ميمي
جلس «طلبة» في القطار العائد به من مصيفه في الإسكندرية يفكر في «وردة»، فما استطاعت الإسكندرية بمن حفلت بهن من الفتيات اللاتي جئن من كل مدينة وقرية ليعرضن جمالهن وفتنتهن على شواطئ البحر أن تنسيه سحرها ودلها أو تصرفه عنها وتحول قلبه إلى سواها، وإن الإسكندرية لمفسدة أي مفسدة — كذلك جعل يقول لنفسه وهو يهتز في مقعده من فرط السرعة التي يعدو بها القطار — ماذا يظن هؤلاء الآباء الذين يتركون بناتهم يتجردن على الشاطئ، ويصبحن لا هن كاسيات ولا هن عاريات؟
ولم يكن طلبة من الطراز القديم أو المحافظ، فقد كان ابن عصره الذي لم يشهد سواه، ولكنه كان فتى أكسبته حياته وعمله اتزانًا قلما يتاح في مثل هذه السن، فقد كان صيدليًّا، والصيدلي يرى كل صنوف الناس، ولا يسعه وهو يستقبل الزبائن ويرحب بهم ويتلقى «أوامرهم» ويصغي إلى حديثهم وثرثرتهم في أحيان كثيرة إلا أن ينظر ويفكر ويقارن ويقابل، وإلا أن يقف على كثير مما يخفى على الشبان أمثاله في أعمال أخرى، وإلا أن يلم بحالات قلما تمر نظائرها بأنداده، وقد أفاد من عمله في الصيدلة صبرًا وحلمًا وتسامحًا وحكمة ومقدارًا من «الحصانة» تمنع أن يغتر المرء بالظواهر، وتلك بعض ثمار المعرفة التي اكتسبها في ذلك المعرض الذي يسميه الناس «الصيدلية» ولا يخطر لهم أنه يمكن أن يرى فيها غير العقاقير.
وخطر لطلبة والقطار ينهب به الأرض أن من الحماقة أن يتوهم الآباء أن عرض بناتهن على الشواطئ يعجل بتزويجهن، ورجَّه القطار وهو يفكر في ذلك فكأنما رج ما في رأسه أيضًا فعاد يسأل نفسه: ولكن هل هم يعرضون بناتهم ليزوجوهن؟ أليس الأصح أن يقول إن تيار الزمن جرفهم، وأنهم لم يستطيعوا مقاومته فهم لا يعنون شيئًا ولا يريدون أمرًا، وإنما ينزلون على حكم التيار؟ على أن المهم على كل حال أن هذا العرض يزيغ العين، والرجل لا يستطيع بعد أن يرى كل هذا الجمال المتنوع المحشود أن يروض نفسه على الصبر على طعام واحد، وطبيعي أن يقنع بالفجلة وكسرة الخبز اليابسة من لم يجلس إلى الموائد المثقلة بألوان الآكال الشهية، ولكنه إذا جرَّب هذه الطعوم المغرية فإنه لا يكون آدميًّا إذا ظل يعد الفجلة نعمة من الله.
وسأل نفسه مرة أخرى: «ولكن هل معنى هذا أن الأولى أن ترد البنات عن حمامات البحر وما إليها؟» وهز رأسه وقال لنفسه: «مستحيل، ثم إن الحياة لا تطيب بذلك لو تيسر … كان يمكن أن تطيب لو أننا ظللنا لا نرى على الشاطئ كل هذه المفاتن، ولكنا أكلنا من شجرة المعرفة، فلا قناعة لنا بشيء بعد الآن، ولا سبيل إلى الصبر على الحرمان …»
واعتدل في مقعده وسأل نفسه هذا السؤال: «إذا كان الزواج هو الغاية … لا تقل الغاية … فإنه على كل حال ليس إلا واسطة، ولكن نقول إذا كان هذا الزواج هو النظام المقرر فأيهما خير للرجل المدرك المفكر … أن يتزوج واحدة من أولئك اللواتي لا يخرجن إلى البحر في ثياب الاستحمام ولا يعرفن السينما، ولا يبرزن للرجال، ولا يعرفن من الحياة إلا الأكل والكسوة والجلوس على الحشايا، ولا تخشى عليهن الفتنة لأنهن لا يتعرضن لها، أو أن يتزوج واحدة من هؤلاء المرحات الصابحات الوجوه، البضات الأجسام، الرشيقات القوام، اللواتي يحسن الحديث والسمر، ويعرفن كيف يمتعن ويستمتعن، ويجعلن الحياة كلها فرحة دائمة، ونعيمًا مقيمًا، ومتعة مستمرة، لكثرة ما فيها من التنوع؟»
وهز رأسه مرة أخرى وقال: «مشكل والله، وعقدة لا أعرف لها حلًّا … فتلك الجاهلة لا تكون إلا مملة، وإن كان المرء يسعه أن يطمئن وأن يسكن، وتلك المتعلمة المدنية البرزة أحلى وأمتع — في أول الأمر على الأقل — ولكن السكرة تذهب، وتزول النشوة، وتجيء الفكرة، ويحتاج المرء إلى السكون والرضى والاطمئنان … الراحة على العموم … وأين الراحة مع الخفة والتقلقل الدائم والشك الذي لا سبيل إلا إليه ولا حيلة فيه؟»
وطال تفكيره في هذا وما هو منه بسبيل، ولم يجد في هذا راحة، ولم يستطع أن يهتدي إلى رأي فيما عرض على نفسه. فانتقل إلى «وردة» وشرع يتصورها على هواه، وكان يدرك وهو يفعل ذلك أنه يفيض عليها من خياله، ولكنه كان يقول لنفسه إن الخيال أمتع من الحقيقة، وإن الجمال الذي لا يحرك الخيال لا قيمة له، وإن الجمال الحقيقي هو الذي يجدد نفسه في خاطرك، ويعرض عليك من صوره وفتنه ألوانًا ومعاني لا ينضب لها معين، وهذه مزية وردة، وإن كانت أيضًا آفتها، فإنها زئبقية … لا تستقر حقيقتها — إذا كانت لها حقيقة — ولا تستطيع أن تتناولها وتقول هذه هي … كلا … مستحيل …
وارتفعت لعينيه وهو يفكر في «زئبقية» وردة صورة «ميمي» الوديعة … ميمي اليتيمة التي لم يبقَ لها من الأهل سواه. فهي في بيته — مذ جاءت بها أمه — كالأخت، أو إذا شئت، كالخادمة، تقضي له حاجاته، وتعد له أشياءه، وتتعهد البيت، وتدبر أموره، في سكون ومع الابتسام الدائم، ومن غير تأفف أو ضجر، ولا تطلب إلا أن يكون راضيًا ناعم البال قرير العين … أتراها تحبه؟ إن هناك ما يشير إلى ذلك ويشي به، ولكنها لا تقول شيئًا، ولا تجترئ على أكثر من ابتسامة السرور حين يسرها، ويخيل إليه أحيانًا أنها كانت تبكي أو أن الدمع يتحير في عينيها، ولكنه لا يدري … لا يدري … ثم إنه لا يريد أن تحبه، كلا … فإنه يحب غيرها …
وجرى بباله البيت المشهور وهو يتناول حقيبته وينزل من القطار في محطة القاهرة:
فقال بصوت مسموع: «أعوذ بالله! ما هذه السخافة؟ قد تكون ميمي مجنونة بي، وإني لمجنون بوردة، ولكن وردة على التحقيق لا تحب أحدًا غيري … نعم لا يبدو أنها تحبني كما أشتهي وأتمنى، ولكن من فضل الله أنها لا تحب سواي … هذا شيء على كل حال … يمكن أن أقتنع به الآن … ومع الارتياح … ولكن من يدري …؟»
وساورته الشكوك وهو يشتري في طريقه طاقة من الأزاهير البيضاء التي يعرف أن وردة تحبها، وظلت تساوره وهو يدخل شقته ويلقي بالحقيبة، ويتلقى تحية ميمي بفتور لا يعنيه، وقد سخط على نفسه وأوسعها تقريعًا وذمًّا، وقال لها: «هذه وردة يشرق وجهها لك، وتكاد تفتح ذراعيها، وتبدو كأنها تريد أن تضمك إلى صدرها الناهد … الحق أن صدرها جميل … وأنت تقابلها بهذا الفتور؟ … إن هذه خسة، ماذا جنت الفتاة حتى تصدمها هذه الصدمة؟ وتدفع في صدرها بجمع يدك؟ آه صدرها … الحق إنه جميل … قدها كله جميل، فيها لين، تنساب كالماء الرقراق … ثم إنها وديعة، راضية، حلوة الطبع، لماعة العين دائمًا. أوه ميمي … ميمي؟ إنه يجب أن أفكر في وردة …»
وكانت ميمي في هذه اللحظة تضع الورود في الزهرية، فزعق طلبة: «ماذا تصنعين؟»
قالت باستغراب: «أرتب الورد، أليس …»
ولم تتمها، فقد انتزع منها الأزاهير وهو مقطب ولفها في ورقتها كما كانت وتمتم وهو يفعل ذلك: «ترتب الورد؟ أتراها تظنني جئت به لأزين به بيتي؟»
وقال بصوت عالٍ: «دعيه هكذا … إنه لوردة.»
فأحست المسكينة بمثل شكة الخنجر … يعود من الإسكندرية بعد خمسة عشر يومًا قضاها هناك غائبًا عنها، ولا يذكرها بزهرة واحدة، ومعه هذا «الحوض» كله يحتفظ به لوردة! ولا يخطر له أن من الرحمة الواجبة ألا يخزيها على هذا النحو! ماذا كان عليه لو اتقى أن يجيء به إلى البيت؟ ولكن …
ولم تسترسل في هذه الخواطر المؤلمة، فقد كان عليها أن تهيئ له ثيابًا أخرى يلبسها ليزور وردة، وإن ميمي لتعلم أن وردة مشغولة عنه بغيره، وأنها لا تفكر فيه، ولا تبالي أجاءها بهذه الأزهار الجميلة أم نسيها ولم يخطرها بباله ولكن ميمي لا تستطيع أن تقول له هذا وإلا ظن بها الظنون.
وأحست ميمي وهي تنفض لطلبة ثيابه التي يجب أن يرتديها، بثورة نقمة على وردة، وشعرت كأن وردة تخون طلبة لأنها مشغوفة بسواه، وصحيح أن وردة لا زوجته ولا خطيبته، ولكن هذا لا يمنع ميمي أن تسخط على وردة وأن تشعر لها بكراهية شديدة يزيدها علمها أنها غير محقة فيها.
وخرج طلبة، ومعه طاقة الزهر الأبيض، وبقيت ميمي وحدها، لا أنيس لها إلا خواطرها، نعم هناك أمه، وأخته، وخادمة، ولكن ما أنسها بهؤلاء؟ وهي مضطرة أن تتكلف أمامهن الابتسام وأن تتظاهر بغير ما تبطن، وهذا بلاء آخر …
ولم يطل غياب طلبة، فقد عاد، ومعه طاقة الزهر الأبيض التي خرج بها، ففتحت له ميمي الباب وارتدت مذهولة … أذهلها تجهمه، وأذهلتها طاقة الزهر التي تتدلى بها يده، فارتدت ولم تقل شيئًا، وتركته يدخل وهو مطرق لا ينظر إليها ولا إلى شيء ويرمي بطاقة الزهر على المائدة، ويذهب إلى غرفته، ويرد بابه حتى لا يدخل عليه أو يزعجه أحد.
وبعد قليل صفق، فذهبت إليه أخته فردها وقال لها: «ابعثي إلي بميمي.» ولم يكن هذا مستغربًا فقد كانت ميمي هي الموكلة به في الحقيقة، وكانت أمه يسرها أن ترى ميمي تقوم له بحاجاته وتتكفل بأموره، وكان رجاؤها أن يفطن ابنها إلى قيمة ميمي فيتخذها زوجة.
وذهبت إليه ميمي فقال لها: «اجلسي، وأصدقيني.»
قالت، وهي تجر كرسيًّا: «نعم.»
قال: «وردة … إنك تعرفينها كما أعرفها، فلا تخفي عني شيئًا … ما هي الحكاية؟»
قالت: «أي حكاية؟»
قال: «إن المرأة تعرف عن المرأة أكثر مما يستطيع أن يعرف الرجل، ثم إن النساء يتحدثن فيما بينهن بما لا يتيسر العلم به للرجال، فأخبريني ما هي حكاية وردة؟»
فكررت قولها: «أي حكاية؟»
قال: «ألا تريدين أن تخبريني؟ إذن سأعرف كل شيء وحدي.» ونهض فخرج …
ولم تستطع ميمي أن تكتم ما بنفسها، فحدثت أمه بما سألها عنه من خبر وردة، وتركتها تتصرف كما تشاء، على أن الأمر لم يحتج إلى تصرف من الأم أو سواها، فقد أراد طلبة أن يقف على جلية الخبر وأن يعرف من هذا الشاب الذي رآه خارجًا معها من بيتها يوم عاد — أي طلبة — من الإسكندرية، وذهب إليها ليسلم عليها ويقدم لها الورود البيضاء التي تحبها وتؤثر جمالها على سواها من ضروب الزهر، وكان هو يهم بالنزول من الترام في محطته أمام بيتها، فلما رآها خارجة ومعها هذا الفتى الغريب الذي لم يره قط من قبل بقي على سلم الترام إلى المحطة التالية، ثم عاد إلى بيته، وما خير أن يذهب إليها وهي خارجة؟ ومع فتى؟
وكان طلبة ممن يؤمنون بأن الخط المستقيم أقرب المسافات بين نقطتين، فذهب إلى أبيها وسأله عن هذا الفتى من عسى أن يكون، وكان بين أسرة طلبة وأسرة وردة من الصلات الوثيقة القديمة ما يسمح له بمثل هذا الاستفسار الذي كان خليقًا أن يُعدَّ — لولا ذلك — فضولًا غير مقبول، وكانت وردة وحيدة أبيها، وقد ماتت أمها، فرقَّ لبنته جدًّا ودللها تدليلًا شديدًا، فقال الأب: «هذا حسني … خطيبها … وعلى فكرة … أظن أنه من الأوفق … تعرف ما أعني … ولا مؤاخذة.»
فهز طلبة رأسه وقال: «نعم أعرف … يحسن بي أن أكف عن زيارتكم حتى لا أثير وساوس الخطيب … ولكن يا عمي من عسى أن يكون هذا الخطيب؟ إنه طارئ ولا شك، فإني أعرف كل معارفكم، ولا أذكر أني رأيته أو سمعت به، وما غبت عنكم إلا خمسة عشر يومًا، أفي خمسة عشر يومًا يعرف وردة، ويخطبها وينتهي الأمر؟»
قال: «ولم لا؟ يوم واحد يكفي ما دمنا قد سألنا ووثقنا أنه شاب طيب حسن السيرة.»
قال: «وهل سألت يا عمي ووثقت؟»
فقال الرجل بلهجة المتأفف: «ما هذه الأسئلة؟»
فقال طلبة وهو ينهض: «أنا أعرف أنك لا تستطيع أن تكذب … وأستطيع أن أعرف أنك لم تسأل ولم تستوثق، وإنما نابت عنك وردة في هذا كله … مبارك على كل حال … وأستودعكم الله.»
ومضت الأيام وطلبة يعزي نفسه بأن الخيرة في الواقع، وأن الزواج لا يكون مؤديًا إلى السعادة إذا كانت الفتاة مدللة كوردة كل هذا التدليل، حتى لتخطب لنفسها من تشاء، ولا يسع أباها إلا الموافقة، وعاد — شيئًا فشيئًا أيضًا — إلى ما كان يفكر فيه وهو عائد من الإسكندرية ويسأل نفسه عنه: «أي الفتاتين خير؟ واحدة نشأت على الطاعة والعفة أم أخرى مدللة تعرف حمامات البحر والخروج مع الرجال؟» وزاد السؤال تحديدًا فجعله هكذا: «أيهما خير لمثلي: فتاة وديعة كميمي تحبني وتطيعني ولا تعرف سواي، أو تفكر في غير واجباتها لي وإن كانت تنقصها مظاهر الطراز الحديث؟ أو أخرى كوردة تخطب لنفسها من تشاء ولا يسع أباها إلا الموافقة؟»
وانتهى من هذا التفكير الجدي الرزين في ميمي إلى نهايته، ولم يخالجه شك في أن ميمي ستفرح حين تعلم أن رأيه استقر على الزواج منها، وقد خاطب أمه في الأمر ففرحت، وحدث أخته ففرحت، وكاد يحدث الخادمة، وفي يقينه أنها لا شك ستفرح؛ فقد رُبيت — أي الخادمة — في بيته.
كل امرئ فرح إلا ميمي، حين كلمتها أمه، وفي قولنا إنها لم تفرح شيء من التساهل في التعبير، ذلك أنها فرحت لأن هذا هو الذي كانت تطمع فيه وتتطلع إليه، ولكنها كانت تعلم أن طلبة يحب وردة، وآلمها أن يشقى طلبة، وأن تغدر به وتخونه وردة، وسرها أنه لم يفز بها، وحز في نفسها أن طلبة إنما انثنى إليها ورغب فيها لأن أمله في وردة خاب، وكان هذا أوجع ما عانته من الإحساسات، وتنازعتها الرغبة في إرضاء حبها بالقبول، والرغبة في إرضاء كبريائها بالرفض، وكانت أحيانًا تميل إلى الرفض وهي تشتهي ويكاد قلبها يتمزق من فرط الحب، ثم تميل إلى القبول، ولكن الألم يمزق أعصابها ويتلفها، فتبكي.
وترى الأم والأخت هذا منها فتستغربان وتنكران هذا البكاء، ويخطر لهما تارة أن هذا البكاء بكاء السرور، وتارة أخرى أن ميمي لا تريد طلبة زوجًا لها، ولكنها لا تستطيع أن ترفض لأنها يتيمة لا أهل لها ولا بيت إلا هذا …
وكان هذا بعض ما خطر لميمي وقطع قلبها، وزادها حيرة، فهي إذا قبلت الزواج لا يسعها أن تنسى أن قلب طلبة مع وردة، وإذا رفضت، فقد قضت على حبها ووجب عليها في هذه الحالة أن تترك البيت، ولكن إلى أين في هذه الدنيا الطويلة العريضة الزاخرة بملايين الخلق، والتي تضيق مع ذلك بفتاة واحدة؟
وطال التردد، ومضت الأيام، والكل حائر، حتى طلبة بدأ يستغرب وظن أن ميمي لا تريده، وأنه كان مخطئًا فيما توهمه دليلًا على ميلها إليه وتعلقها به، وكان من فضل هذا أن صغا إليها بقلبه، شيئًا فشيئًا أيضًا … حتى كانت ليلة فناداها، فلما دخلت عليه صارحها بما نابت عنه أمه من قبل في الكلام فيه.
فقالت له: «لا … إنك تحب وردة، فأنا لست لك.»
قال: «أهو هذا؟» وسرَّته هذه الغيرة وأيقن من حب الفتاة وقال: «اسمعي يا ميمي، لقد كنت أتوهم أني أحب وردة، ولكن المرء قلما يعرف نفسه، ولو أني كنت أحبها بالمعنى الصحيح لما استطعت أن أسلوها بهذه السرعة، وقد كنت أعمى … الدرة تحت عيني وأنا لا أراها …»
فقاطعته: «لأنك لم تكن ترى إلا وردة.»
قال: «نعم، فلما خلت منها حياتي استطعت أن أنتفع بعيني، ومن واجبي أن أشكر الله، فلو لم أتعلق بوردة لما استطعت أن أفطن إلى الدرة التي كنت ذاهلًا عنها … وإذا كنت تحبينني كما أعتقد وأرجو، فإن من واجبك أن تحمدي أني افتتنت بوردة أيامًا، فكانت هذه الفتنة سبيل المعرفة ووسيلة الهداية … أليس كذلك يا ميمي؟»
وأراد قلب ميمي أن يقتنع، فاقتنعت، ولم تندم قط بعد ذلك على أنها أطاعت قلبها ولم تطع كبرياءها، وقد كان من الممكن أن يكون الأمر على نقيض ذلك، ولكن طلبة كان صادقًا حين قال إن فتنته كانت سبيل المعرفة، وإنه عرف نفسه بعد أن ضل قليلًا …