نزهة وسليمة باشا
قلت يومًا لإخواني — وأنا في بغداد: «يا ناس حرام عليكم. ألا سبيل إلى السماع في بلادكم؟ فقد صدئت أذني، وأخشى — إذا اقتصر الأمر على الولائم — أن أنقلب، من رأسي إلى أخمص قدمي، مَعِدَةً ليس إلا.»
فسكتوا يومين، ثم ضربوا لنا موعدًا بعد عشاء — فقد كانت أوقاتنا مكظوظة بالمآدب — ثم مضوا بنا إلى بيت أنيق، في حي جديد، وقالوا: «تفضلوا»، فتفضلنا — أعني دخلنا. وأنا أعجب لمن هذا البيت؟ ولماذا جاءوا بنا إليه؟ وكانت التي فتحت لنا الباب جارية قصيرة عظيمة الثديين، ثقيلة الردفين، ولا عنق لها. ففزعتُ من هذه «الفاتحة» واستعذت بالله في سري، وتوجهت إليه تعالى بقلبي فقلت: «يا رب، يا رءوف، يا لطيف، إنك تعلم أني ههنا غريب، وأني فوق ذلك ليتيم، وأولادي صغار، فارحمني والطف بي وبهم في قضائك.»
فاستجاب الله دعائي بسرعة، ولا عجب، فإنه تعالى رحيم كريم، وهذا عصر اللاسلكي. ورقينا في سلم عالي الدرج، وأنا أكره السلاليم، وأتقي الصعود فيها، ولم أكن أعلم أن الله سبحانه قد استجاب لي، فقلت: هي ليلة سوداء، وأمري إلى الله ولا حول ولا قوة إلا به، وندمت على ما اشتهيت وطلبت … وفرغنا من هذه المرقاة التي دوختني وقطعت أنفاسي، وخلصنا منها إلى ما كان حقه — لو كان البيت في مصر — أن يكون ردهة تتوسط الحجرات، ولكنها هنا شرفات على محاذاة الجدران الأربعة، يطل منها المرء على صحن الدار، ونظرت فإذا إلى اليمين غرفة صغيرة في وسطها صينية عظيمة مثقلة بالصحون الملأى بألوان شتى من الآكال، ولم أعدَّها، ولكنها فيما خيِّل إليَّ لا تقل عن ستين أو سبعين صحنًا، فحولت وجهي عنها لأني شبعان، ودخلنا حجرة واسعة وثيرة الأثاث أنيقته، فأدرت عيني فيها وقد انشرح صدري، واستويت على مقعد مريح جدًّا، ووضعت رجلًا على رجل، وشرعت أدخن.
وجاء خادم فأدنى منا أخونة صغيرة عديدة، وسألنا: ما تشربون؟ فنظر بعضنا إلى بعض، وقلت: أنا «صودا». فقال صديق لي: «لا يا شيخ، بل ويسكي وصودا.» فقلت لنفسي: «لا بأس، أتركه أمامي وأتناول كل ساعة رشفة فلا يضيرني.» وشرع الخادم يملأ الأقداح، ثم أخذ يجيء بالأطباق المترعة ويضعها أمامنا، ويرتبها ويفسح لها — لكثرتها — وأنا لا أكاد أطيق النظر إليها من فرط الشبع، ولا إليه أيضًا، وبقينا هكذا نحو ساعة، وأنا ساكت، صابر، وإذا بحورية هاربة من الفردوس تدخل علينا، وإذا بنا نثب إلى أقدامنا، وقد التمعت عيوننا، وأعدتنا، فأشرقت وجوهنا، وانطلقت ألسنتنا الخرساء وانحلت عقدتها.
وجلست الحورية بجانب واحد غيري، فأسفت لأني آثرت التواضع — لعنه الله — واخترت مقعدي في ركن، وتحسرت على «الصدر» الذي تركته لصاحبي، ولكني عزَّيت نفسي بأني أراها، ورفعت كأسها، فقلت: أشاربها ولو زهقت روحي، ثم سألتها: «من أي الفراديس هربتِ يا حورية؟» فضحكت وغمزت بعينيها ولم تقل شيئًا، فلم أنهزم، فقلت: «بأي لغة تتكلمين في الجنة؟» فعادت تضحك، ولا تجيب، فاستغربت، ونهضت إليها وقلت بلهجة الجد: «أريني لسانك.» فأخرجت لسانًا دقيقًا حلوًا، فهززت رأسي مسرورًا، وعدت، وسألني جاري — وهو أديب عراقي: «لماذا فعلت هذا؟» قلت: «أردت أن أطمئن. سأدخل الجنة بعد عمر طويل، فإذا كانت حورياتها بلا ألسنة، فإن هذا يكون خازوقًا.»
ودخلتْ في هذه اللحظة حورية أخرى، أقصر من الأولى، ولكنها مثلها اعتدال قدٍّ، وهيفا ورشاقة، وفي أثرها خمسة من الرجال يحملون آلات العزف، ودار الحديث، وتكرر ارتفاع الكئوس إلى الشفاه، وحارت العيون بين هذين الوجهين الملائكيين، وأصلحت الأوتار، وضرب العوَّاد على كرانه وشيع آخر في الناي. ثم اشتركت المعازف جميعًا في أحلى صوت وأشجى لحن. ثم غنتنا الحورية الثانية صوتًا مصريًّا كان ابتداؤها به تحية جميلة، فطربنا وأثنينا، وشكرنا، واقترحنا أن تسمعنا أصواتًا عراقية، فقالت: «حبًّا وكرامة.»
ونهضتِ الأولى فخرجتْ، وغابت شيئًا، ثم عادت في ثوب رقيق هفهاف شفاف من الحرير، ونظرت إلى الرجال، فعزفوا لها صوتًا رقصت على أنغامه رقصًا أدار رءوسنا وخطف أنفاسنا، وكانت تلف، وتنآد من بعد أن تنأطر، وتجثو بساق ثم تنهض كالرمح، وتدفع يديها البضتين، وتجعل من معصميها نطاقًا لغير موجود، كأنما تدعوه أن يهتصر، ويموج شعرها على عطفها، ويكاد — لولا ما يمسكه — أن يسقط عنها الإزار، وكان يخيل إلينا، وهي تجلو مفاتنها، أنها ذائبة من الرقة، ومبرية من الشجى، فلما جثت على ركبة في آخر دورة، وكلتا يديها لنا، كبر هذا الوهم في نفوسنا، فنهضنا إليها لنعينها ونرفعها، فضحكت.
وجلست على كرسي بجانبي. فقلت لها — وكنت قد عرفت اسمها الأرضي: «يا نزهة. اعلمي أن رقصك جميل، واعلمي أيضًا — وهذا هو المهم — أني أقدر على مثله.»
فرفعت حاجبيها نصف ملليمتر، وقالت: «صحيح؟»
قلت: «بلا أدنى شك. وهل أنا أكذب؟ لكن ينبغي لذلك أن تهبيني هذا القوام، نعم، أعطيني جسمك، وخذي جسمي فارميه للكلاب.»
فضحكت وقالت: «العفو، ولكن أنا، ألا يبقى لي جسم؟»
قلت: «هو معي يا حورية، أليس يكفيك الروح؟ ما حاجتك في الفردوس إلى جسم بعينه؟ اكتسي غيره هناك.»
قلت: «صدقتِ، والآن، هذا الثوب الجميل، أليس أطول مما يلزم؟»
قالت: «وكيف تريد أن يكون؟»
قلت: «لو كان الأمر إليَّ … ولكن ألا ترين أنه يكفي أن يكون إلى هنا؟ إن كل عرائس الخيال تسير عارية الساقين والكتفين.»
وهمت بالقيام لتغير ثوبها فقلت: «كلا يا حورية، لا تذهبي كالحلم. منذ بضع دقائق كنت متعة عين، أما الآن فأنت ضرورة، وحاجة ملحة، ثم إني أشعر أن هناك سعادات أخرى مذخورة لي، فابقي حيث أنتِ …» فبقيت، وأراحت أصابعها على ذراعي فقلت: «لن أنسى هذه الصورة، ما حييت … كفها الغضة على ذراعي، وأناملها الدقيقة الرقيقة، مغروسة في كمي، وعينان فيهما من النجوم أبهى وأسنى مما في السماء اللازوردية، وفم رأته بسيشيه في الندى الذي جاءها به كوبيد في راحته، وساق أحلى من التي مات في سبيلها أكتيون ولم يكن ما بذل غاليًا …»
فسحبت كفيها، وقال الأديب العراقي: «إنه شاعر يا نزهة.»
قلت: «كنت شاعرًا … وكنت أحسبني برئت وشفيت من الشعر، ولكني الآن أخشى أن أعود كما بدأت … ليت هنا مرآة.»
قالت: «لماذا؟»
قلت: «نرفعها أمامك فترين فيها حورية تعرف عالمها، ولكنها ليست منه. لأنها من مخلوقات الخيال، يغمرك جمالها — كالموسيقى — بسحر حسنها.» فقاطعتني سائلة: «وأنت؟»
قلت: «أنا؟ كنعان الروح، إني أمثل حثالة جنسي، وأنت تمثلين زبدة جنسك، وصفوته النقية … أنت وأنا شبيهان بأرييل وكاليبان في رواية العاصفة إن كنت تعرفينها … هل سمعتِ بمسكين اسمه شكسبير كان يحلم بحسنك في زمانه ويصوره في رواياته؟»
فهمَّت بجواب، ولكن الأوتار عزفت، فحولنا إليها وجوهنا، فإذا سليمة باشا — المغنية — واقفة تستعد للتغريد، فأنصتنا. فغنتنا أصواتًا عراقية، وكأنها لا تغني: «من سكون الأوصال، وهي تجيد» كما يقول ابن الرومي:
فشُغِلنا بغنائها، وأين نحيد عنه وهو في قلوبنا وأسماعنا؟ وظللنا نستزيد حتى مطلع الفجر، وكانت ليلة، ما لفتنتها وحسنها في حياتنا من نديد.