأربع والعشرين ما يذهب في النوم وفي كتابة المقالات الغرَّاوات، أعني السعي وراء الرزق، وفي الكلام الفارغ وفي غير ذلك من مشاغل الحياة، فتكون النتيجة أن مدة عشقي لكل امرأة ممن عشقت لا تزيد على ساعة أو نصفها.»
فصاحت ضاحكة: «بس؟»
قلت: «يا بنت حواء، حسبك هذا فلا تكوني طماعة.»
قالت: «كيف؟»
قلت: «هي مسألة حسابية …»
فاستغربتْ خلط الحساب بالشعر والحب، وقالت: «حسابية؟»
قلت: «نعم. وأجيبيني من غير أن تقاطعيني، وإلا جعلت نصف الساعة نصف دقيقة: كم عدد الجميلات الجديرات بالحب في هذه الدنيا الطويلة العريضة أو حتى في لبنان بمجرده؟»
فابتسمت وهزت كتفيها. فقلت لأستفزها: «أحسبُكِ تريدين أن تقولي واحدة؟»
فأسرعت تقول: «لا لا لا … كثير …»
فقلت: «هذا حسن. فكم ينبغي أن أهب كل واحدة من عمري؟ واذكري أن عددهن غير محدود، وأن عمري محدود، وأن طرَفَي الطفولة والشيخوخة لا يحسبان، وأن كل ساعة تشهد مولد جميلة، وأن …»
فقاطعتني محتجة: «ولكن هذا غير معقول …»
فقطَّبتُ وسألتُها: «غير معقول؟ … ماذا؟»
قالت: «كيف تريد أن تحب النساء كلهن؟»
قلت: «وما المانع؟ أحب المرأة على العموم، وإن لم أعشق واحدة على الخصوص.»
قالت: «لست فاهمة.»
قلت: «دعي هذا … ألست تعترفين بأن الجديرات بالحب لا آخر لعددهن؟ فكيف تريدين مني أن أخصَّ واحدة منهن بحبي وأن أحرم الباقيات كأنهن غير أهلٍ للحب؟ ألا يكون هذا غبنًا لهن وتقصيرًا مني؟»
قالت: «إنك تمزح.»
قلت: «بل أنا جاد جدًّا.»
قالت: «لا أصدق.»
قلت: «شأنك، فما أستطيع إرغامك.»
قالت: «إني أصدق الآن ما سمعته.»
قلت: «الحمد لله …»
قالت: «إنما أعني ما سمعته عنك …»
فسألتها: «وبماذا سعى بي عندك الحساد والوشاة؟»
فألقت إليَّ نظرة وقالت: «قالوا إن الإنسان لا يعرف لك جدًّا من هزل.»
فسألتها: «وصدَّقتِهِم؟»
فرفعت إليَّ عينها وسألتني: «هل كذبوا؟»
قلت: «ليتني أستطيع أن أرميهم بذاك.»
قالت: «إذن لماذا تقول هذا الكلام الفارغ؟»
قلت: «سامحك الله يا فتاتي وغفر لك …»
قالت: «أربع وعشرون ساعة …؟ هل تضحك علي؟»
قلت: «لا تغلطي يا فتاتي … هو نصف ساعة فقط … ولا مطمع لبنت حواء معي في أطول منه.»
فقرصتْ ذراعي فصرختُ وقلتُ: «ثم أنساها ولو أدمى القرص جلدي.»
فضحكت وقالت: «إنك عنيد.»
وقد أعياني أن أخرجها من خصوصها على العموم، وأن أفهمها أن عجزي عن الحب ليس معناه أنها هي في عيني غير أهل له، أو أني أرى في جمالها نقصًا يصرفني عنه ويزهدني فيه، وعبثًا حاولت أن أصحح لها هذا الخطأ وأن أبين أن كون امرأة معينة جميلة ليس من مقتضياته أن أكون أنا مكلفًا أن أحبها إذا رأيتها أو جالستها، وأن الحب كالزكام يصاب به المرء من حيث لا يحتسب، وأنه لو خُيِّر لاختار النجاة، وأن الذنب ليس لي إذا لم أعشق، كما أن السليم لا يلام إذا لم يزكم.
وتعبت من الكلام، فقلت: «ألا نجلس ونشرب من هذا الماء البارد ونطفئ به وقدة هذا الحوار!»
فملنا إلى النبع وتناولنا منه براحتينا، وأحسست وأنا أشرب أن هذه الكرعة الروية أجدى وأردُّ للنفس من كل هذا الجدل العقيم، وكان وجهها إلى جانب وجهي — وهي حانية ويدها ممدودة إلى الماء — فنازعتني نفسي أن أقبِّلها، واشتهيت أن أضع شفتي على خدها الأسيل، ولكني أحجمت وكبحت نفسي على عادتي، وقلت وأنا أعتدل واقفًا: «لقد كنت أستحقها.»
فلم تفهم — ولها العذر — وسألت: «ماذا؟»
قلت: «قبلة فطمت نفسي عنها وأضعت فرصتها.»
فلم تفهم هذا أيضًا — أو لعلها فهمت وتبالهت — وسألت: «قبلة؟ ممن …؟»
قلت بحدة: «منك أنت … فقد حركت نفسي وأتعبتني.»
فضحكت وقالت: «أوه … أوه …»
فقلت وأنا مغيظ: «أوه … أوه … أهذا كل ما عندك؟»
فقالت معتذرة: «ولكن ما ذنبي أنا؟»
قلت: «صَدَقْتِ … أنا الذي أضاع الفرصة ثم عاد يتحسر عليها.»
قالت: «أتتكلم جادًّا؟»
قلت: «نعم، ولكني لا أشتهي الآن شيئًا، زالت الرغبة بزوال اللحظة وما انطوت عليه من قوة الإغراء.»
قالت: «ولكني لا أستحق أن تقبلني … لست بجميلة …»
قلت: «يا بنت حواء مَن تخدعين؟ إنك جميلة وتعرفين ذلك، ولكنه يسرُّك أن تسمعي الثناء على حسنك من أفواه الرجال، ولو كنتِ تكرهينهم، بل إنك لا تكرهين منهم كضنِّهم عليك بالثناء، ولكني لا أنوي أن أجاريك فأقصري يرحمك الله واحذري أن تهيجي هذا البركان النائم.»
قالت: «مسكين … إني آسفة.»
قلت: «لا أسف … هبيني قبَّلتك، فماذا إذن … ماذا كنت أفيد … ما عمر قبلة … أنت هكذا أحلى في خيالي.»
قالت: «أويعيش الناس بالخيال؟»
قلت: «أتراني أخطأت إذ لم أقبلك؟»
فرشَّتني بالماء، فطوَّقتها وأهويت بفمي على شفتيها وخديها وعينيها وشعرها … وقلت وأنا أفك أسارها: «هذا عقابك.»
فعادت إلى الماء ترشني به لأني قبلتها، وكانت ترشني لأني لم أفعل، فما أشد حيرة الرجل مع المرأة وأعظم جهله بها!