كيف حفرت بئرًا … لنفسي؟
شقراء، ذهبية الشعر، لا أدري كيف أنبتتها هذه الصحراء! ومن بنات الفقراء، ولكن لها دلًّا وأناقة تخطئهما عند اللواتي نشأن في كنف النعمة والترف والثراء، وفي كلامها خفة وهزج، وفي مشيتها تبختر لا يثقل، وميس ليس من الاختيال، وكانت ترسل شعرها الوحف ولا تفرقه أو تضفره أو تعقصه، بل ترده عن جبينها الوضاء وتحسر جمته عن أذن، وتستر به أذنًا، ولا تثبته بالأمشاط أو الدبابيس ولا تعصب رأسها بالمناديل، فإذا عبث به الهواء وأسال قصتها على وجهها رفعت الشعرات بأصبعها أو نحَّتها عن أذنها، وكنت لا أراها تبتسم إلا خيل إليَّ أنها ترى حلمًا يسرُّها فيثب قلبي إلى حلقي، وأجد حر النار في كفي.
وكان بيتي في ذلك الوقت «على تخوم العالمين»، وكانت له حديقة صغيرة جعلتها شغلاني، وكان الماء كثيرًا وثمنه زهيدًا، لا يتجاوز خمسة عشر قرشًا في الشهر بالغًا ما بلغ ما أجريت منه، فكنت آخذ كفايتي منه وأسنه على وجهه للجيران، وكانت هذه الشقراء تجيء كل مساء بجرة فتملؤها مرة أو اثنتين أو عشرًا — كما تشاء — فأقف لها وأحادثها وأساعدها على رفع الجرة إلى رأسها، ولم تكن هي الوحيدة التي تستقي، ولكنها كانت أبرعهن شكلًا وأخفهن على الفؤاد، وكانت تأنس مني الميل إليها والإعجاب بها، فتطيل الوقوف معي أحيانًا، أو تتولى عني عزق الأرض، أو بذر الحب أو سقي الزرع، واجتزاز الكلأ والعشب والحشيش أو نزع ذلك بأصوله، وكانت أعرف مني بذلك كله وأخبر، وكانت تضحك مني لجهلي فتقول لي مثلًا: «ألا تحش هذه الملوخية؟ لقد كادت تكتهل.»
فأقول: «ملوخية؛ لقد طرحت هنا حب فجل فكيف تخرج الأرض ملوخية؟»
فتقول: «كلا؛ هذه ملوخية وقد بلغ نبتها المدى؛ فاختضرها وإلا فسدت.»
فأقطع ورقة وأمضغها فأجد طعم الملوخية ولا أجد طعم الفجل، وكنت أهمل أن أكتب أسماء البذور على الورق الذي أحفظه فيها، وأعتمد على الذاكرة والذكاء فيختلط عليَّ الأمر، وأروح أظنني زرعت جزرًا فإذا هو خيار، وكنت لجهلي ألقي البذر ولا أعنى بإعداد الأرض وإخلائها من الحجارة، وكانت أرض الحديقة جلدة في مواضع كثيرة وفي بطنها حجارة غليظة مختلطة بطينها. فلا يخرج شيء مما يقع على هذه الجلاميد، فكانت الشقراء تنبهني إلى ذلك وتعرفنيه، وكنت ربما تركت في الشتاء ما لا يبقى عليه أصله، وقلعت ما يبيد الشتاء فرعه ويبقي أرومته، فتصلح لي من خطئي ما يتيسر إصلاحه، ولم أكن أعرف الفرق بين ما يسمو من النبات صعدًا ويستغني بنفسه، وما يحتاج، وهو يسمو، إلى ما يتعلق به ويرقى فيه، وما ينسطح على وجه الأرض، فأغرس الأعواد لما ينبت مفترشًا، وأدع ما يحتاج إلى التعلق بلا عصب؛ فكانت هي تعلق وتقوِّم المعوج وتعالج ما أفسدتُ.
ثم حدث أن شركة الماء وضعت لنا في البيت «عدادًا» يحاسبنا على القطرات بعد أن كنا نأخذ بلا حساب، ولا ننقدها في الشهر إلا خمسة عشر قرشًا. فأرهقني هذا «العداد» وكلفني فوق ما أطيق، وصرت بين أمرين: إذا أبقيت على الحديقة جعت وتضورت، فإن أرضها كثيرة الرمل يذهب فيها الماء ولا يبقى منه للنبات ما يكفيه. فحاجتها إلى السقي لا تنقضي، وإذا أنا ضننت بالماء ذهبت الحديقة، فشقَّ عليَّ ذلك واشتد همي، وطال وجومي من جرائه، ورأت هي اغتمامي وسهومي فسألتني فأفضيت بشجني، فقالت: «احفر بئرًا.»
قلت: «إيه؟ أحفر بئرًا؟»
قالت: «نعم. ماذا يمنع أن تفعل؟»
قلت: «يمنع أن هذه أرض مضرسة؛ حشوها حجارة ولا يمكن أن يكون في جوفها ماء.»
قالت: «من أدراك؟ إني أعتقد أن في أرضك ماء غزيرًا.»
قلت: «أما الحرث والزرع فشيء عرفنا أنك تعرفينه؛ وإن كنت لا أدري من أين جاءك هذا العلم، وأما الآبار وحفرها …»
فقاطعتني وقالت: «أظنني أستطيع أن أدلك على موضع العين في هذه الأرض. غدًا في النهار أختبر الأرض وأجسها.»
•••
وفي عصر اليوم التالي جاءت وفي يدها عود على هيئة اللام ألف، ولكن في ساقه — قبل موضع التشعب — طولًا، وقالت: «انظر، سأجس الأرض بهذا.» ورفعته لعيني.
فقلت: «وكيف تصنعين؟ إنه غصن لا أكثر.»
قالت: «هو حسبي، وما أعرفه خذلني أو كذبني قط، ولكن عهدي بهذا الجس بعيد وأخشى أن أكون قد فقدت القدرة على استنبائه.»
قلت: «استنباؤه؟ أويقول لك هذا الغصن أين منبع الماء في جوف الأرض؟»
قالت: «نعم، وسترى بعينيك إذا وفقني الله.»
وأقبلت على الأرض تجسها شبرًا شبرًا، وكانت تضع العود على الأرض كأنها تغرسه فيها وتسنده بأصابعها وتنظر إلى شعبتيه برهة، ثم ترفعه وتقدمه خطوة أو خطوتين، وهكذا يمينًا وشمالًا حتى رأيت إحدى الشعبتين تميل قليلًا فعجبت.
فقالت: «هنا ماء ولكنه قليل.»
ومضت تنقل العود من مكان إلى مكان حتى بلغت الجدار الآخر، فقالت: «يخيل إلي أني سأخفق.»
فلم أقل شيئًا، وماذا عسى أن أقول؟ لقد تركتها تختبر الأرض وأنا كافر بها — أعني بالفتاة وقدرتها على الاهتداء إلى منابع الماء في بطن الأرض — ولكني قلت إنه لا بأس علي من ذلك، وحسبي أني أقضي معها ساعة أنعم فيها بحديثها وبالنظر إليها، ولكن انثناء العود إلى الأرض، من تلقاء نفسه، ومن غير أن يمسه شيء حيرني، وصرفني عن الفتاة وجمالها، إلى هذه الظاهرة الغريبة.
وجعلت أقول لنفسي: «إذا كان كل ما يتطلبه الأمر أن يجيء بمثل هذا العود ذي الشعبتين، وأن يركزه أو يغرسه في الأرض، فإذا كان هناك ماء انثنى وحده فما أسهل ذلك … وكيف غاب هذا عن الناس وفاتهم هذا العلم اليسير؟»
ولم أكتم هذا الذي دار في نفسي، فقالت بابتسام: «لا، إن المعول على اليد لا على العود.»
ولم أفهم شيئًا، ولكني سكت، فقد تجهمتْ، وطال سكوتها وتقطيبها، وثبت حملاقها، وبدت لي كأنها تعصر نفسها عصرًا، ثم قالت: «افتح هذا الباب.»
وكان باب حجرة مهجورة في فناء البيت، نحبس فيها الدجاج، ففتحته فدخلت وقالت: «انزع هذا البلاط.»
فأطعت، وتجشمت عناء شديدًا، ولكني أمضيت لها مشيئتها، فحنت على الأرض وأقامت العود في ترابها، وإذا بالشعبتين جميعًا — بعد هنيهة — تنثنيان على الأرض — عموديًّا — حتى لخيل إلي أنهما ستقصفان.
ونهضتْ، ومسحتِ العرق المتصبب، وقالت: «هنا يجب أن تحفر. الماء غزير، ولكنه بعيد، وماذا يهم؟ ستجد فوق الكفاية من الماء.»
ولم يخالجني شك في صدقها، فجئنا بعد أيام بالرجال فحفروا ووسعوا، واحتجنا أن نهدم الجدار الذي فيه الباب فأتينا عليه، وانحدر الرجال إلى أكثر من ستة أمتار، وقضوا في ذلك أيامًا طويلة حتى بلغ أحدهم حجرًا فزحزحه بالمعول فأنبط الماء من تحته.
واستغنيت عن شركة الماء.
•••
وقلت للفتاة: «لماذا جشمت نفسك هذا العناء؟»
قالت: «هو جزاء المعروف.»
قلت: «ليس إلا؟»
قالت: «وعز علي أن تضطر إلى تضييع الحديقة.»
قلت: «وماذا أيضًا؟»
قالت: «لا أدري ماذا أيضًا؟ غلبني شعوري.»
قلت: «ليس في وسعي أن أجزيك …»
قالت تقاطعني: «لا تحاول … حسبي أني أعدت إلى وجهك الابتسام.»
قلت: «اسمعي، إن الحديقة مدينة لك بحياتها، وأنا مدين لك بمعنى هذه الحياة، ولست أظنها تقوى على فراقك، ولا أنا يا فتاتي …»
قالت: «لم أصنع شيئًا.»
قلت: «أزخرت حياة كادت تجف وتذوي، فماذا يستطيع إنسان أكثر من هذا؟»
قالت: «كلا، كل ما صنعت أني وجدت ماء، وقد وجدته مائة مرة قبل اليوم، فلم أسمع مثل كلامك … إنك تمزح ولا شك.»
قلت: «بل أنا جاد، لا غنى بي ولا بالحديقة عنك … فما قولك؟»
قالت: «كلا، للحديقة صاحبها، ولك الدنيا، أما أنا فذاهبة.»
قلت: «ذاهبة؟ أين؟»
قالت: «غدًا — أو بعد غد — يرحل أبي، وأنا معه، فما بقي ما يستوجب مقامنا.»
فدنوت منها ووضعت يدي على كتفها وسألتها: «أنت أوعزت إليه؟»
قالت، وهي مطرقة: «نعم، والآن أستودعك الله.»
فتعلقتُ بها فلم يجدني ذلك وقالت: «أنا بنت الصحراء، وأنت ابن المدينة … لست لي، ولست لك … وقد تركت لك الحديقة … لتذكرني بها.»
وكان هذا آخر عهدي بها …
ولكني لم أُطِق هذه الذكرى، ولم أعد أحتمل أن أرى الحديقة أو البئر التي حفرتها، فتركت ذلك كله وانتقلت إلى بيت آخر … بعيد … بعيد جدًّا، ولا حديقة له.