لو عرف الشباب
كان أبوها تاجرًا حسن الحال، وأقبلت عليه الدنيا فأقبل على تجارته يوسعها ولكن بلا تدبير، وعلى المال ينفقه بلا حساب، وأغري بالقمار فأفضى به الأمر إلى الخراب الوحيِّ. فتجلد وراح ينشد العمل في متجر، ولكن سيرته في أيام النعمة خوفت منه التجار وزهدتهم في استخدامه، فلم يبقَ له إلا الاحتيال على صفقات قليلة يوفقه الله إلى عقدها ويخرج منها «بعمولة» ضئيلة لا تغني، وكان في أثناء ذلك يبيع حلي زوجته، ثم أثاث بيته. فلما أتى على هذا وذاك ولم يبقَ إلا الموت جوعًا، شرب خمرًا رخيصة في ساعة يأس وألقى بنفسه في النيل، وترك امرأته وبنته — وكانت في الثامنة من عمرها — تعيشان أو تموتان. فأما الأم فقضت نحبها بعده بشهور، وأما الفتاة فسمع بخطبها رجل طيب كان يعرف قومها فأقنعهم بأن يدعوه يتبناها ويأنس بها ويستعين بها على ضعف الشيخوخة، وكان هو أيضًا تاجرًا. فلما ارتقت به السن قنع بما أفاد وصفَّى تجارته، وكانت زوجته قد ماتت من غير أن تعقب له نسلًا، فاتخذ فقيرة من قريباته لتدبير أمر بيته، وكانت امرأة صالحة فرعته، وجعلت من نفسها خادمًا وأمًّا وأختًا ووصية أيضًا.
وقال لها عصر يوم وهي تقدم له القهوة وتدني منه «طاولة» صغيرة عليها «منفضة» للسجاير: «يا حليمة … اسمعي يا بنتي … أنا منتظر رقيَّة …»
فقالت مستفسرة: «رقيَّة؟»
قال: «رقية … نعم … بنت المرحومة الست خديجة … ستقيم عندنا إلى …»
ثم كأنما رأى أن التحديد عسير فترك هذا وقال: «أظن من السهل عليك إعداد الغرفة الجنوبية لها … هه؟»
قالت: «سهل طبعًا … لكن بنت صغيرة …؟ يمكن تتعبك.»
فقال محاولًا أن يزيل دواعي القلق الذي يساورها: «بنت صغيرة؟ … هذه بنت عشر … شابة.» فلم تزد حليمة على أن قالت: «طيب.»
وجاءت الفتاة بعد قليل مع رسول من قوم أمها يحمل لها أشياءها القليلة، وكان وجهها أصفر متهضمًا، وعظام وجهها بارزة، ونظرتها ساهمة، فقبَّلت يد الشيخ فتناول وجهها بين كفيه المعروقتين وقبَّل جبينها وأجلسها إلى جانبه، وشرع يحدثها ويلاطفها حتى أنست به وهشَّت له. ثم تركها لحليمة تعنى بها.
ومضت الأيام ووجدت رقية في الشيخ سليم عوضًا عما فقدت، وزالت الغضاضة التي كانت تجدها في أول الأمر وصارت حين تقول له «يا عمي» تشعر أنه عمها حقًّا وصدقًا، وتفتَّح لها قلبه الكبير وأنزلها منه في حبته، وذاق في شيخوخته العالية ما حرمه طول حياته من حلاوة الأبوة ونعمة البنوة البارة. فقد صارت رقية هي التي تعنى به، وتعد له حاجاته، وتسهر على راحته، وتبقى إلى جانبه حتى يصرفها إلى مرقدها بعد أن يدعو لها ويمسح شعرها ويقبلها.
ولكن حليمة لم ترضَ عن رقية، وكان رأيها فيها أنها فتاة عنيدة، وأن أبويها أفسداها بالتدليل، وأن الشيخ سليم يزيدها فسادًا بإسرافه في إظهار التعلق بها والحنو عليها، وكان يسوءها على الخصوص أن لسان رقية حاد، وأنها لا تفعل إلا ما يطيب لها، وكانت حليمة صريحة فلم تكن تكتم رقية سوء رأيها فيها، أو تتقي أن تنذرها بمستقبل أسود «كالحبر»، وكثيرًا ما كانت تقول لها إن الشيخ يسيء إليها بهذا التدليل.
وكان هذا الكلام وأشباهه يهيج رقية في أول الأمر، ويطلق لسانها بما يخطر لها ساعة الغضب، ولكن ثرى نفسها كان خصبًا فلم يخلُ كلام حليمة من أثر، فقالت ذات ليلة لعمها وهي جالسة على ذراع كرسيه: «عمي!»
فرفع إليها وجهه المغضن وسألها: «نعم؟»
قالت وهي تداعب شعر لحيته: «إنك تفسدني بالتدليل. لماذا لا تربيني كما ينبغي؟»
فدهش الرجل وقال: «من وضع في رأسك الصغير هذا الكلام؟ حليمة بالطبع.»
قالت: «هي على حق … شف … لي هنا نحو سنة … وقد نسيت ما تعلمته في المدرسة.»
قال: «آه. صحيح … الحق معك … صحيح … هل تريدين أن تتعلمي حقيقة؟»
قالت: «آه.»
قال: «إن شاء الله.»
وخطر للشيخ وهو راقد على سريره في تلك الليلة أن رقية مسكينة، وأنها مستوحشة في هذا البيت الكبير الذي ليس فيه إلا هو وحليمة والخادم الكهل الذي يقضي الحاجات، وأن رغبتها في التعلم من مظاهر إحساسها بالوحشة، وأن الواجب … ولكنا نسبق الحوادث.
وجاءت المعلمة وبدأت الدروس فشغلت بها رقية عن كثير مما ينغص على حليمة، ولكن الشيخ لم يقنع بهذا ولم يَرَ فيه الكفاية، وإن كان لم يَفُته أن حليمة أصبحت أقل شكوى وتذمرًا من رقية. وكانت عادة الشيخ أن يخرج إلى الصلاة في مسجد سيدنا الحسين ثم يشرب الشاي في إحدى المقاهي الكثيرة المشهورة بصنعه هناك، ولا يعود إلا في الضحى فيتناول شيئًا يسيرًا من الطعام ويرتاح قليلًا ثم يعود فيخرج ويمر بإخوانه التجار في دكاكينهم ولا يرجع إلا وقت الغداء، وإذا خرج في العصر فقلما كان يعود إلا بعد صلاة العشاء في «الحسين».
وقال ليلة وهما جالسان إلى الطعام: «أظن يا رقية أنك تستوحشين هنا …»
فقالت: «كيف تقول يا عمي؟»
قال: «الوحدة … ليس لك أنيس من سنك … والبيت واسع كبير كالربع … وليس فيه إلا نحن والعفاريت.»
وسرَّه كلامه فضحك، فقالت: «بسم الله الرحمن الرحيم … قل لي يا عمي … هل في البيت عفاريت؟»
قال وهو يبتسم: «هل تخافين العفاريت؟»
فأجابت بسؤال: «ألا تخاف أنت؟»
قال: «الله هو الحافظ … لقد خطر لي شيء … أريد أن أدفن في بلدي.»
فصاحت به وقد خفق قلبها: «أعوذ بالله! لماذا تقول هذا الكلام؟»
قال: «يا بنتي الموت حق … دعي هذا … قريتنا جميلة … لي فيها أرض ودار لا بأس بها، والحياة هناك أشرح للصدر وآنس للقلب، ناس كثيرون … أهل ومعارف … لا يمل الإنسان … والمناظر جميلة … الحاصل … سنذهب إلى البلدة ونترك هذا البيت الموحش … ما الداعي أن أبقى في مصر؟»
قالت: «أمرك يا عمي.»
قال: «ألا يسرك؟ يمكننا أن نعود إذا لم ترتاحي هناك … الأمر سهل.»
وبعد أيام من هذا الحديث حملها معه إلى البلدة، وترك حليمة والخادم الكهل ليرسلَا أثاث البيت ويلحقا بهما.
ولم يبالغ الشيخ فقد كانت القرية جميلة والدار رحيبة تقوم في وسط بستان ثمر وزهر، ولكن العناية بالزهر كانت ضئيلة فلم يكن هناك إلا بضعة أعواد من الورد، أما الأشجار فكانت كثيرة وكان ثمرها وفيرًا، فطاب المقام لرقية، ووجدت في الحديقة الواسعة ملهى ومرتعًا، وكان فتى من أقرباء الشيخ في السابعة عشرة من عمره هو الذي يتعهد الحديقة، وكان مبيته في الدار أيضًا ولكن في إحدى الغرف التحتية، ولم تكن رقية ترتاح إلى هذا الفتى ولكنه كان قريب الشيخ، وكانت تدرك أنه لا بد للحديقة من رجل يتعهدها، فإذا كان عمها قد آثر أن يَكِل هذا إلى قريب له فهو على حق، والأقربون أولى بالمعروف، وهي أجنبية — ولا ينبغي لها أن تنسى هذا — فليس من حقها أن تكره وتحب، وما شأنها هي على كل حال؟ وإذا كانت لا ترتاح إلى محمود هذا فإن في وسعها أن تتجنبه، وأن تتقي لقاءه بلا عناء، غير أنها — لسبب ما — كان يسخطها عليه ما ترى من بلادته وجموده وبطء حركته، وأن وجهه لا يتطلق قط، وقد سمعت أنه حفظ شيئًا من القرآن، وأنه قضى بمدرسة ابتدائية بضع سنوات، فهو ليس جاهلًا كأكثر الفلاحين … فما له؟ … ما خطبه؟
وكانت ربما لقيته في بعض جولاتها في الحديقة فيضيق صدرها بجهامته ولا تملك إلا أن تصيح به: «يا شيخ إتلحلح شوية»، فينظر إليها ممتعضًا ولا يزيد على أن يقول لها — حين يقول شيئًا: «وإنت مالك؟» ويستأنف ما كان فيه غير عابئ بها أو مكترث لها فكأنها غير موجودة.
وكان الشيخ يلاحظ حبها للحديقة فقال لها يومًا: «لعلك مسرورة.»
فطوَّقته بذراعيها وقبَّلته، فاستغرب الشيخ إحساسه بذراعيها وتنبه إلى أن هزالها قد زال، وأن وجهها قد امتلأ، وأن ذراعيها صارتا بضتين، وأنها — ولم يمضِ عليها عنده إلا عام وبعض عام — قد طالت قامتها وعلا ثدياها على صدرها … بالاختصار أصبحت شابة … لا يمكن أن يخطر لأحد أنها في الثانية عشرة من عمرها فقط …
وقال لها وهو ينحي ذراعيها عن عنقه برفق: «كيف وجدت محمودًا؟»
فعبست وسألته: «هل تحبه؟»
فقال كأنما أراد أن يلخص لها موقفه منه في أوجز عبارة: «أمه بنت خالتي.»
فأدهشته بقولها: «هل تحب بنت خالتك؟»
فقال: «أ… أ… أحبها؟ … آه بالطبع … بنت خالتي … طبعًا.»
قالت: «لا أعني هذا.»
فزاد عجبه منها وأراد أن يغير الموضوع فسألها: «ما رأيك في محمود؟»
فقالت بإيجاز: «بليد …»
فسألها بلهجة المشفق: «هل قلت له هذا؟»
فضحكت وقالت: «لا تخف … هو أيضًا لا يكتمني رأيه في.»
فهز الشيخ رأسه آسفًا وأطرق قليلًا ولكنها ردته إليها بقولها: «قل لي يا عمي … لماذا تسألني عن محمود؟»
فنظر إلى عينيها الواسعتين العميقتين قبل أن يجيب وكأنما رأى أن لا خير في اللف والمغالطة مع هذه الفتاة فقال: «لا شيء … ولكني رجل كبير وأحيانًا أحلم بأشياء … كله بيد الله … قومي هاتي لي الحصيرة للصلاة.»
فجاءته بها فوقف ورفع يديه إلى أذنيه وكانت هي عند الباب فقالت له وهي تهم بالخروج: «اذكر يا عمي أنه هو أيضًا لا يحبني.»
فما استطاع الشيخ أن يتوجه بقلبه في صلاته إلى الله وحده، إلا بجهد.
•••
وخطر للشيخ بعد مدة أن الأولى أن يبعد محمودًا عن الحديقة، وأن يَكِل إليه عملًا آخر في الغيط، فإن البعد رحمة في بعض الأحيان، وأخلق بهما إذا قل لقاؤهما أن يفتر بينهما هذا العداء، ثم من يدري؟ … لعلهما حينئذ يتحولان إلى … ولكن من يدري؟ من يدري؟ … على كل حال هذا خير من قرب يثير بينهما حربًا …
غير أن الأقدار لم تمكنه من إمضاء عزمه، فقد أصابه برد ثقلت وطأته على جسمه المتهدم، فأحس الرجل بدنو الأجل، ودعا إليه رقية، وأدناها منه على سريره وقال: «قلت لك يا رقية إني كنت أحيانًا أحلم بأشياء … وأخشى أن أكون قد أسأت من حيث قدرت أن أحسن، ولست أحب أن ألقى الله بضمير مثقل بهذه التبعة. نعم كان يسرني أن أوفق بينك وبين محمود … هو أيضًا ليس له غيري، ولكني لا أحب أن تشعري أن عليك أن تفعلي شيئًا لا لسبب إلا ظنك أن هذا يرضيني، إن حياتك أمامك فاصنعي بها ما تشائين، كنت أحب أن يطول عمري حتى تكبري، فأتركك مطمئنًّا، ولكنه لا راد لقضاء الله … وقد تركت لك أكثر ما أملك واحتطت فلن ينازعك أحد، وتركت له ما فيه الكفاية، فاحرصي على مرضاة الله ثم مرضاة وجدانك، ولا تجعلي بالك إلى ما تظنين أنه يرضيني … هذا ما أردت أن أقوله لك …»
فلم تستطع أن تقول شيئًا؛ فقد انهمرت دموعها وخنقها البكاء.
وبعد يومين ذهب الشيخ الكريم في سبيل من غبر …
وظهر أنه وقف ماله، فترك لها نصف الأرض ولمحمود النصف الآخر، أما الدار التي في القرية والبيت الكبير في مصر فجعلهما شريكين فيهما بحيث لا يستطيع أحدهما أن يحدث فيهما شيئًا — كائنًا ما كان — إلا باتفاقهما على ذلك، وآثرها على الفتى ببيت صغير آخر تحته دكان، وجعل النظارة لتاجر من أصدقائه، ولكل منهما نصيبه من بعده.
وبعد الأربعين خفت الفتاة والفتى إلى مصر إجابة لدعوة الشيخ سعيد ناظر الوقف، وقد قابل كلًّا منهما على حدة.
قالت الفتاة بعد أن سلمت وجلست: «لست أفهم شرط عمي فيما يتعلق بالبيتين.»
قال: «الأمر سهل … إذا أردت مثلًا أن تسدِّي شباكًا فلا يجوز لك هذا إلا بموافقة محمود، وإذا أراد محمود أن يفتح بابًا أو يبيض جدارًا فلا يكون له هذا إلا بإذنك وموافقتك.»
فقالت: «ولكن لماذا ربطنا على هذا النحو؟ إن الاتفاق بيننا مستحيل.»
فابتسم الشيخ سعيد وقال: «لا حل لهذا الإشكال الذي أورثكما إياه إلا الزواج.»
فصاحت الفتاة مستنكرة: «أتزوج محمود؟ أعوذ بالله … مستحيل.»
قال وهو لا يزال يبتسم: «حل آخر … وطِّني نفسك على التنازل له في المستقبل.»
فقالت: «أتنازل له؟ ولا في المنام.»
قال: «إذن لا حيلة إلا الصبر.»
ودخل عليه محمود بعدها فسأل بعد كلام: «ما العمل في حل هذا الإشكال الفظيع؟»
فقال الرجل: «أحسن حل أن تتزوجها.»
فقال الفتى: «يا ساتر يا رب.»
فقال مقترحًا: «تنازل لها إذن.»
فصاح الفتى: «أتنازل لها هي؟ هذا شيء لا يكون.»
قال: «صبرًا إذن يا بني.»
ومضت الأيام وكرت الأعوام والفتى في بلدته، والفتاة في البيت الكبير بمصر ومعها حليمة والخادم الكهل، والوصي الأمين يرعاها ويحدب عليها ولا يغفل أمر محمود، وكان ذكر محمود لا يرد على لسان الشيخ سعيد إلا في الندرة القليلة، فسألته يومًا: «ما أخبار البلد؟»
فقال: «أنا خائف على محمود.»
فقطبت وقالت: «ما له؟»
قال: «شديد على الناس … أصبح أعداؤه كثيرين.»
فاستزادته مستفسرة، فقال لها: «إن الفلاحين يهملون أحيانًا فيشتد عليهم ويقسو بهم ويعاملهم بالعنف، وقد سرق أحدهم أخيرًا كيسين من القطن فضبطه وضربه حتى كاد يميته … وأمثال هذا يحدث كثيرًا … وهم يخافونه ولكنهم يكرهونه وأخشى أن يتربصوا به.»
فلم تقل شيئًا، ولكنها بعد أسبوع سألت الشيخ سعيدًا: «هل أستطيع أن أزور البلدة؟»
قال: «طبعًا … ما المانع؟»
قالت: «ربما استاء محمود … هو مرتاح من وجودي كل هذا الزمن.»
قال: «ولكنه لا يستطيع أن يعترض على وجودك.»
فقالت: «ليست المسألة مسألة اعتراض.»
قال: «ماذا إذن؟»
فهزت كتفيها وقالت: «لا أدري.»
وسافرت بعد أيام ومعها حليمة التي انقلبت تحبها كأنها بنتها، وكان محمود في الغيط، فلما علم بحضورها خفَّ إليها ورحَّب بها، فاستغربت وقالت له: «لقد صرت ظريفًا.»
فضحك وقال: «لقد كبرنا يا رقية … كنا أطفالًا.»
فقالت ضاحكة: «أحسبنا ما زلنا أطفالًا.»
فقال وهو مطرق: «حملنا الهم قبل الأوان علمنا … الحمد لله على السلامة يا أهلًا وسهلًا.» وتبادلا الأخبار عن البيت الذي في مصر والدار التي في القرية، فقال لها إنه محتاج إلى مخازن وليس هناك مكان يتخذه مخزنًا إلا الجانب القبلي من الدار، يهدم ذلك الجانب كله ويبني من جديد فيصلح به البيت من فوق وتقوم المخازن المطلوبة، فاعترضت على هذا بشدة وقالت إن هذا الجانب فيه الغرفة التي كان ينام فيها عمها، فيجب أن تبقى كما هي، وقالت إن الذي يحتاج إلى عمارة هو بيت مصر … واسع جدًّا بلا ضرورة ولا ينتفع به أحد، فيحسن أن يشطر البيت شطرين واحد يبقى لسكناها، والآخر يؤجر، فاعترض الفتى وقال إن هذا يفسد البيت، فقالت إن الأمر على كل حال للشيخ سعيد وستقنعه بذلك، ومتى اقتنع الشيخ سعيد فإن الأمر يكون له، ولم يستطيعا الاتفاق ولا التفاهم وإن كان الأمر كما قالت للشيخ سعيد فكل خلاف عبث. وقام محمود مغضبًا يائسًا من إمكان الوفاق مع هذه الفتاة العنيدة، وجاء الليل واجتمع محمود في الساحة أمام الدار بالفلاحين يحدثهم في شئون الأرض ويحاسبهم ويتلقى منهم أخبار ما فعلوا في يومهم، وكان لا يزال متأثرًا بخلافه مع رقية، فخرج عن طوره مع أحد الرجال وتفاقم الأمر، فقام محمود وضرب الرجل واجتمع الخلق عليهما وعلت الأصوات، وكانت ليلة مظلمة حالكة السواد ولا ضوء هناك إلا ضوء مصباح غاز في ردهة في الدار، فانطفأ المصباح فجأة فهاج الناس وماجوا، واشتد اللغط، وسمع صوت يقول: «أوع يا أحمد، حاسب»، وارتفع صوت محمود يصيح: «ترفع العصا علي يا كلب يا ابن … أنا أقتلك.»
ولكن الرجال دخلوا بين المتعاركين وردوهما وحملوا محمودًا إلى الدار وأغلقوا وراءه الباب. فصعد إلى فوق ولم يكد يصير إلى مكان فيه نور حتى وقف ينظر إلى يديه مستغربًا.
وكانت رقية واقفة أمامه فسألته: «مالك؟ هل أصابك شيء؟»
قال: «كلا … ولكن هذه السكين؟ كيف صارت في يدي؟ لم يكن معي شيء؟» فابتسمت رقية وقالت: «ألم تضربه بها؟»
فسألها متعجبًا: «أضربه؟ أضرب من؟»
قالت: «الرجل الذي رفع عليك العصى.»
فقال وهو لا يزال يتعجب: «أضربه بالسكين؟»
قالت: «لقد وضعتها في يدك لهذا الغرض.»
فصاح وهو مذهول: «أنت وضعت السكين في يدي؟»
قالت: «بالطبع … من كنت تظنه فعل ذلك غيري؟ لقد نزلت وخفت أن يراني الرجال فأطفأت المصباح، ولما رأيت أن الأمر متفاقم خفت، وكان الشيخ سعيد قد أخبرني أن الفلاحين يكرهونك لأنك شديد عليهم، فجريت وجئت بالسكين وتسللت في الظلام ووضعتها في يدك … لم يرني أحد في الظلام … ظنوني على الأرجح رجلًا منهم.»
فقعد محمود ولم يستطع أن يقول شيئًا وطال صمته، فهزته رقية وسألته: «ما لك؟»
فقال: «ما لي؟ الحمد لله على كل حال … لو كان هناك نور ورأوا السكين؟ نهايته … حصل خير.»
وقالت وهي مضطربة: «هل أخطأتُ؟ قل لي الحق … لقد كنت خائفة عليك.»
فنهض وهو يبتسم وقال: «حصل خير، حصل خير … ربنا ستر.»
ولما أرادت أن تعود إلى القاهرة رافقها إلى المحطة، وهناك تركا حليمة مع الأشياء وراحا يتمشيان في انتظار القطار وقال لها في بعض حديثهما: «حكاية السكين هذه … ماذا أغراك بها؟»
قالت: «كنت خائفة عليك من الفلاحين؟»
قال: «مدهش.»
قالت: «هل كنت تظن أني سأتركهم يقتلونك وأنا أتفرج؟»
قال: «لم أكن أتصور أن تخافي علي … مدهش.»
قالت: «ما هو المدهش؟»
قال: «سأسافر معك … أريد أن أقابل عمي الشيخ سعيد.»
قالت: «من أجل المخازن؟»
قال: «إيه … حاجات كثيرة.»
قالت: «اسمع … مسألة المخازن في محلها … افعل ما تريد.»
قال: «ولكن الأمر بيد الشيخ سعيد.»
قالت: «نعم ولكنه لا يخالفني.»
فأطرق، وبعد برهة سألها بلهجة المتردد: «بيت مصر … هل صحيح أن لك رغبة في قسمته؟»
قالت: «هذه فكرة … بالطبع لا أستطيع الآن.»
قال: «لماذا؟ الشيخ سعيد لا يخالف لك رغبة.»
قالت: «صحيح … ولكن … لا أريد الآن.»
قال: «لأني اعترضت؟»
قالت: «آه.»
قال: «أظن أن رأيك أصوب.»
فصاحت وهي فرحة: «صحيح؟»
قال: «بالطبع … كل ما يرضيك افعليه … وهل لي غيرك؟»
قالت: «ولا أنا.»
فقال: «المرحوم كان حكيمًا.»
فقالت: «عمي … أوه جدًّا.»
قال: «كان غرضه …»
فلم تمهله وقالت مقاطعة: «كان مدهشًا … عرف كيف يحتال علينا بعد وفاته.»
فسألها: «ما قولك في تحقيق رغبته؟»
فأطرقت حياء. فكرر عليها السؤال فقالت: «اسأل عمي الشيخ سعيد.»
•••
ولم تكن سن الزواج لها حد في تلك الأيام، ففرح الشيخ سعيد بتحقيق أمل صديقه.