كيف كنت غيري
كنا نقصف — ذات ليلة — في فندق كبير في «ضهور الشوير»، والقصف أن نشرب ونضحك ونأكل — بعيوننا — الفتيات الممشوقات اللواتي يخطرن في المرقص مع السعداء من الشبان، وكانت الأنوار في المرقص ألوانًا شتى متعاقبة، وكان الضوء الأرجواني — حين ينساب الفتيات فيما يترقرق عليهن منه — أقوى فتنة وأشد إغراء، فكنا ننهض عن المائدة ونتزاحم على أبواب المرقص، وعيوننا تكاد تخرج من فرط التحديق، وكانت هناك فتاتان تتراقصان وتأبيان أن يخاصرهما الرجال، وكانتا ساحرتين؛ في جمالهما، ودلهما، ولعبهما، وحركاتهما، فأغريت بهما أحد رفاقي — وكان يجيد الرقص — وأنا أقول لنفسي: «إذا راقص إحداهما عرفناهما جميعًا وفزنا بصحبتهما»، ولكنهما ردتاه ببسمة وكلمة رقيقة لا تغني ولا تسمن.
فقلت لنفسي: «لم يبقَ لها إلا رجالها»، ودنوت منهما وقلت وأنا أتناول كرسيًّا وأجلس بغير استئذان: «أمن قلة في الرجال تتراقصان؟»
فقالت إحداهما — بعد أن ألقت على صاحبتها نظرة: «بل من كثرتهم.»
فقوي قلبي أنها ردت، فقلت: «اسمعا مني، إن هذه النظرات الخبيثة التي تتبادلانها لن تجديكما، (ضحك) وأنا باسم هؤلاء الشبان الكثيرين الذين لا أعرف أسماءهم ولا أحب أن أعرفها …»
فقالت إحداهما: «لماذا؟»
فقلت: «لا تقاطعي من فضلك، ثم إن هذا شأني وحدي، وعلى ذكر ذلك أسألك … هل أنت مصرية مثلي؟»
فقالت الخبيثة — أعني التي تتكلم: «هل أنت مصري؟»
فصحت بها: «يخرب عقلك، وهل ترين أني أتكلم إلا كما يتكلم المصري؟»
فضحكتا وقالت الأخرى: «هذا أحسن، لقد كنت أسأل نفسي أين يا ترى رأيتك؟»
فقاطعتها: «نعم إني أراك دائمًا …»
فسألتني جادة: «أين؟»
فقلت: «بخيالي … في أحلامي.»
فقالت الأولى وهي تبتسم — لا أدري لماذا: «ألست عبد … عبد الله؟»
فتشهدت وقلت: «طبعًا. طبعًا. عبد الله حقًّا وصدقًا.»
قالت: «لقد كنت واثقة أني أعرف وجهك … ألم تعرفيه يا توحة؟»
فأجبتها أنا: «لماذا تحرجينها؟ دعي لها سرها حتى تهمس به في أذني، ونحن نتمشى في غابة بولونيا، والقمر طالع …»
فضحكتا وقالت توحة: «بهذه السرعة؟»
فقلت: «معذرة، إن خيالي وثَّاب … طيَّار إذا شئت، ولكنه صادق لا يطير إلا بجناحين من الحقيقة.»
فقالت الأولى: «وكيف زوجتك؟»
فصحت: «إيه؟»
ولم أكن أتوقع أن ترميني بسؤال عن زوجتي، وخفت أن يكون وراء السؤال شَرَك منصوب، فلذت بالحذر، وقالت: «إنما سألت كيف زوجتك؟»
فقلت: «زوجتي؟ أوه … آه، مفهوم …»
قالت: «لماذا تركتها؟»
فلم أدرِ ماذا تعني بالترك؟ وآثرت أن أروغ فقلت: «هل تعرفينها؟»
فقالت الخبيثة: «إنه يسأل هل أعرفها؟ قولي له يا توحة.»
فدار رأسي، وارتبكت، فما رأيتهما قط في بيتنا ولا في بيوت أحد من أهلنا أو معارفنا، وزاد شعوري بالشراك المنصوبة تحت كل كلمة، ولعنت الساعة التي أقدمت فيها على كلامهما، ولكني قد تورطت، وانتهى الأمر، ولم تبقَ لي حيلة، وخجلت أن أنهزم أمامهما فتشددت وقلت: «ما أجمل هذه المصادفة! بالله حدثاني عن نفسيكما … إن أذني معكما … لكل واحدة منكما أذن … تكلما … بارك الله فيكما، وفي ليلتي هذه معكما.»
فقالت الخبيثة: «ماذا جرى بينكما … إلا أن يكون هذا سرًّا لا تحب الإفضاء به.»
فقلت: «لا لا لا … وعلى أنه لم يجرِ بيننا إلا ما يجري بين الزوجين … أعني عادة …»
فقالت توحة وهي تضحك: «إن الذي تعنيه أختي …»
فسألتها: «أختك؟»
فقالت: «نعم أختي … من كنت تظنها؟»
فقلت: «كنت أظنها … إ… أ… أختك.»
فأضحكهما هذا التخليط، وضحكت معهما، ولما قرت الضجة قلت: «والآن يا أختها بأي اسم تخاطبين نفسك حين تنظرين في المرآة؟»
فقالت: «أتريد أن تعرف اسمي؟»
فأردت أن أستفزها فقلت: «لا (بفتور) يكفي أن أعلم أنك أخت توحة.»
ولكنها كانت أخبث مما توهمت، فقالت: «نعم كفاية، والآن ألا تحدثنا عن سبب انفصالك عن زوجتك؟ إنها صديقتنا من أيام المدرسة، وقد آلمنا ما وقع، ولكن لعل لك عذرًا.»
فحمدت الله في سري على جهلها بزوجتي، وأيقنت أني آمن معهما، ولكني مع ذلك حاولت أن أزحزح الحديث عن هذا الموضوع فقلت: «هذا شيء مضى، ومن العبث الكلام فيه.»
فقالت أخت توحة: «مسكينة.»
وقالت توحة: «ما أفظع الرجال، يأكلون المرأة لحمًا، ويرمونها عظمًا.»
وألفيت نفسي عرضًا لسخطهما ونقمتهما، فضاق صدري وقلت: «إني لم أكن أحب أن أقول شيئًا، ولكن الرجل لا يستطيع أن يظل يحتمل طول عمره أن يُرمى بصحاف الطعام الملأى.»
فصاحت توحة: «إيه؟ ماذا تقول؟»
وأعجبني صوتي، وسرَّني أني تبينت آية الدهشة في وجهيهما، فمضيت أقول: «لقد كانت تتناول قطتي البيضاء وتلعب بها الكرة، أو تمسكها من ذيلها وتطوح بها ذراعها، وتزعم أن هذا خير من اتخاذ الحديد للعب.»
فقالت أخت توحة: «زينب تفعل ذلك؟»
فقلت: «المسألة بسيطة والبرهان حاضر. تعاليا معي إلى مصر وأنا أريكما القطة.»
وآلمني أن أمزق (زينب) هذه بالغيب، وأدركني عليها عطف شديد، ولكني ماذا أصنع وقد أبت الفتاتان إلا أن تحشراها في الحديث حشرًا، وإلا أن تركباها كتفي، وتزعماها زوجة لي، وتدَّعيا أني أسأت إليها وجنيت عليها وتخليت عنها؟
وقالت توحة: «ولكن كيف يمكن؟ لقد كانت في المدرسة أرق التلميذات قلبًا؟»
فهززت رأسي وقلت: «وأشهد أنها ظلت كذلك زمنًا حتى اعتادت الشراب.»
فصاحتا بصوت واحد: «الشراب؟ زينب؟»
قلت: «نعم مع الأسف، وبعد ذلك انقلبت زوبعة لا تسكن قط … بالله اتركا هذا الحديث … إنه يؤلمني … وما أفضيت إليكما بهذه الحقائق إلا لأنكما كنتما معها في المدرسة، فاعذراني وانتقلا إلى كلام آخر.»
•••
وصرنا أصدقاء، نلتقي كل بضعة أيام، أعني أني كنت أزورهما من حين إلى حين في مصيفهما «بضهور الشوير»، ونخرج إلى البساتين والضياع المجاورة. ثم مضت فترة لم أَرَهما فيها، واتفق يومًا أني كنت مدعوًّا إلى حفلة في فندق ببيروت فبصرت بأخت توحة واقفة تطل على البحر، فوقفت إلى جانبها وحييت، فردت التحية بفتور، فقلت: «الجو حار.»
قالت: «نعم.»
قلت: «ولكن البحر يلطف الحرارة.»
قالت: «نعم.»
ولم يخطر لي كلام جديد، فقلت: «كِبرٌ ما بنا أم جفوة؟»
فواجهتني وسألتني بحدة: «ألا يزال اسمك عبد الله؟»
قلت: «يا فتاتي لا تجهلي. ما زلت عبد الله حقًّا وصدقًا، وإن كنت مع هذا لا أنكر أنه غير الاسم الذي اختاره لي أبواي.»
قالت: «ألا تخجل؟»
قلت: «إني أستحق عطفك … لقد احتملت هذا الاسم الذي لا يبعث على الزهو، لأنك أنت اخترته لي.»
قالت: «لقد رأيت زينب … وأخبرك أيضًا أنها مع زوجها، وأنهما يقضيان الصيف في لبنان. لماذا قلت عنها ما قلت؟»
قلت: «أي زينب؟»
قالت: «لا تكابر. إنها لا تعرفك، ولم ترك قط في حياتها.»
قلت: «ما أضعف ذاكرة النساء.»
قالت: «إن عذرك الوحيد — في نظري — أنك مجنون، وكلما تذكرت ما قلته عن زينب وما أضعته سدى من العطف عليك …»
فقاطعتها: «كلا. لم يضع … لقد زادني هذا حبًّا لك وتعلقًا بك …»
قالت: «ألا تزال تجرؤ على مثل هذا الكلام؟»
قلت: «أويحتاج ذكر الحقيقة والإقرار بها إلى جرأة؟»
قالت: «وتتصور أني أصدقك أو أصدق أنك تتكلم جادًّا؟»
قلت: «كلا. إن هذا لا يجري لي في بال. إنما أن منظر … ويمكنك أن تعدي كلامي صورة طبق الأصل من حديث أحلامك ونجوى أمانيك … وسيأتي يوم تظلم فيه الدنيا أمام عينيك، وتحسين أنه ما من أحد يحبك في هذه الحياة. كلنا يمر به يوم كهذا، فإذا جاء — أعني ذلك اليوم — فقولي لنفسك … كلا. إني مخطئة، فإن في الدنيا قلبًا يخفق بحبي، بحبي مخلصًا …»
فقالت: «إنك مجنون ولا شك.»
قلت: «وفي أثناء ذلك ترين شخصيتي الجميلة الجذابة تتفتح تحت عينك كما تتفتح غلائل الزهرة تحت أشعة الشمس …»
قالت: «لن أصغي لك.»
قلت: «إذن احضري معي هذه الحفلة، وكوني فيها ملاكي الحارس.»
فصاحت بي: «لن أغفر لك هذا.»
فقلت: «إني لست عبد الله، ولكني عبده والله.»
فابتسمتْ، فقلت: «هذا أحسن، وأين توحة؟»
قالت: «لو كانت هنا لما نجوت بهذه السهولة.»
قلت: «الحمد لله … أعني على النجاة لا على غيابها، اذهبي بي إليها.»
قالت: «والحفلة؟»
قلت: «تستطيع أن تنتظر — أعني الحفلة — فإن مرضاتها — أعني توحة لا الحفلة — أولى وأندى على كبدي.»
وكان هذا هو السر الذي لم يعرفه المحتفلون، في أن حفلتهم تأخرت نصف ساعة، فليت حظي من كل حفلة نصف ساعة كهذه.